1) نظرية القيمة وفائض القيمة
إن مكتسبات الحضارة هي، في التحليل الأخير، رهن بتزايد إنتاجية العمل. فما دام إنتاج فئة من الناس يكفي بالكاد لاستمرار حياة المنتجين، وما دام ليس ثمة فائض يفوق هذا الناتج الضروري، فليس ثمة إمكان لتقسيم العمل، أي لظهور الحرفيين والفنانين أو العلماء. ومن باب أولى، فليس ثمة إمكان لنمو تقنيات تتطلب مثل هذا التخصص.
1- فائض الناتج الاجتماعي
وما دامت إنتاجية العمل بهذه الدرجة من الانخفاض بحيث لا يكفي ناتج عمل الإنسان إلاّ لاستمراره في الحياة، لا يبقى ثمة مجال للتقسيم الاجتماعي، ولا لوجود التمايز داخل المجتمع. فالناس جميعا منتجون، وهم جميعا في سوية واحدة من الإملاق.
إن أي نمو في إنتاجية العمل يفوق هذا المستوى الأدنى يخلق إمكانية ظهور فائض صغير، وما أن يوجد فائض من المنتجات، وما أن ينتج ذراعان أكثر مما يتطلبه استمرار وجود صاحبها، حتى يمكن أن يظهر إمكان الصراع من أجل توزيع هذا الفائض.
وبدءا من هذه اللحظة لا يعود مجموع العمل في الجماعة عملا موجها بالضرورة وحصرا لضمان استمرار المنتجين. إن جزءا من هذا العمل يمكن أن يوجه إلى تحرير جزء آخر من المجتمع من ضرورة العمل ليحافظ على استمراره.
وعندما يتحقق هذا الإمكان يمكن لجزء من المجتمع أن يكوّن طبقة مسيطرة، تتصف بأنها متحررة من ضرورة العمل لتحافظ على استمرارها.
ومنذ ذلك الحين يمكن رد عمل المنتجين إلى جزئين، جزء من هذا العمل يتم كالسابق ليحافظ المنتجون على استمرارهم، ونطلق عليه العمل الضروري، ويستخدم الجزء الآخر من العمل لتأمين استمرار الطبقة الحاكمة، فنسميه فائض العمل.
لنأخذ مثلا جليا واضحا، وهو الرق في المزارع، سواء في بعض المناطق وبعض العصور في الإمبراطورية الرومانية، أم في المزارع الكبيرة، اعتبارا من القرن السابع عشر، في جزر الهند الغربية أو في الجزر البرتغالية الإفريقية. وبوجه الإجمال، فإن المالك، في جميع المناطق الاستوائية، لا يقدم حتى الغذاء للرقيق، فعلى هذا الأخير أن ينتج غذاءه بنفسه، يوم الأحد، بالعمل في قطعة صغيرة من الأرض، تخصص منتجاتها لتغذيته. ويعمل الرقيق ستة أيام في الأسبوع في المزرعة، وهذا عمل لا ترتد ثماره إليه، عملا يخلق فائض إنتاج اجتماعي، يتخلى عنه الرقيق بمجرد تكونه، ويستأثر به حصرا سادة الرقيق.
إن أسبوع العمل، وهو في هذه الحالة من سبعة أيام، ينقسم إذن إلى جزئين: عمل يوم واحد، يوم الأحد، هو عمل ضروري، عمل ينتج الرقيق أثناءه المنتجات التي يستلزمها استمرار بقائه، ليبقى حيا هو وعائلته، وعمل خلال ستة أيام في الأسبوع، هو فائض عمل، عمل ترتد ثماره حصرا إلى السادة، ويستخدم لإعالة السادة وتأمين استمرار بقائهم، ولاغنائهم أيضا.
ومثل آخر، نستمده من الملكيات والاقطاعات الكبيرة في مطلع القرون الوسطى. إن أراضي هذه الاقطاعات كانت تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: فهناك الأراضي المشاعة، أي الأراضي التي بقيت ملكيتها جماعية، كالغابات والمروج والمستنقعات وسواها. وهناك الأراضي التي يعمل فيها القن لإعالة أسرته وذاته. وهناك أخيرا الأرض التي يعمل فيها القن لإعالة السيد الإقطاعي. ويتكون أسبوع العمل في هذه الحالة من ستة أيام لا سبعة، ينقسم إلى جزئين متساويين: فيعمل القن ثلاثة أيام في الأسبوع في الأرض التي يمتلك ثمارها، ويعمل ثلاثة أيام في الأسبوع في أرض السيد الإقطاعي، بدون أي مقابل، أي أنه يقدم عملا مجانيا للطبقة المسيطرة.
وفي وسعنا أن ندل على ناتج كل من نوعي العمل هذين الشديدي التباين باصطلاحين مختلفين. إن المنتج عندما يقوم بالعمل الضروري، إنما ينتج الناتج الضروري، وعندما يقوم بفائض عمل إنما ينتج فائض إنتاج اجتماعي.
ففائض الناتج الاجتماعي هو إذن جزء من الناتج الاجتماعي، تستحوذ عليه الطبقة المسيطرة، رغم كونه نتاج طبقة المنتجين، بأي شكل كان، سواء بشكل محاصيل طبيعية، أو بشكل سلع معدة للبيع، أو بشكل مال.
إذن، ففائض القيمة ليس إلاّ الشكل النقدي لفائض الناتج الاجتماعي. وعندما تتملك الطبقة المسيطرة جزءا من إنتاج المجتمع، أطلقنا عليه من قبل اسم “فائض الناتج”، بشكل مال حصرا، فإن الحديث لا ينصرف آنذاك إلى فائض الناتج، بل يطلق على هذا الجزء “فائض القيمة”.
ليس هذا في الواقع إلاّ تعريفا أوليا لفائض القيمة سنعود إليه فيما بعد.
