لأول
مرة منذ ما يزيد على 55 عاما تعقد مجموعتا
الصندوق والبنك الدوليين اجتماعاتهما في
الفترة من 18-24 سبتمبر
2003، في مدينة عربية هي دبي، تلك المدينة التي
أصبحت تحاكي الكثير من مدن الغرب بمبانيها
الشاهقة وأسواقها المتميزة التي تمثل تحفا
معمارية عالمية، وحركتها الدائبة وأضوائها
التي أحالت ليلها نهارا.
لقد
نجحت إمارة دبي في استقطاب رأس المال الأجنبي
من جميع أنحاء العالم، من خلال إعداد بنية
أساسية قوية متقدمة وقوانين تحاكي أكثر
الأسواق والمدن شفافية في العالم، كما نجحت
في استقطاب السياح من جميع أنحاء العالم بحيث
تفوقت على كثير من مدن العالم الشهيرة
بالسياحة.
ويبدو
أن محافظي الصندوق والبنك الدوليين قد قرروا
الاستفادة من هذه المزايا وغيرها، إضافة إلى
الهدوء والاستقرار الأمني الذي لا يجدونه في
الكثير من دول الغرب.. خاصة أن العالم ينظر إلى
هاتين المؤسستين بعين الريبة؛ باعتبارهما من
أهم أجهزة العولمة وأسلحتها، وبالتالي
ترافقت اجتماعاتهما في السنوات الأخيرة
بالكثير من الاحتجاجات والمظاهرات من قبل
مناهضي العولمة.. ولعل المظاهرات التي شهدها
موخرا مؤتمر منظمة التجارة العالمية في
كانكون بالمكسيك خير شاهد على ما نقول؛ حيث
ينظر إلى الصندوق والبنك ومنظمة التجارة
العالمية كأخطر ثالوث عرفته البشرية على مدار
التاريخ.
فهل
كانت هذه التهمة حقيقية بالنسبة للصندوق؟ وما
هي أهم إنجازات الصندوق؟ وما هو المطلوب في
هذه الاجتماعات؟ هذا ما سوف يتم مناقشته
باختصار في السطور التالية.
نشأة
الصندوق
في
عام 1944 اجتمع ممثلو 44 دولة في ضاحية بريتون
وودز بولاية نيوهامبشاير الأمريكية لمناقشة
الأوضاع النقدية بعد الحرب وسبل تسوية
المدفوعات الدولية، وكان من أهم ما تمخض عنه
هذا الاجتماع قيام صندوق النقد الدولي والبنك
الدولي للإنشاء والتعمير.
وقد
صيغت اتفاقية الصندوق بحيث تكون الدول التي
خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية هي
صاحبة الحصص الكبرى والمسيطرة على الصندوق،
وعلى رأسها أمريكا.
وفي
الوقت الحاضر يبلغ عدد الدول الأعضاء في
الصندوق ومن خلال موقعه على الإنترنت www.imf.org
184 دولة، 57 منها دول إسلامية، تشكل تقريبا
الثلث من حيث عدد الدول، وقريبا من الخمس من
حيث عدد السكان. وقد انضمت هذه الدول إلى
الصندوق في فترات متفاوتة، ووقعت على اتفاقية
الصندوق التي تلزم جميع الدول الأعضاء بتقديم
بيانات كاملة عن أوضاعها النقدية، وعدم فرض
قيود على المعاملات والتحويلات الدولية
ومحاولة المحافظة على أسعار صرف ثابتة،
وإصلاح الاختلال في ميزان المدفوعات.
مراقبة
أسعار صرف
إن
النظام النقدي الدولي الذي أوجده صندوق النقد
يتوقف استقراره على الطريقة التي تحدد بها
الولايات المتحدة سياساتها النقدية،
وأحوالها الاقتصادية بالداخل؛ نظرًا للدور
الذي أصبح يلعبه الدولار كنقد عالمي وكعملة
احتياط دولية.
وقد
أدت هيمنة الدولار على نظام النقد الدولي إلى
امتيازات جمة تتمتع بها الولايات المتحدة
وحدها؛ حيث تمكنت من تمويل نفقاتها العسكرية
في الخارج وكذلك عمليات شراء وتكوين
الاستثمارات الأمريكية في دول غرب أوروبا
وغيرها من دول العالم.
