مقال: التمويل الإسلامي في ماليزيا.. جذور إسلامية ورؤية عالمية

خولة فريز النوباني
بعد أن تجاوز احتفالاته بمناسبة مرور خمسين عاما على تأسيسه, وبقراءة متفحصة له من الداخل, نجد أن البنك المركزي الماليزي قد ساهم مساهمة فاعلة ولافتة في صناعة الصيرفة الإسلامية والتأمين, وقدم خدمات تُشكل قيمة مضافة لصناعة المعاملات المالية الإسلامية ككل.
كيف عمل البنك المركزي الماليزي لتطوير صناعة المال الإسلامية؟ وما الفرق بينه وبين الخطوات الريادية التي قامت بها بنوك مركزية أخرى في منطقتنا العربية؟
للإجابة عن ذلك سنقصر نظرتنا على سياسات البنك المركزي الماليزي باتجاه صناعة المال الإسلامية, فهو الذراع الرئيسية المحركة لعملية التطوير, وتقوده امرأة ذات بصيرة وحدس قويين باتجاه الصناعة واحتياجات التطوير العاجلة والآجلة بخطط مدروسة .
في خطاب لمحافظة البنك المركزي الماليزي الدكتورة زيتي أختر عزيز في روما في مؤتمر عن التمويل الإسلامي من وجهة نظر البنوك المركزية, ركزت على ثلاثة محاور لدعم البنوك المركزية للمصرفية الإسلامية في ظل التحديات والظروف المستجدة, التي تعنى باستقرار الأنظمة المالية في ظل مخاطر متعددة، وكذلك التوجهات العالمية لفهم واحتضان المفهوم المالي الإسلامي, التي أصبحت المنحى المستجد لمسار العمل المالي الإسلامي، وعلى ذلك ركز المحور الأول للخطاب على النظام المالي الإسلامي, ومصادر هذا الاستقرار الملازمة, التي تعتمد على الأطر التنظيمية والرقابية للتعامل مع خصوصية المخاطر وخصوصية المرحلة، أما الجانب الثاني فقد ركز على دور المصارف المركزية في تطوير البنية التحتية للمالية الإسلامية, بما في ذلك الهيكل الدولي للمالية الإسلامية. أما المحور الثالث فقد تعلق بالتدويل المتزايد للتمويل الإسلامي والقدرة على زيادة الروابط ومراقبة الحدود والتنسيق بين الدول لضمان الاستقرار المالي.
إن النظام الاقتصادي الماليزي قائم على دعم النظام المالي التقليدي إضافة إلى النظام المالي الإسلامي, ويحاول التزام الحيادية في ذلك من حيث الأنظمة والتشريعات والضرائب, إلا أن تسارع خطواته في دعم النظام المالي الإسلامي بالتركيز على ثلاثة جوانب وهي: المصرفية الإسلامية, وسوق التكافل والصكوك, وسوق رأس المال, إضافة إلى اهتمامه العملي بمواجهة التحديات التي تواجهها صناعة المال الإسلامية, يجعل القارئ لمسيرة ماليزيا الاقتصادية ملتفتا إلى قناعاته وفهمه الواضح لما تقدمه مبادئ الشريعة من ضمانات واضحة باتجاه السلامة والاستقرار للنظام المالي في حال تم الالتزام الحقيقي بمبادئها القائمة على المشاركة بين التدفقات المالية والإنتاجية، وكذلك تقليل المخاطر من خلال قيامه على الاستثمار لأصول حقيقية.
ما تعمل ماليزيا حاليا على تطويره جاهدة هو تطوير بنية تحتية شاملة للتعامل مع التحديات القادمة من خلال شبكة الأمان المرتبطة بالمقرض الأخير, ونظام التأمين على الودائع.
إن البعد الخليجي الذي تعتمد عليه ماليزيا يتم في الغالب من خلال مجلس الخدمات المالية الإسلامية, الذي غالبا ما يتم التعاون بينه وبين بنك التنمية في جدة لتوفير قاعدة عريضة من المستشارين والخبراء الدوليين, من أجل الوصول إلى غايات ترتبط بسياسات وتطلعات البنك المركزي الماليزي كما حدث في عام 2008, وذلك في مجال استكمال اختبار ما تحتاج إليه صناعة المال الإسلامية من أجل ضمان استقرارها المالي.
إضافة إلى الاهتمام النوعي الذي أولاه البنك المركزي الماليزي لتوفير رأس المال البشري المؤهل من خلال المركز الدولي لتعليم التمويل الإسلامي (INCEIF), وذلك لضمان تحقيق تنمية مستدامة من خلال توفير رأس مال بشري مؤهل, إذ يضم بين جدرانه أو بالتعليم عن بعد تشكيلة طلابية مما يقارب 60 دولة حول العالم.
أما من حيث صناعة الصكوك, التي سنفرد لها مقالا خاصا لاحقا, فإن ماليزيا تعد من الدول الحاضنة الرئيسية للإصدار, وقد ذللت التشريعات بما يخدم هذا الحجم من الإصدارات المتصدرة لسوق الصكوك العالمية, إذ في عام 2007 حررت ماليزيا سوق الصكوك للسماح بالاستثمار لجميع الشركات المؤهلة من مختلف أنحاء العالم وفي أي نوع من العملات, إضافة إلى اهتمامها بأن تكون مركز تجميع السيولة عالميا, لتجنيب هذه الصناعة أي هزات ناتجة عن ضعف التسييل في الوقت المناسب, وذلك من خلال تصريحات عدة بأنها ترغب في أن يستبدل العرب المسلمون الأثرياء بالاستثمار في الدول الأجنبية الاستثمار في أسواقها الإسلامية، وقد سمعناها لأكثر من مرة علانية أو بين دهاليز المؤتمرات الدولية أن ماليزيا لا تريد أكثر من سيولة الخليج لتستطيع دعم اقتصادها الوطني ولتضمن السير بمؤشرات الصناعة إلى معايير دولية.
ولا ننسى قدرة هذه الدولة على التعامل مع مختلف متعلقات صناعة المال الإسلامية, ومنها الركيزة الأهم وهي ركيزة الهيئات الشرعية, إذ سنت القوانين بما يسمح بوجود هيئة شرعية عليا تتبع للبنك المركزي الماليزي, إضافة إلى أن عضو الهيئة الشرعية للبنوك المحلية لا يجوز له أن يجلس على مجلس شرعي لبنك آخر, وبالتالي فاحتمالية تعارض المصالح أو التعرض للشفافية تبقى في حدودها الدنيا، إضافة إلى سعيها من خلال مجلس الخدمات المالية الإسلامية لتوحيد المعايير بهذا الخصوص, وللخروج بشكل مقبول دوليا تستطيع من خلاله مخاطبة العالم بثقة، وقد أسس البنك المركزي الماليزي ذراعا بحثية متخصصة وهي الأكاديمية العالمية للبحوث الشرعية (ISRA).
من ذلك نستطيع القول إن البنك المركزي الماليزي, من خلال القوة السياسة الداعمة في الدولة الماليزية, يعمل على التصدر لأن يكون حلقة الوصل بين الشرق والغرب للمالية الإسلامية, بخطوات مدروسة وبطريقة عملية ومهنية تضمن لهذه الصناعة الفتية رفدا على المستويين القريب والبعيد وبدراسات أكثر واقعية ومنطقية, تعتمد على تحليلات إحصائية إقليمية وعالمية لرفد الصناعة بكل ما تحتاج إليه من دعم سواء على الصعيد التنظيمي والتشريعي أو على صعيد القوى العاملة المدربة بنظرة إسلامية الجذور عالمية الرؤية.