ما هو أصل فائض الناتج الاجتماعي؟ إن فائض الناتج الاجتماعي يبدوا كحصيلة لتملك الطبقة المسيطرة جزءا من إنتاج الطبقة المنتجة مجانا – فهو إذن تملك دون أي مقابل في القيمة. إن الرقيق حين يعمل يومين في الأسبوع في مزرعة سادته، ويحتكر هذا المالك كل حصيلة هذا العمل دون أن يكون ثمة أية مكافئة مقابل ذلك، فإن أصل فائض الناتج الاجتماعي إنما يكون العمل المجاني، أي العمل بدون مقابل، الذي يقدمه الرقيق لمالكيه. وحين يعمل القن ثلاثة أيام في الأسبوع في أرض السيد، فإن أصل هذا الدخل، فائض الناتج الاجتماعي هذا، إنما يكون أيضا عملا بدون أجر، عملا مجانيا يقدمه القن.
وسنرى فيما بعد أن أصل فائض القيمة الرأسمالي، أي دخل الطبقة البرجوازية في المجتمع الرأسمالي، هو من المنشأ ذاته تماما: إنه العمل غير المكافأ، العمل المجاني، العمل الذي يقدمه الكادح، المأجور، إلى الرأسمالي دون مقابل.
2- السلع، قيمة الاستعمال وقيمة التبادل
هذه التعريفات الأساسية التي أوردناها هي أدوات سنستخدمها في الدروس الثلاثة التي تتكون منها مجموعة هذه المحاضرات.
إن كل ثمرة العمل البشري ينبغي أن تقترن عادة بمنفعة، أي أن تكون قادرة على إشباع حاجة بشرية. ويمكن القول إذن إن لكل ثمرة من ثمار العمل الإنساني قيمة استعمال. على أن اصطلاح “قيمة الاستعمال” سيستخدم بمدلولين مختلفين. فنتحدث عن قيمة استعمال سلعة ما، كما سنتحدث عن قيم استعمال، فنقول إن في هذا المجتمع أو ذاك لا تنتج إلاّ قيم استعمال، أي منتجات معدة للاستهلاك المباشر من قبل الذين يتملكونها (من منتجين أو طبقة حاكمة).
بيد أن ثمرة العمل البشري يمكن أن يكون لها، فضلا عن قيمة الاستعمال هذه، قيمة أخرى، قيمة تبادل، إذ يمكن أن تُنتج لا بقصد الاستهلاك الفوري من قبل المنتجين أو الطبقات المالكة، بل بقصد التبادل في السوق، بقصد البيع. ولا تكوّن كتلة المنتجات المعدة للبيع إنتاجا له قيم استعمال وحسب، بل إنتاجا لسلع.
فالسلعة هي إذن ناتج لم يخلق بهدف استهلاكه مباشرة، بل ،هدف تبادله في السوق. وكل سلعة ينبغي بالتالي أن يكون لها قيمة استعمال وقيمة تبادل في آن واحد.
يبقى أن يكون لها قيمة استعمال، إذ لو لم يتوافر لها ذلك، لما وجد شخص يشتريها، إذ لا تشترى سلعة إلاّ بقصد استهلاكها في النهاية، بقصد إشباع حاجة ما عن طريق هذا الشراء. وإذا وجدت سلعة ما ليس لها قيمة استعمال بالنسبة لأي شخص كان فمعنى ذلك أنها غير قابلة للبيع. لقد أنتجت عبثا، وليس لها قيمة في التبادل بالذات لأنها غير ذات قيمة في الاستعمال. …. وبالمقابل، ليس لكل سلعة، ذات قيمة استعمال، قيمة في التبادل. وهي لا تملك قيمة في التبادل أصلا إلاّ بقدر ما تكون منتجة في مجتمع يقوم على التبادل، في مجتمع يمارس التبادل عموما.
هل توجد مجتمعات ليس للمنتجات فيها قيمة تبادل؟ إن قيمة التبادل تقوم، كما تقوم من باب أولى التجارة والسوق، على توافر مستوى معين من تقسيم العمل. ولكي لا تستهلك المنتجات فورا من قبل منتجيها، ينبغي ألاّ ينتج كل الناس الشيء ذاته. ومن الجلي الواضح أنه لا مبرر لظهور التبادل في جماعة معينة لا وجود لتقسيم العمل فيها، أو أن تقسيم العمل فيها بدائي تماما. وفي الأحوال العادية فإن منتج القمح لا يجد ما يبادله مع منتج آخر للقمح، ولكن ما أن يوجد تقسيم العمل، ما أن يوجد اتصال بين فئات اجتماعية تنتج منتجات ذات قيم استعمال مختلفة، حتى يمكن التبادل أن يقوم بصورة عرضية أولا، ويمكن من ثم أن يعمّ. عند ذلك تبدأ في الظهور، شيئا فشيئا، إلى جانب المنتجات المعدة للإستهلاك فقط، منتجات أخرى تنتج بقصد تبادلها، أي سلع.
وفي المجتمع الرأسمالي، بلغ الإنتاج التجاري، أي إنتاج قيم التبادل، ذروة انتشاره. إنه أول مجتمع في تاريخ البشر يتكون الجزء الأكبر من إنتاجه من سلع. ولو أنه لا يمكن القول إن كل الإنتاج في هذا المجتمع هو إنتاج سلع. إذ ثمة فئتان من المنتجات ما تزالان موجودتان فيه ولهما قيمة استعمال وحسب.
أولهما كل ما ينتجه الفلاحون من أجل استهلاكهم الذاتي، كل ما يستهلك مباشرة في المزارع التي تنتج هذه المنتجات. وهذا الإنتاج بقصد الاستهلاك الذاتي موجود حتى في أكثر البلاد الرأسمالية تقدما كالولايات المتحدة، بيد أنه لا يكوّن إلاّ جزءا صغيرا من مجموع الإنتاج الزراعي. وبصورة عامة، بقدر ما تكون الزراعة في بلد ما متأخرة بقدر ما يكون أكبر جزء من الإنتاج الزراعي هو الجزء المعد للاستهلاك الذاتي، مما يثير صعوبات كبيرة عند حساب الدخل القومي لهذه البلاد بدقة.