وقد
تشدد الصندوق في مراقبة أسعار صرف العملات،
وذلك بعد تطبيق نظام التعويم عام 1973؛ حيث أخذ
يمارس هذه الرقابة عبر مجلسه التنفيذي ولجانه
الفرعية المتخصصة واجتماعاته السنوية
والمفاوضات الثنائية التي يجريها مع حكومات
البلدان المعنية.
لكن
مجيء أسعار الصرف المرنة لم يفلح في إزاحة
الدولار عن موقعه، واستمرت أسعار الصرف
المعومة 10 سنوات (1974-1984) أعقبها اتفاقات بلازا
واللوفر في عامَي 1985 و1987، واستهدفت تحقيق
الاستقرار النقدي بين الكتل النقدية الثلاثة
الكبار: كتلة الين، وكتلة الاتحاد النقدي
الأوروبي، وكتلة الدولار.
وفي
أعقاب الانهيار الجزئي للنظام النقدي
الأوروبي عام 1992 رجعت الدول إلى نظام تعويم
أسعار الصرف، ثم ما لبثت أن تخلت عنه في
الاضطرابات النقدية عامي 1997 و1998، حيث اضطرت
كثير من بلدان آسيا إلى الانفكاك تدريجيا عن
الدولار، ولكن مع إقرار عملة اليورو قد يتغير
الوضع كليا فيما لو تمكنت هذه العملة
الأوروبية من السيطرة على الأسواق.
برامج
الإصلاح
مع
تفاقم أزمة المديونية في الثمانينيات بدأت
الدول والبنوك والمنظمات الدائنة تطالب
بضمانات كبرى، وتفرض شروطا أكثر قسوة على
الدول المدينة، وإسهاما من الصندوق في خدمة
الدول الكبرى وحماية الدائنين تبنى تطبيق ما
يسمى ببرامج الإصلاح الاقتصادي أو التسوية
الهيكلية.
وأخذ
الصندوق يقـوم بدور السلطات المالية
والنقدية داخل كل بلد من أجل ضمان ديون
الدائنين، واستمرار صلاحية الدول للاقتراض
وتنفيذ المشروعات الإنمائية التي يراها
الخبراء الدوليون، ولعل من أبرز ملامح هذه
البرامج ما يلي:
-
خفض النفقات الحكومية
وخاصة على القطاعات الاجتماعية.
-
فرض قيود على السياسة النقدية والموازنة
العامة.
-
السيطرة
على الأجور.
-
فتح السوق المحلية على
السوق العالمية.
-
تشجيع
الاستثمار الأجنبي.
-
خفض العملة الوطنية من
أجل زيادة الصادرات.
-
تحرير القطاع العام والاتجاه نحو الخصخصة.
وقد
طبقت هذه البرامـج في أكثر من 70 بلدا من
البلدان النامية، منها 33 دولة إسـلامية.
أضرار
على الفقراء
أدت
برامج الإصلاح الاقتصادي إلى الإضرار بالدول
التي طبقتها؛ حيث لا تتمكن هذه الدول من سداد
ديونها أو حتى فوائد ديونها، كما تعمل على
الاستخدام الجائر لمواردها الطبيعية؛ فمثلا
تقوم غانا باجتثاث غاباتها من أجل تصدير
الأخشاب وسداد الديون، ويبدو أن الغابات في
هذه الدولة وغيرها من الدول الإفريقية في
طريقها إلى التلاشي؛ وهو ما سيلحق أفدح
الأضرار بالإنسان والبيئة والتنوع الحيوي.
ويقيم
المحلل الاقتصادي د.محمد عمر شابرا تجربة
برامج الصندوق قائلا: "لقد أظهرت التجربة
في بلدان عديدة أن إزالة حالات العجز في
الميزانية واعتماد الأسعار ذات الصلة بالسوق؛
إذا لم تقترن في الوقت نفسه بإستراتيجية
لتعزيز العدالة؛ فإنها تميل لأن تضع عبء
التكيف الرئيسي على الفقراء؛ فالأسعار
المرتفعة لا تحد من طلبات الأغنياء بشكل كبير،
بل هم يواصلون شراء ما يرغبون. أما الفقراء
فيواجهون مزيدا من الضنك، فيتفاقم بذلك الفقر
وعدم المساواة، ويؤدي إلى اضطراب اجتماعي
وإلى عدم الاستقرار السياسي".
