بقلم : أمل خيري
أسهم الاستعمار في دخول الدول الإسلامية نفق التخلف ومازالت ذيوله تعمل على استمرار التخلف من خلال السيطرة على خطط التنمية ومبادرات الإصلاح لذا باءت أغلب محاولات التحديث بالفشل من قبل الدول التي حاولت استيراد الخطط والبرامج من الدول الغربية مما زادها فقرا وتخلفا.
وتعد التنمية بالمفهوم الإسلامي عملية حضارية تشمل مختلف أوجه النشاط في المجتمع حيث أن التخلف في المجال الاقتصادي المادي هو ثمرة لتخلف سياسي، وثقافي، واجتماعي وفي إطار العملية التنموية، وتحقيق التكافل الاجتماعي، لا شك أن القيم في الكتاب والسنة، قد وضعت الأسس الكاملة للتكافل الاجتماعي مثل الأخوة والرحمة والإيثار والعفو والعدل والإحسان والتقوى بما يضمن تحقيق التنمية الشاملة .
لذا فإن كتاب ” إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق ” للدكتور يوسف إبراهيم يوسف والصادر في إطار سلسلة ” كتاب الأمة” يعد نقلة نوعية مقترحة للمؤسسات الإسلامية من خلال إعادة إحياء مفهوم فروض الكفاية باعتبارها واجبات اجتماعية تكافلية تحقق الاكتفاء الذاتي للأمة.
مأزق تمويل التنمية
كان ولا يزال تمويل التنمية هو المحدد الأساسي لجهود التنمية، ونظرا لمبالغة بعض الدول في الاعتماد على التمويل الخارجي فإن الكثير منها وقع في مشكلة الديون الخارجية لذا كان لزاما على هذه البلاد أن تهتم بتمويل التنمية داخلياً أي زيادة المدخرات الوطنية، وتوجيهها لتمويل المشروعات الإنمائية المطلوبة ويعد إنفاق العفو أحد هذه المصادر للتمويل الذاتي الداخلي.
ويتفق المفسرون على أن المقصود من “العفو” الوارد في قوله تعالى: “يسألونك ماذا ينفقون قل: العفو ” أنه هو ” الفضل والزيادة عن الحاجات، وأنه كله محل للإنفاق” كما يؤكد المعنى أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : “من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له”.
مجالات العفو
ولا تقتصر مجالات إنفاق العفو في الإسلام على إنفاق المال بل تتعدد هذه المجالات والتي يمكن إجمالها في:
1- العفو من الجهد البشري:
المسلم مكلف بأن يبذل من فائض جهده، ومنافع بدنه، في إعانة إخوانه، وإصلاح مجتمعه، كما يجب عليه أن يبذل في هذا السبيل جانباً من فائض ماله سواء بسواء فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع في الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ”
لذا فإن المسلم طالما أنه يملك الطاقة والجهد الفائضين عن أداء الأعمال الخاصة فهو مكلف بالبحث عن ميدان نافع ينفق فيه جهده ووقته. هذا الميدان قد يكون :
§ إعانة مادية للناس: “تعين صانعاً أو تصنع لأخرق”، “تعين الرجل في دابته “.
§ تيسير الحياة العامة للناس؛ “تميط الأذى عن الطريق صدقة ” ،”عَزل حجراً عن طريق الناس، أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس”.
§ السعي مع إخوانه في قضاء حوائجهم أو دفاعا عن حقوقهم “من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته “، “أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر “.
§ إصلاح ذات البين: “تعدل بين الاثنين صدقة “، أي تصلح بينهما بالعدل.
وقد يتمثل إنفاق العفو من الجهد البشري في عمل اقتصادي، يعود بنفع مادي، كما يعود على المجتمع بسد حاجة من حاجاته، وفي الوقت نفسه، يعود على الشخص بالثواب الأخروي يقول النبي صلى الله عليه وسلم : “ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزأه أحد إلا كان له صدقة “.
2- العفو من المال العيني:
ويتمثل في أدوات الإنتاج التي يستخدمها الشخص في العملية الإنتاجية، كما يتمثل في الأدوات التي يستخدمها الإنسان في حياته اليومية مثل السلع الاستهلاكية المعمرة، ودواب الركوب، ومنزل السكني حيث يمكن تمويل جانب من النشاط الاقتصادي الذي يمارسه الأفراد بهذا النوع من “العفو” وهذا ما سلكته الشريعة الإسلامية فقال سبحانه وتعالى: ((أرأيت الذي يُكذّب بالدِّين، فذلك الذي يدعُّ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المِسكين فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يُراءون ويمنعون الماعون )) .