والفئة الثانية من المنتجات التي ما تزال ذات قيمة استعمال وحسب، وليست سلعة في النظام الرأسمالي، هي كل ما ينتج داخل المنازل. وهذا الإنتاج المنزلي كله، رغم ما يقتضيه من إنفاق كبير في عمل الإنسان، يكون إنتاجا لقيم استعمال، لا إنتاجا لقيم تبادل. إن المرء ينتج حين يعد الحساء أو يثبت أزرارا، إلاّ أنه لا ينتج ذلك من أجل السوق.
إن ظهور إنتاج السلع وتنظيمه وتعميمه قد غيّر بصورة جذرية الطريقة التي يعمل بها البشر وينظمون بها المجتمع.
3- النظرية الماركسية في الاستلاب
لقد سمعتم من قبل أحاديث عن النظرية الماركسية في الاستلاب. إن ظهور الإنتاج المعد للتبادل وتنظيمه وتعميمه يرتبط ارتباطا وثيقا بتوسع ظاهرة الاستلاب هذه.
وليس في وسعنا أن نتبسط هنا في الحديث عن هذا المظهر من مظاهر المسألة. غير أنه أمر بالغ الأهمية أن نتفهم هذه الواقعة، لأن المجتمع السلعي لا يتطابق مع عصر الرأسمالية وحسب، بل يشمل أيضا عصر الإنتاج السلعي الصغير، الذي سنتحدث عنه بعد ظهر هذا اليوم. كما أن ثمة مجتمعا سلعيا بعد رأسمالي، هو المجتمع الإنتقالي بين الرأسمالية والاشتراكية، كالمجتمع السوفييتي الراهن، وهو مجتمع ما يزال يقوم إلى حد كبير على إنتاج قيم تبادل. وحين نحيط ببعض الخصائص الأساسية للمجتمع السلعي ندرك لِمَ لا يمكن التغلب على بعض ظاهرات الاستلاب في الفترة الانتقالية بين الرأسمالية والاشتراكية، كما هو الحال في المجتمع السوفييتي الراهن.
غير أن ظاهرة الاستلاب هذه لا تظهر بصورة جلية -على الأقل بهذا الشكل- في مجتمع يجهل الإنتاج السلعي، في مجتمع يقوم على وحدة الحياة الفردية والنشاط الاجتماعي البدائي تماما. إن الإنسان يعمل، ويعمل عادة لا متفردا، بل في مجموعة جماعية ذات بنية عضوية متفاوتة. ويقوم هذا العمل على تحويل مباشر للأشياء المادية. أي أن نشاط العمل، نشاط الإنتاج، نشاط الاستهلاك، وكذلك العلاقات بين الفرد والمجتمع، ينظمها ضرب من التوازن الدائم إلى حد ما.
يقينا أن ليس من مسوغ لتجميل المجتمع البدائي، الخاضع لضغوط وكوارث دورية بحكم عوزه الشديد. فالتوازن القائم فيه مهدد في أية لحظة بأن تهدمه الندرة والبؤس والكوارث الطبيعية، وما سوى ذلك. غير أن بين هاتين الكارثتين، لا سيما بدءا من مستوى معين في نمو الزراعة، ومن بعض الشروط المناخية الملائمة، فإن هذا التوازن يولد ضربا من الوحدة، ضربا من التوافق، ضربا من التوازن بين جميع وجوه النشاط الإنساني من الناحية العملية.
إن الآثار المدمرة لتقسيم العمل، كالفصل التام بين كل ما هو نشاط جمالي، واندفاعة فنية، وطموح خلاق وبين وجوه النشاط الإنتاجي، الآلية تماما، التي تقوم على التكرار، مثل هذه الآثار لا وجود لها قط في المجتمع البدائي. وعلى العكس من ذلك فإن معظم الفنون، سواء أكانت الموسيقى والنحت أم الرسم والرقص، ترتبط منذ البدء بالإنتاج، بالعمل. فالرغبة في إعطاء شكل مستحب وجميل للمنتجات التي تستهلك إما فرديا أو في الأسرة أو في الجماعة من ذوي القربى أكثر اتساعا، هذه الرغبة كانت تندرج بصورة طبيعية، متوافقة وعضوية بعمل كل يوم.
لم يكن الإنسان يحس بالعمل كالتزام مفروض من الخارج، أولاً لأن هذا النشاط كان أقل توترا بكثير، أقل إرهاقا بكثير من العمل في المجتمع الرأسمالي الراهن، لأنه كان أكثر خضوعا لنسق الجسم البشري ولنسق الطبيعة. فقلما يتجاوز عدد أيام العمل 150 أو 200 في السنة، بينما هو يقارب في المجتمع الرأسمالي 300 يوم تقريبا، ويتجاوزها أحيانا. ولأن الوحدة بين المنتج والناتج واستهلاكه كانت مستمرة، إذ كان المنتج إنما ينتج بصورة عامة من أجل استعماله هو أو استعمال أقاربه، فقد كان العمل يحتفظ بالتالي بمظهر وظيفي مباشر. إن الاستلاب الحديث ينشأ بصورة خاصة من الانفصام بين المنتج ونتاجه، وهو نتيجة تقسيم العمل ونتيجة إنتاج البضائع في آن واحد، أي نتيجة العمل من أجل السوق، من أجل مستهلكين مجهولين، لا من أجل استهلاك المنتج ذاته.
