الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء
المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فتختلف
النظم التشريعية والحضارية في نظرتها إلى العقود والحقوق
المالية، سواءً في كيفية انعقادها أو في شروطها وأحكامها
أو آثارها، اختلافاً قد يصل إلى حد التباين.
فمثلاً
كانت بعض القوانين الوضعية تشترط الشكلية في انعقاد
العقود، فلا يصح العقد ولا يعتبر إلا إذا كان بهيئة معينة
وشكل محدد، ثم تطورت إلى الرضائية بعد المرور بمراحل
مختلفة، أما الشريعة الإسلامية فقد جعلت الرضا منذ البداية
هو الأساس في نشأة العقود بأي شكل كانت. يقول تعالى: [ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض
منكم]
(النساء : 29) .. أي بطيبة نفس كل واحد منكم، ويقول
الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن
تراض".
إن
منهجية الإسلام في تقريره لهذه القاعدة -الرضا- أساساً
لصحة نشأة العقود دلالة إعجاز تشريعي واضح، يؤكد أنها
شريعة خالدة صالحة لكل زمان ومكان وفي كل بيئة
ومجتمع.
وقد
مرت العصور السابقة بأنواع مختلفة من أشكال انعقاد العقود
كالبيع عن طريق الراديو والتلفزيون والهاتف والفاكس
والتلكس وغيرها، وها نحن نشهد في السنوات الأخيرة تطوراً
هائلاً في وسائل الاتصال المختلفة، وخاصة التقنيات
الإلكترونية التي دخلت جميع مجالات الحياة بما فيها المجال
التجاري، وظهر مايسمى "بالتسوق الآلي" أو "تجارة الإنترنت"
أو "التجارة الإلكترونية" أو "التعاقد عن بعد". عبر شبكة
الإنترنت التي ربطت العالم بعضه مع بعض وألغت الحدود
الجغرافية والوسائط المالية، وأصبح بإمكان تاجر التجزئة أن
يشتري مباشرة من المنتج، والمستهلك أن يتسوق وهو في
منزله.
وانتشرت
التجارة الإلكترونية في الأعوام الأخيرة، وأُسست الكثير من
الشركات العالمية والمحلية مواقع خاصة بها على شبكة
الإنترنت، وتقدر بعض الدراسات حجم التجارة الإلكترونية
حالياً ب20% من مجمل التجارة العالمية، ويتوقع أن ترتفع
النسبة إلى أكثر من ذلك خلال هذا
العقد.
وعلى
أهمية هذا الموضوع ومسيس الحاجة إليه إلا أننا نجد قلة
الدراسات الفقهية فيه التي تبين أحكامه، وتقترح البديل
المناسب عند عدم صلاحية بعض أعماله لأحكام الشريعة
الإسلامية.
ويأتي
هذا البحث مشاركة من الباحث في بيان أحكام التعاقد بواسطة
الإنترنت، من حيث انعقاد العقد والنظام الذي يجب تطبيقه
فيه، وإثباته عن طريق التوقيع الإلكتروني والحماية
الجنائية للتوقيع الإلكتروني.
وقد
قسمت البحث إلى المباحث التالية: الأول: انعقاد العقود الإلكترونية،
الثاني: النظام الواجب تطبيقه والمحكمة المختصة، الثالث:
إثبات العقود الإلكترونية بالتوقيع الإلكتروني
.
نتائج
البحث وخلاصته
أحمد
الله سبحانه وتعالى الذي يسَّر لي إتمام هذا البحث، وأذكر
في نهايته أهم النتائج التي توصلت إليها وهي ما يلي:
-
أن
الشريعة الإسلامية جعلت الرضا هو الأساس في انعقاد العقود
من دون تحديد لفظ معين أو شكل محدد، مما جعل أحكام الشريعة
تستوعب ما استجد من طرق وأشكال لانعقاد العقود، ومن ذلك
"التعاقد عن طريق
الإلكترونيات".
-
العقود
الإلكترونية هي العقود والتي تتم عبر الوسائل والآلات التي
تعمل عن طريق الإلكترون، ومن آخرها وأهمها التعاقد بطريق
الإنترنت.
-
للتعاقد
بطريق الإنترنت عدة طرق من أهمها وأكثرها انتشاراً التعاقد
عبر شبكة المواقع (web)، والتعاقد عبر البريد الإلكتروني
(Email)، والتعاقد عبر المحادثة والمشاهدة
.
-
العقد
في الشريعة الإسلامية ينعقد بكل ما يدل عليه من قول أو فعل
أو كتابة أو إشارة من كلا العاقدين أو من أحدهما
.
-
الإنترنت
آلة ووسيلة لتوصيل الكتابة، وهذه الوسيلة معتبرة شرعاً
لعدم تضمنها محذوراً شرعياً، ولأنها شبيهة بالتعاقد عن
طريق الرسول أو البريد العادي
.
-
التعاقد
بطريق الإنترنت يعد -من حيث الأصل- تعاقداً بين حاضرين من
حيث الزمان وغائبين من حيث المكان، إلا إذا وجدت فترة
زمنية طويلة نسبياً تفصل بين الإيجاب والقبول فإن التعاقد
يكون بين غائبين زماناً
ومكاناً.