ومنع الماعون يعني عدم تقديم أدوات الإنتاج، وأدوات الاستخدام الحياتية – عند عدم شغلها بحاجة صاحبها – إلى من هو في حاجة إليها. فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الماعون ما يتعاطاه الناس بينهم. وروي عنه أيضاً: أنه القدر، والفأس، والدلو، ونحوها.
كما قرر صلوات الله وسلامه عليه، أن أفضل الصدقات يتمثل في تقديم منافع الأدوات، وعوامل الإنتاج فقال: “أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله، ومنيحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل في سبيل الله”.
وحديثا برزت بعض أشكال من العفو العيني مثل:
§ أداة قديمة استبدل بها مالكها أداة جديدة، لكنها لما تزل على قدر من الصلاحية كالسلع المعمرة مثل السيارات والثلاجات، والغسالات، والثياب، وبخاصة ثياب المناسبات، وآلات الطباعة والنسخ، وأثاث المنازل والمكاتب، وأجهزة التلفاز، وكتب العلم، وأدوات الحرف المختلفة.
§ غرفة بالمنزل تفيض عن حاجة الأسرة فترة من الزمن، ويمكن تقديمها لمن تسد لديه حاجة من طلبة العلم وطالباته.
§ كذلك قد يتمثل “العفو” اليوم في مكان فائض، بسيارة الشخص، يمكن تقديمه لمن هو في حاجة إليه، من زملاء العمل، أو سكان الحي.
§ قطعة أرض لا يحتاج إليها مالكها يقدمها لمن يحتاج إليها، ليقوم بزراعتها، ويبذل جهده عليها.
3 – العفو مِنَ المال النقدي:
النقود تختلف عن غيرها من الأموال في أنها لا تشبع الحاجات بذاتها، وإنما تمثل الوسيلة إلى إشباع الحاجات بالحصول على الطيّبات ولنذهب إلى القرآن الكريم لنرى موقفه من النقد الفائض عن شراء الحاجات الاستهلاكية، والحاجات الإنتاجية، يقول الله تعالى: ((والذين يكنزون الذَّهب والفضّة ولا يُنفقونها في سبيل الله، فبشِّرهم بعذاب أليم، يوم يُحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون )) [التوبة:34،35].
والقاعدة العامة في الإسلام أن المال النقدي لا يسمح بحجبه عن الحقوق المقررة فيه، فإن حدث ذلك اعتبرت النقود كنزاً، وحتى لا يقع المسلم تحت الوعيد الوارد في الكنز، فعليه أن يقوم بكل الحقوق الواجبة في المال من زكاة واستثمارات، وشتى فروض الكفاية الواجبة على الكافة، بنظامها المعروف في الإسلام وقد نصح النبي صلى الله عليه وسلم من لديه مال يفيض عن كفايته أن يبذله في وجوه النفع، مبيناً أن إمساك هذا الفائض شر، وإنفاقه خير، ولا شك أن المسلم مأمور بفعل الخير، منهي عن فعل الشر، لقد قال صلوات الله وسلامه عليه: ” يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى”.
وتختلف طريقة تقديمه من حالة لأخرى فقد تكون في صورة قرض غير ربوي أو هبة أو صدقة أو مساهمة في مشروعات عامة أو لبناء مشروع استثماري بشكل مستقل، أو بالاشتراك مع الآخرين بصورة من صور المشاركة.
توجيه العفو
ويضطلع عدد كبير من المؤسسات في توجيه العفو فالدولة عليها فتح باب الاستثمار أمام هذا العفو بتيسير الإجراءات أمام الاستثمارات والمشروعات الصغيرة والمساهمة في تمويلها ، والبنوك الإسلامية أيضا عليها أن تقف كوسيط بين فوائض الأفراد وتوجيهها لتمويل المشروعات وتنمينها وفق الشرع كما تتعدد المؤسسات الاجتماعية، التي يمكنها أن تقوم بدور فعال في توجيه “العفو” ، من الجهود البشرية، إلى حيث تتحقق به مصالح المجتمع، وقد تتكون هذه المؤسسات من أجل تحقيق هذا الهدف، كما قد تكون ذات أهداف أخرى، تكونت من أجلها، وتتخذ من تجميع العفو، وتوجيهه، أداة لتحقيق أهدافها ومن هذه المؤسسات النقابات المهنية والاتحادات الطلابية والأحزاب السياسية ولجان حقوق الإنسان والجمعيات الخيرية بما يخدم تمويل التنمية الشاملة في الدول الإسلامية.
المصدر:
الدكتور/ يوسف إبراهيم يوسف ، إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق ، سلسلة كتب الأمة ، الكتاب السادس والثلاثون ، مركز البحوث والمعلومات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر.
أحدث التعليقات