أما الوجه الآخر للمسألة فهو أن مجتمعا لا ينتج سوى قيم استعمال، مجتمعا ينتج سلعا لاستهلاك منتجه وحسب، كان في الماضي على الدوام مجتمعا شديد الفقر. وهو بالتالي مجتمع لا يخضع لتقلبات قوى الطبيعة وحسب، بل مجتمع يقيد الحاجات البشرية إلى أقصى الحدود، تماما بقدر ما هو فقير لا يملك إلاّ تنويعا محدودا من المنتجات. إن حاجات البشر ليست شيئا فطريا في الإنسان، إلاّ في حدود ضيقة جدا. فثمة تفاعل مستمر بين الإنتاج والحاجات، بين نمو القوى الإنتاجية وتفجر الحاجات. وفي مجتمع ينمي إلى الحد الأقصى إنتاجية العمل، وينمي تنويعا غير محدود من المنتجات، في مثل هذا المجتمع فقط يمكن للإنسان أن يشهد نموا غير محدود في حاجاته، نموا لجميع إمكاناته غير المحدودة، نموا متكاملا في إنسانيته.
4- قانون القيمة
من جملة النتائج المترتبة على ظهور إنتاج السلع وتعميمه تدريجيا، أن العمل ذاته يأخذ في التحول بحيث يصبح منتظما، ومقاسا، أي أن العمل نفسه لا يعود نشاطا مندمجا في نسق الطبيعة، يجري وفق النسق الفيزيولوجي الخاص بالإنسان.
ففي بعض مناطق أوروبا الغربية لم يكن الفلاحون حتى القرن التاسع عشر، بل وحتى القرن العشرين، يعملون بشكل منتظم، ولا يعملون في كل شهر في السنة بنفس الشدة. إنهم يبذلون في بعض فترات سنة العمل مجهودا بالغ الشدة. بيد أنه ستوجد إلى جانب ذلك فجوات كبيرة ينعدم فيها النشاط، لا سيما في الشتاء. وعندما نما المجتمع الرأسمالي، وجد في هذا الجزء الأكثر تأخرا في الزراعة في البلاد الرأسمالية احتياطيا من اليد العاملة بالغة الأهمية، بمعنى أنها يد عاملة تذهب إلى العمل لتعمل ستة شهور من السنة أو أربعة شهور، ويمكنها أن تعمل لقاء أجور أدنى بكثير، نظرا لأن الاستثمار الزراعي المستمر كان يؤمن لها جزءا من قوتها.
وحين نتفحص مزارع أكثر تقدما بكثير وأكثر ازدهارا، كما هو الحال في المزارع المنتشرة حول المدن الكبرى، أي مزارع هي في الحقيقة في طريق التصنيع، نجد فيها عملا أكثر انتظاما بكثير وإنفاقا في العمل أكبر بكثير يجري بشكل منتظم طوال السنة، يلغي شيئا فشيئا فترات العطالة. إن هذا لا يصدق على عصرنا وحسب، بل إنه صحيح بالنسبة للقرون الوسطى، ولنقل اعتبارا من القرن الثاني عشر: فكلما ازداد اقترابنا من المدن، أي من الأسواق، كان عمل الفلاح أكثر اتجاها إلى العمل من أجل السوق، أي موجها نحو إنتاج السلع، وكان العمل أكثر انتظاما، عملا دائما إلى حد ما، كما لو كان عملا في مشروع صناعي.
وبعبارة أخرى: بقدر ما يعمم إنتاج البضائع بقدر ما ينتظم العمل، وبقدر ما يصبح المجتمع منظما على أساس محاسبة تقوم على العمل.
ولو درسنا تقسيم العمل المتقدم إلى حد ما في إحدى النواحي (كومون) في مطلع النمو التجاري والحرفي في القرون الوسطى، أو تأملنا مجتمعات في حضارات كالحضارة البيزنطية والعربية والهندوسية والصينية واليابانية فإن ما يلفت الانتباه في كل الحالات واقعُ تكامل متقدم جدا بين الزراعة ومختلف التقنيات الحرفية ، وانتظام العمل في الريف والمدينة على حد سواء، مما يجعل من المحاسبة على أساس العمل، أي من المحاسبة على أساس ساعات العمل، المحرك الذي ينظم كل نشاط الجماعة، بل وبنيتها: وقد أوردت في الفصل الخاص بقانون العمل في “النظرية الماركسية في الاقتصاد” مجموعة من أمثلة هذه المحاسبة التي تقوم على ساعات العمل. وفي بعض القرى الهندية تحتكر طبقة مغلقة معينة صناعة الحدادة، إلاّ أنها تستمر في الوقت ذاته في فلاحة الأرض لتنتج غدائها الخاص. وفيها القاعدة التالية: حين يقوم الحداد بصنع أداة من أدوات العمل أو سلاح لمزرعة ما، فإن على هذه المزرعة أن تقدم له المواد الأولية، وبينما يعالج الحداد هذه المواد لصنع الأدوات فإن على الفلاح الذي تنتج الأداة لحسابه أن يعمل في أرض الحداد. وهذا يعني أن ثمة تكافؤا في ساعات العمل يحكم المبادلات بصورة جد واضحة.
وفي القرى اليابانية في الق رون الوسطى نجد في نظام الشيوع السائد في القرية محاسبة تقوم على ساعات العمل بالمعنى الحرفي للكلمة. فمحاسب القرية يمسك نوعا من الدفاتر الكبيرة يسجل فيه ساعات العمل التي عمل خلالها مختلف القرويين بالتبادل في حقول الآخرين، ذلك لأن الإنتاج الزراعي كان ما يزال يقوم إلى حد كبير على التعاون في العمل، وبشكل عام يجري الحصاد وبناء المزارع وتربية الحيوانات بجهد مشترك. وتحسب بصورة جد دقيقة عدد ساعات العمل التي قدمها أعضاء أسرة معينة لأعضاء أسرة أخرى. وفي نهاية السنة ينبغي أن يكون ثمة توازن، بمعنى أن أفراد أسرة (ب) ينبغي أن يكونوا قدموا لأسرة (أ) عددا من ساعات العمل يطابق تماما عدد الساعات التي قدمها أفراد أسرة (أ) خلال السنة ذاتها لأفراد الأسرة (ب). بل اليابانيين بلغت بهم الحداقة -منذ حوالي ألف عام!- بحيث كانوا يأخذون في نظر الاعتبار أن الأطفال يقدمون كمية من العمل أقل من البالغين، أي أن ساعة عمل يقوم بها الأطفال لا “تكافئ” سوى نصف ساعة من عمل البالغين، وبذلك تنشأ محاسبة كلية بهذا الشكل.