لقد
نجح الصندوق في تمكين الدول الصناعية من
استمرارية التفوق والهيمنة، وذلك من خلال
حصولها على النصيب الأكبر من موارد الصندوق..
كما كرس تبعية الدول النامية للدول الغربية،
وكذلك امتصاص الفوائض المالية للدول النفطية
وإعادة تدويرها إلى الدول الصناعية، ثم إعادة
إقراضها إلى الدول النامية بفوائد كبيرة
لتزداد حدة مديونية الدول النامية. كما أنه
قام بإعادة جدولة هذه الديون بمعدلات فائدة
مرتفعة من أجل استمرار صلاحية الدول للاقتراض،
من خلال مفاوضات نادي باريس ونادي لندن
وغيرهما من الأجهزة التي تدور في فلك الصندوق.
ما
هو المطلوب؟
جاء
على موقع الصندوق على الإنترنت أن برنامج
الندوات المصاحبة للاجتماعات هذا العام سوف
يشتمل على طرح رؤى للتوجهات الجديدة
والتحديات القائمة والسياسات الموصى
بتطبيقها.
وتدور
المناقشات في هذا البرنامج حول موضوع "الطريق
إلى الرخاء الإقليمي والعالمي.. التحديات
والفرص"، ومن القضايا المطروحة للنقاش هذا
العام خلق فرص العمل والخصائص الديمغرافية،
ونوع الجنس والتنمية، والتجارة، وموارد
المياه، وتطوير وإصلاح المؤسسات، والعولمة
وأهداف التنمية في الألفية الجديدة،
بالإضافة إلى سلسلة من الندوات الإقليمية.
والمطلوب
من الدول الإسلامية أن يكون لها دور فعال في
هذه الاجتماعات من أجل تحقيق المزيد من
العدالة والكفاءة في إدارة وتوزيع الموارد،
وأن تكون صفا واحدا بحيث تشكل قوة تفاوضية
كبرى في الصندوق؛ فتزيد قوتها التصويتية،
وتشترك في صناعة القرار على المستوى الدولي،
بما يعمل على زيادة العدالة وضمان القيمة
الحقيقية للعملات والأرصدة والاحتياطات،
وكذلك زيادة نصيبها من السيولة الدولية ومن
حقوق السحب الخاصة التي يصدرها الصندوق.
أما
المطلوب من الصندوق فهو أن يتحمل مسئولية
الفشل الذي أصاب الكثير من الدول التي طبقت
برامجه حرفيا، كما ينبغي أن يتحمل مسئولية
دعمه لكثير من الأنظمة الفاسدة في العالم
الثالث، ولا يجوز أن تتحمل الشعوب والأجيال
القادمة مسئولية الديون المتراكمة التي
استفادت منها بعض الحكومات، وقامت بتحويلها
إلى حسابات سرية خاصة في سويسرا وأمريكا
وغيرهما من الدول الغربية.
وينبغي
أن تشكل اللجان القانونية والتشريعية من
متخصصي القانون الدولي من أجل النظر في
إمكانية تقديم الصندوق إلى محاكم دولية جراء
سياساته التي ألحقت أضرارًا بالغة بمعظم
الدول التي طبقت تلك السياسات أو أجبرت على
تطبيقها.
أهم
المراجع:
1-جمال
الطاهر: "صندوق النقد الدولي والبنك الدولي
ودورهما في إفقار الشعوب" مجلة المجتمع،
الكويت، عدد 1169، أكتوبر، 1995 ص 20.
2-بول
هيرست، جراهام طومبسون: ما العولمة، الاقتصاد
العالمي وإمكانات التحكم، ترجمة فالح عبد
الجبار، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 2001،
ص 104-105.
3-
محمد عمر شابرا: الإسلام والتحدي الاقتصادي،
المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، 1996.
محمد
شريف بشير: صندوق النقد الدولي أهدافه
وسياساته (الحالة السودانية) معهد الدراسات
السياسية، إسلام آباد،
1995.