-
بناءً
على قول الحنفية في أن الإيجاب ما صدر أولاً والقبول ما
صدر ثانياً فإن الإعلان عن السلعة أو الخدمة في شبكة
المواقع (web) يعد إيجاباً من العارض إلا في بعض
الحالات التي تكون فيها شخصية المتعاقد الآخر محل اعتبار
عند من صدر منه العرض، فالإعلان في هذه الحالة وأمثالها
يعد دعوة للتعاقد وليس إيجاباً، وقريباً من ذلك إذا كان
العرض عبر البريد الإلكتروني أو المحادثة
والمشاهدة.
-
يشترط
في صيغة العقد (الإيجاب والقبول) أن يكونا واضحين ودالين
على إرادة التعاقد، وأن يكون القبول موافقاً للإيجاب
ومتصلاً به، وهذه الشروط يلزم تحقيقها في التعاقد بطريق
الإنترنت حتى يكون صحيحاً
ومعتبراً.
-
يبدأ
مجلس العقد في التعاقد بطريقة الإنترنت من بداية دخول
الراغب في التعاقد إلى موقع الشركة العارضة عبر شبكة
المواقع (web) ويستمر حتى خروجه من الموقع.
-
وفي
التعاقد عبر البريد الإلكتروني المباشر يبتدئ المجلس من
صدور الإيجاب ويستمر حتى خروجه من الموقع. وكذا في التعاقد
عبر المحادثة والمشاهدة.
-
أما
في التعاقد عبر البريد الإلكتروني الذي لم يتم مباشرة، فإن
المجلس يبتدئ من اطِّلاع القابل على المعروض ويستمر حتى
نهاية المدة إن وجدت، وإلا رُجع في ذلك إلى الأعراف
التجارية.
-
العقود
المالية تصح بطريق الإنترنت حتى عقد الصرف والسلم وذلك
لإمكان السداد مباشرة، أما عقد النكاح، فنظراً لمكانته
الخاصة ولوجود عنصر الشكلية فيه ولما يترتب على القول
بصحته عبر الإنترنت من مفاسد، فإنه لا يصح إجراؤه بطريق
الإنترنت.
-
إذا
اتفق المتعاقدان على تحديد قانون معين يحكم العقد فإن
الاتفاق صحيح، ويعمل به شريطة أن يكون هذا القانون مستمداً
من الشريعة الإسلامية، لا فرق في ذلك بين أن يكون أطراف
التعاقد جميعهم مسلمين أو بعضهم مسلم والآخر غير مسلم، فإن
لم يكن القانون مستمداً من الشريعة فإن الاتفاق باطل ولا
يعمل به .
-
من
الحلول المقترحة عن تحكيم القوانين الوضعية المخالفة
للشريعة الإسلامية اعتماد نص صريح في العقد بتحكيم الشريعة
الإسلامية والإلحاح في طلب ذلك، وكذلك الدعوة إلى إيجاد
مؤسسات تحكيم شرعية عالمية لها مواقع ثابتة في شبكة
المواقع (web) تتميز بالنظام الواضح ووجود هيئة رقابة
شرعية وتأهيل أعضائها التأهيل الشرعي المناسب
.
-
اختلف
العلماء -رحمهم الله- في المحكمة المختصة (القاضي المختص)
بالنظر في النزاع عند الاختلاف المكاني بين الخصوم ومحل
الدعوى، ولعل من المناسب في التعاقد بطريق الإنترنت العمل
بما ذهب إليه جمهور العلماء، من أن القاضي المختص هو قاضي
المدعِي، لأنه - في الغالب - هو المستهلك وهو الطرف الأضعف
في العقد فكان من المناسب حمايته، مع مراعاة ما اتفق عليه
أطراف التعاقد ومحل التنفيذ حسب ما يراه القاضي المختص،
إلا إذا كان محل الدعوى عقاراً فإن المحكمة المختصة محكمة
محل العقار، وفي جميع الحالات يجب التقيد بقاعدة الشرعية
.
-
ظهر
للباحث صحة استخدام التوقيع الإلكتروني (وخاصةً الرقمي
منه) لإثبات العقود الإلكترونية في الفقه الإسلامي، وأن
هذا متفق مع مبادئ الإثبات في الشريعة، إذ إنها غير محصورة
بعدد معين أو بشكل محدد وإنما تشمل كل وسيلة يبين فيها
الحق وتوصل إلى العدل .
-
نظراً
لأهمية التوقيع الإلكتروني، ولما يترتب على الاعتداء عليه
من مخاطر على المجني عليه والتجارة الإلكترونية، فإن الذي
يظهر للباحث أن وضع الحماية الجنائية للتوقيع الإلكتروني
يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ الأموال والحقوق
الخاصة وحرمة الاعتداء عليها، وهذا داخل ضمن التعازير
الموكولة في تحديدها وتقديرها إلى ولي أمر المسلمين، ليرى
العقوبة المناسبة لكل جريمة حسب نوعها وآثارها، مع مرعاة
المكان والزمان الذي يعيش
به.
والحمد
لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا
محمد ؛؛؛؛