وهاكم مثلا آخر يتيح لنا أن ندرك مباشرة انتشار هذه المحاسبة التي قوم على اقتصاد وقت العمل: هي استبدال الريع العقاري. ففي المجتمع الإقطاعي يمكن لفائض الإنتاج الزراعي أن يتخذ أشكالا مختلفة: شكل الريع في صورة عمل أو سخرة، شكل الريع العيني، وشكل الريع النقدي.
ومن الواضح أن ثمة عملية استبدال، حين ننتقل من السخرة إلى الريع العيني. فبدلا من أن يقدم الفلاح ثلاثة أيام عمل في الأسبوع للسيد، أصبح الآن يقدم كمية معينة من القمح أو الماشية وسواها في كل موسم زراعي. وتجري عملية استبدال أخرى حين ننتقل من الريع العيني إلى الريع النقدي.
عمليتا الاستبدال هاتان ينبغي أن تبنيا على محاسبة بساعات العمل تكون دقيقة إلى حد ما، إذا لم يقبل أحد الفريقين أن يُضار مباشرة بهذه العملية. وفي خلال مرحلة الاستبدال الأول، أي بدلا من أن يقدم الفلاح للسيد الإقطاعي 150 يوم عمل سنويا، أصبح الفلاح يقدم كمية من القمح، فإذا كان إنتاج هذه الكمية (س) من القمح يقتضي 75 يوم عمل فقط فإن هذا الاستبدال للريع- العمل إلى ريع عيني يؤدي إلى إفقار مفاجئ للمالك الإقطاعي وإثراء سريع جدا للأقنان.
ولذلك كان المالكون العقاريون – وهم أهل للثقة!- يسهرون أثناء عملية الاستبدال هذه ليكون ثمة تكافؤ دقيق نوعا ما بين مختلف أشكال الريع. وطبيعي أن عملية الاستبدال هذه يمكن أن ترتد في النهاية ضد إحدى الطبقتين الموجودتين، مثلا ضد المالكين العقاريين عندما يحصل انهيار مفاجئ في الأسعار الزراعية بعد تحول الريع العيني إلى ريع نقدي، بيد أن الأمر يتعلق عند ذاك بنتيجة عملية تاريخية بكاملها، لا نتيجة الاستبدال نفسه.
ويبدو منشأ هذا الاقتصاد المبني على المحاسبة على أساس ساعات العمل بشكل واضح أيضا من خلال تقسيم العمل بين الزراعة والمهن الحرفية داخل القرية. وخلال حقبة بكاملها يبقى تقسيم العمل بدائيا نوعا ما. فيستمر جزء من الفلاحين في إنتاج جزء من لباسهم خلال فترة طويلة جدا، تمتد في أوروبا الغربية من نشوء المدن في القرون الوسطى حتى القرن التاسع عشر، أي حوالي ألف عام، مما يعني في الحقيقة أن تقنية إنتاج الملابس لم تكن تنطوي على كثير من الإعجاز بالنسبة للفلاح.
وما أن تقوم مبادلات منتظمة بين الفلاحين والحرفيين منتجي المنسوجات حتى تنشأ تكافؤات منتظمة أيضا. مثال ذلك يتم تبادل ولنقل مترا من الجوخ مقابل خمسة كلوات من السمن، لا مقابل 50 كيلو. ومن الواضح تماما أن الفلاحين يعرفون، إنطلاقا من تجربتهم الخاصة، وقت العمل التقريبي اللازم لإنتاج كمية معينة من الجوخ. ولو لم يكن ثمة تكافؤ دقيق إلى حد ما بين زمن العمل اللازم لإنتاج كمية الجوخ التي يجري تبادلها مقابل كمية معينة من السمن، لتعدل تقسيم العمل بشكل فوري. ولو كان الفلاح يجد أن إنتاج الجوخ هو أكثر فائدة له من إنتاج السمن لغيّر فعليا إنتاجه، نظرا لأننا ما نزال في مطلع تقسيم جذري للعمل، وأن الحدود ما تزال مائعة بين التقنيات المختلفة، وإن الانتقال من نشاط اقتصادي إلى آخر ما يزال ممكنا، خاصة إذا كان ينتج فوائد مادية ظاهرة تماما.
وفي داخل المدينة في القرون الوسطى نجد أيضا توازنا يقوم على فهم عميق محسوبا بين المهن المختلفة، تسجله المواثيق، يحدد بالدقة تقريبا زمن العمل الذي ينبغي بذله لانتاج مختلف المنتجات. ولا يعقل، في مثل هذه الشروط، أن يستطيع صانع الأحذية أو الحداد الحصول على نفس المبلغ من النقد مقابل حصيلة نصف زمن العمل الذي يحتاجه النساج أو أي حرفي آخر للحصول على هذا المبلغ مقابل منتجاته الخاصة.
هنا أيضا ندرك جيدا آلية هذه المحاسبة المبنية على ساعات العمل، وسير هذا المجتمع المبني على اقتصاد يقوم على زمن العمل، وهو بصورة عامة سمة مميزة لكل هذه الحقبة (الطور) التي تسمى حقبة الإنتاج السلعي الصغير، التي تتداخل بين مرحلة الاقتصاد الطبيعي البحت التي لا ينتج فيها سوى قيم استخدام، والمجتمع الرأسمالي الذي يشهد إنتاج السلع فيه توسعا بلا حدود.
5- تحديد قيمة تبادل السلع
عندما ندرك بدقة أن إنتاج السلع وتبادلها ينتظمان ويتعممان في مجتمع كان يقوم على اقتصاد مبني على زمن العمل، على محاسبة مبنية على ساعات العمل، نفهم لماذا بني تبادل السلع، بحكم نشأته وطبيعته الخاصة، على هذه المحاسبة القائمة على ساعات العمل ذاتها وأن القاعدة العامة التي تتبع هي إذن التالية: إن قيمة تبادل سلعة ما تتحدد بكمية العمل اللازم لإنتاجها، وتقاس كمية العمل هذه بمدة العمل التي تم إنتاج السلع خلالها.
هذا التعريف العام الذي يكون نظرية القيمة-العمل، وأساس الاقتصاد السياسي الكلاسيكي البرجوازي بين القرن السابع عشر ومطلع القرن التاسع عشر، من ويليام بيسي إلى ريكاردو، وأساس النظرية الاقتصادية الماركسية، التي إستندت إلى نظرية القيمة-العمل ذاتها، وعملت على تحسينها- هذا التعريف ينبغي أن يضاف إليه بعض التحديدات.
التحديد الأول:إن بني البشر لا تتوافر لهم جميعا نفس القدرة على العمل، فهم لا يملكون نفس الطاقة، ولا يملكون جميعا نفس المهارة في مهنتهم. ولو أن قيمة تبادل البضائع كانت تتوقف على كمية العمل وحدها التي ينفقها الفرد، أي المبذولة فعلا من قبل كل فرد لإنتاج سلعة،لانتهينا إلى وضع غير معقول: إذ بقدر ما يكون المنتج عابثا أو عاجزا تزداد ساعات العمل التي ينفقها لإنتاج زوج من الأحذية وتكون قيمة هذا الزوج من الأحذية أكبر! بداهة هذا مستحيل لأن قيمة التبادل ليست مكافأة معنوية على النيات! إنها رابطة موضوعية قائمة بين منتجين مستقلين لتأمين المساواة بين جميع المهن، في مجتمع يقوم بآن واحد على تقسيم العمل وعلى اقتصاد مبني على زمن العمل. في مثل هذا المجتمع يكون تبديد العمل أمرا لا يمكن مكافأته، بل على العكس يعاقب عليه بصورة آلية. وكل من ينفق في سبيل إنتاج زوج من الأحذية عددا من ساعات العمل يفوق المتوسط الضروري -هذا المتوسط الضروري تحدده متوسط إنتاجية العمل ومسجل مثلا في مواثيق المهن- إنما يبدد عملا بشريا، لقد عمل عبثا، بخسارة بحتة، خلال عدد من ساعات العمل هذه، ولن يتلقى شيئا مقابل هذه الساعات المهدورة.
وبعبارة أخرى: إن قيمة تبادل بضاعة ما تتحدد لا بكمية العمل المبذولة لإنتاج هذه السلعة من قبل كل منتج فردي، بل بكمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاجها. وتعبير “الضرورية اجتماعيا” ينصرف إلى :كمية العمل الضرورية في الشروط المتوسطة لإنتاجية العمل في زمن معين وفي بلد معين.
وفضلا عن ذلك فإن لهذا التحديد أهمية بالغة من حيث التطبيق عندما نتفحص عن قرب اكثر آلية المجتمع الرأسمالي.
بيد أنه لابد من تحديد آخر: ماذا يعني تعبير”كمية العمل” بالضبط. هناك عمال ذوو مهارات متباينة. فهل ثمة تكافؤ كلي بين ساعة عمل كل واحد منهم، بصرف النظر عن هذا الاختلاف في المهارات؟ ومرة أخرى ليس الأمر مسألة أخلاقية، بل مسألة منطق داخلي، في مجتمع يقوم على المساواة بين المهن، يقوم على المساواة في السوق، وأية شروط لعدم المساواة فيما بينها تخل مباشرة بالتوازن الإجتماعي.
ما الذي يحدث مثلا لو أن ساعة عمل العامل اليدوي لم تكن قيمتها تقل عن قيمة ساعة عمل العامل المتخصص المؤهل، اقتضى تأهيله أربع أو ست سنوات؟ لن يرغب أحد بطبيعة الحال في التخصص. فساعات العمل المبذولة لاكتساب التخصص (المهارة) تصبح ساعات عمل أنفقت عبثا، بخسارة بحتة، لن ينال المتمرن الذي أصبح عاملا ماهرا لقاءها أي مقابل.
ولكي يرغب الأحداث بالتخصص في اقتصاد يقوم على محاسبة مبنية على ساعات العمل ينبغي أن يكافأ الزمن الذي ضيعوه في اكتساب تأهيلهم، ينبغي أن ينالوا عوضا لقاء هذا الزمن. ولهذا ينبغي إكمال تعريفنا لقيمة تبادل بضاعة ما على النحو التالي: “إن ساعة عمل لعامل مؤهل ينبغي اعتبارها عملا مركبا، أي ساعة عمل العامل اليدوي مضاعفة، ومعامل الضرب هذا ليس أمرا تعسفيا، بل يقوم ببساطة على تكاليف اكتساب المهارة. ولنقل بصورة عابرة أنه كان في الاتحاد السوفييتي في العهد الستاليني، دوما، شيء من الغموض في تفسير العمل المركب، وهو غموض قليل الشأن لم يصحح منذ ذلك الحين. وما يزال يقال في الاتحاد السوفييتي إن مكافأة العمل ينبغي أن تتم على أساس كمية العمل المبذولة ونوعيته، إلاّ أن فكرة النوعية لا تؤخذ بمدلولها الماركسي، أي نوعية يمكن قياسها كميا بواسطة معامل ضرب معين. وعلى العكس فإن هذه الفكرة تستخدم بمدلولها الأيديولوجي البرجوازي، بحيث تتحدد نوعية العمل بمنفعتها الاجتماعية المزعومة، وعلى هذا النحو يتم تبرير الدخول التي يكسبها مشير أو راقصة أولى أو مدير مؤسسة، وهي دخول تفوق عشرة أضعاف دخول العامل اليدوي. إنها نظرية دفاع لتبرير التفاوتات الكبيرة جدا في المكافآت، وهي تفاوت وجدت في العهد الستاليني وما تزال مستمرة أيضا، وإن يكن في حدود أضيق في الوقت الراهن، في الاتحاد السوفييتي.
إن قيمة تبادل بضاعة ما تتحدد إذن بكمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها، مع اعتبار العمل المؤهل كمضاعف العمل البسيط، أي مضروبا بمعامل يمكن قياسه بدرجات متفاوتة الدقة.
ذلك هو قلب النظرية الماركسية في القيمة، وهو أساس النظرية الاقتصادية الماركسية كلها بشكل عام. وعلى النحو ذاته، فإن نظرية فائض الناتج الاجتماعي وفائض العمل، التي تحدثنا عنها في مستهل هذا العرض، تكوّن أساس السوسيولوجيا الماركسية كلها، والجسر الذي يربط بين تحليل ماركس السوسيولوجي والتاريخي، ونظريته في الطبقات وتطور المجتمع بشكل عام، بالنظرية الماركسية الاقتصادية، وبالأحرى بتحليل المجتمع السلعي السابق للرأسمالية والرأسمالية وما بعد الرأسمالي.
6- ما هو العمل الضروري اجتماعيا؟
ذكرت لكم قبل قليل أن التعريف الخاص لكمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاج سلعة ما يجد تطبيقا خاصا جدا وبالغ الأهمية في تحليل المجتمع الرأسمالي. ويبدو لي أن من الخير أن نعالج هذه المسألة، رغم أن مكانها هو في الحديث التالي، لو أننا اتبعنا الترتيب المنطقي.
إن مجموع السلع المنتجة في بلد ما في فترة معينة إنما تم إنتاجها بقصد إشباع حاجات مجموع أعضاء هذا المجتمع. ذلك أن بضاعة لا تسد حاجات أي شخص هي أساسا لا تقبل البيع، أي لا تكون لها أية قيمة في التبادل، إنها لا تكون سلعة بل مجرد حصيلة أهواء المنتج، أو اللعب بلا رغبة في الكسب. ومن جهة أخرى فإن مجموع القوة الشرائية الموجودة في مجتمع معين وزمن معين والمعدة للإنفاق في السوق، أي غير المكتنزة، ينبغي أن توجه لشراء مجموع هذه السلع المنتجة، إذا أريد قيام توازن اقتصادي في المجتمع. هذا التوازن يستلزم إذن أن يوزع مجموع الإنتاج الإجتماعي، مجموع القوى الإنتاجية المتاحة في المجتمع، أي مجموع ساعات العمل المتوافرة لهذا المجتمع، أن يوزع مجموعها بين مختلف الفروع الصناعية على أساس نسبي، على نحو ما يقوم به المستهلكون حين يوزعون قوتهم الشرائية بين مختلف الحاجات التي يمكنهم إشباعها. وعندما لا يتطابق توزيع القوى الإنتاجية مع توزيع الحاجات هذا فإن التوازن الإقتصادي يختل، ويظهر فرط الإنتاج ونقص الإنتاج جنبا إلى جنب.
لنأخذ مثلا مألوفا إلى حد ما: حوالي منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كان في مدينة مثل باريس صناعة العربات، ولصنع السلع المختلفة التي تتصل بالنقل بالعربات المجرورة، كان يعمل فيها ألوف، إن لم يكن عشرات الألوف من العمال.
وفي الوقت ذاته نشأت صناعة السيارات، وهي، رغم أنها كانت ما تزال صناعة صغيرة جدا، تضم عشرات من صانعي السيارات، ويعمل فيها حوالي عشرة آلاف من العمال.
ما الذي جرى في تلك الفترة؟ بدأ عدد العربات يضمحل وعدد السيارات يتزايد. ونحن نشهد إذن أن الإنتاج المتعلق بالنقل بالعربات يتجه إلى تجاوز الحاجات الإجتماعية، أي الطريقة التي يوزع بمقتضاها مجموع الباريسيين قوتهم الشرائية، كما نشاهد من جهة أخرى أن إنتاج السيارات ما يزال دون مستوى الحاجات الإجتماعية. فما أن قامت صناعة السيارات حتى انتقلت من القلة وتصاعدت حتى ثم التوصل إلى الإنتاج الكبير. لقد كان عدد السيارات المتاح أقل من المتطلبات الموجودة في السوق.
كيف نعبر عن هذه الظاهرة بمصطلحات نظرية القيمة-العمل؟ يمكن القول إنه ينفق في قطاعات صناعة النقل بالجر من العمل أكثر مما هو ضروري اجتماعيا، وإن جزءا من العمل الذي تقوم به مجموع مشروعات صناعة النقل بالعربات هو عمل مهدور اجتماعيا، عمل لا مقابل له في السوق، عمل ينتج بالتالي سلعا لا تباع، وعندما توجد في المجتمع الرأسمالي سلع لا تباع، فمعنى ذلك أنه قد جرى تثمير عمل بشري في فرع من فروع الصناعة تكشف أنه ليس عملا ضروريا اجتماعيا، أي أن ليس ثمة قوة شرائية مقابلة له في السوق. والعمل غير الضروري اجتماعيا هو عمل مبدد، عمل لا ينتج قيمة. وهكذا نرى أن مفهوم العمل الضروري اجتماعيا يغطي مجموعة بكاملها من الظاهرات.
وفيما يتعلق بمنتجات صناعة النقل بالجر، يتجاوز العرض الطلب، فتنخفض الأسعار، وتبقى السلع دون مشترٍ. ويحصل العكس في صناعة السيارات. إذ أن الطلب يتجاوز العرض، ولهذا السبب ترتفع الأسعار، ولأنه يوجد قصور في الإنتاج. إلاّ أن الوقوف عند هذه المعلومات العادية حول العرض والطلب إنما يعني التوقف عند المظهر السيكولوجي والفردي للمسألة. وعلى العكس، إذا تعمقنا في دراسة مظهرها الجماعي والاجتماعي فإننا ندرك ما يكمن وراء هذه الظواهر، في مجتمع يقوم على اقتصاد مبني على زمن العمل. فحين يتجاوز العرض الطلب إنما يعني هذا أن الإنتاج الرأسمالي، وهو إنتاج فوضوي، إنتاج غير مخطط، غير منظم، قد ثمر عشوائيا، أي أنفق في فرع من فروع الصناعة عددا من ساعات العمل أكثر مما هو ضروري اجتماعيا، أي أنه قدم مجموعة من ساعات العمل بخسارة بحتة، أي بدد عملا بشريا، وأن هذا العمل البشري المهدور لن يلقى مكافأة له من المجتمع. وبالعكس، فإن فرعا من فروع الصناعة ما يزال الطلب عليه أكبر من العرض هو، إذا صح التعبير، فرع صناعي متخلف بالنسبة للحاجيات الاجتماعية، وهو بالتالي فرع صناعي أنفق فيه من ساعات العمل عدد أقل مما هو ضروري اجتماعيا، وهو لهذا السبب بالذات يتلقى من المجتمع علاوة لزيادة هذا الإنتاج ورفعه إلى حدود التوازن مع الحاجيات الاجتماعية.
ذلك هو مظهر من مظاهر مسألة العمل الضروري اجتماعيا في النظام الرأسمالي. أما المظهر الآخر فيتصل بحركة إنتاجية العمل. وهنا أيضا لا يختلف الأمر، إلاّ من حيث إغفال الحاجات الإجتماعية، وإغفال مظهر “قيمة استخدام” الإنتاج.
في النظام الرأسمالي تكون إنتاجية العمل في حركة دائمة. يوجد دوما، بوجه الإجمال، أنواع ثلاث من المشروعات (أو الفروع الصناعية) النوع الأول يقف في المستوى الإجتماعي المتوسط للإنتاجية، والنوع الثاني متأخر فات أوانه، فاقد التوازن، إنتاجيتها أدنى من المستوى الإجتماعي المتوسط؛ والنوع الثالث رائد من الناحية التقنية، وإنتاجيته أعلى من المستوى الاجتماعي المتوسط.
ما معنى قولنا إن فرعا أو مشروعا هو فرع أو مشروع متأخر تكنولوجيا، وإن إنتاجية العمل فيه دون متوسط إنتاجية العمل؛ يمكنكم تشبيه هذا الفرع أو المشروع بصانع الأحذية الذي تحدثنا عنه قبل قليل، أي أن فرعا أو مشروعا ينفق 5 ساعات عمل لإنتاج كمية يقتضي المتوسط الاجتماعي للإنتاجية أن تنتج في 3 ساعات عمل. فالساعتان الإضافيتان من العمل قد أنفقتا بخسارة بحتة، إنهما هذر العمل الإجتماعي، وتبديد لجزء من مجموع العمل المتاح للمجتمع، ولن يدفع المجتمع أي عوض لقاء هذا الجزء من العمل المهدور. وهذا يعني أن سعر البيع في هذه الصناعة أو المشروع التي تعمل دون متوسط الإنتاجية يقترب من سعر الكلفة أو أنه قد ينخفض إلى أقل من سعر الكلفة، أي أنها تعمل بمعدل ربح ضئيل جدا، بل وقد تعمل بخسارة.
وبالمقابل، فإن مشروعا أو فرعا صناعيا يتجاوز مستوى إنتاجية المتوسط (على شاكلة صانع الأحذية الذي يستطيع إنتاج زوجي أحذية في ثلاث ساعات، بينما يكون المتوسط الإجتماعي هو زوج من الأحذية في ثلاث ساعات)، إن هذا المشروع أو الفرع الصناعي يوفر في إنفاق العمل الاجتماعي، وسينال تبعا لذلك ربحا إضافيا، أي أن الفرق بين سعر البيع وسعر التكلفة سيكون أعلى من متوسط الربح.
إن السعي وراء هذا الربح الإضافي هو بالتأكيد محرك الاقتصاد الرأسمالي كله. إن كل مشروع رأسمالي يندفع بتأثير المنافسة إلى محاولة الحصول على مزيد من الأرباح، لأنه بذلك فقط يستطيع أن يحسّن باستمرار التكنولوجيا التي يتبعها، أي يحسن إنتاجية العمل لديه. إن المشروعات كلها تندفع إذن في هذا الطريق، مما يعني أن ما كان أولا إنتاجية فوق المتوسط سينتهي إلى أن يصبح إنتاجية متوسطة. وعند ذاك يتلاشى الربح الإضافي. إن كل استراتيجية الصناعة الرأسمالية تقوم على هذا الأساس، تقوم على رغبة كل مشروع في البلد في الوصول إلى إنتاجية فوق المتوسط، بغية الحصول على ربح إضافي، مما يسبب حركة تفضي إلى تلاشي الربح الإضافي بحكم الاتجاه إلى رفع متوسط إنتاجية العمل باستمرار. وبذلك نصل إلى تساوي معدل الربح. …..
المصدر: http://www.almounadil-a.info/article133.html?artsuite=0#sommaire_1
أحدث التعليقات