الكاتب: صالح السلطان
هل يحق شرعا للحاكم ( الإمام أو المجلس النيابي أو الحكومة.. إلخ، حسب أسماء وتوزيع السلطة ) أن يسعر أو أن يضع قوانين تسمح للجهات التنفيذية أن تسعر؟ وطرح السؤال بهذه الصيغة يتضمن أن الأصل أن الناس أحرار في أموالهم.
وإذا كان جواب السؤال نعم، فهناك أسئلة تتبع، من قبيل: علام؟ وكيف يجري التسعير؟.
من يطلع على ما كتب في كتب فقهية عن التسعير، يجد اتجاهين رئيسيين:
فريق يمنع التسعير وفريق يجيزه عند الحاجة. كلمة يجيز، ينبغي ألا تؤخذ على حرفيتها، إذ قد يكون التسعير واجبا أحيانا.
لن أدخل في عرض هذه الآراء، لضيق المساحة، خلاف أن بإمكان القارئ المهتم أن يرجع إلى كتاب ذي صلة، ومقالات كثيرة متناثرة هنا وهناك. ويلحظ من الكتابات المعاصرة، أن عامة أو جمهور الفقهاء المعاصرين يرون جواز التسعير عند الحاجة.
وأشهر مدافع عن جواز التسعير عند الحاجة هو الإمام العلامة ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم, رحمهما الله تعالى. ومن يرغب في التوسع فله الرجوع إلى كتاب “الحسبة” لابن تيمية، وكتاب “الطرق الحكمية” لابن القيم. وقد تكلم الشيخان في كتابيهما عن التسعير وعن تصرفات تجارية أخرى كثيرة غير مشروعة. وقد عرف عن ابن تيمية خصوصا سعة علمه وتبحره في علوم كثيرة.
والقول بأن التسعير جائز عند الحاجة قائم على أن الله سبحانه يأمر بالعدل وينهى عن البغي والظلم، وممارسة التجارة ربما ينشأ منها إخلال بالعدل وإجحاف بالناس واستغلال لهم.
إذا عرف ذلك، فإن النقاش يتوجه إلى الدخول في تفاصيل للتعرف على الحاجة. مثلا، ما حدود هذه الحاجة؟ كيف نعرف أن ما يطلب تسعيره يباع بأسعار فيها ظلم واستغلال للناس؟.
هذه القضايا وأمثالها لم يرد بشأنها تفصيل أو تحديد من الشرع، ومصدر العلم بها أو التعرف عليها الكون عبر النظر ودراسة وبحث ورأي ذوي الاختصاص، وللخبرة والعرف دور في تقدير أو تحديد السعر عندما يقتنع بوجود حاجة إلى التسعير. وقلت الكون أخذا من الدكتور جعفر شيخ إدريس، الذي له أبحاث ومقالات قيمة في قضايا ذات علاقة بمنهجية العلوم، ومن هذه المقالات “الأجوبة الإسلامية عن الأسئلة الفلسفية”، منار السبيل، السنة الثانية، العدد 8، رمضان 1414هـ الموافق فبراير- مارس 1993م.
جاء في مقالته: “فمصادر العلم عند المسلم هي الكون والوحي، ووسائله هي الحس والعقل، وأما المنهج فيختلف باختلاف نوع العلم ونوع المصدر. فمن الخطأ إذن أن نقول – كما يقول بعض المتدينين- إن مصادر العلم أو وسائله هي الحس والوحي، أو إن المنهج العلمي خاص بالعلوم التجريبية”. انتهى كلامه.
أئمة الشريعة وعلماؤها يتعرضون في بعض كتبهم إلى قضايا مصدر العلم بها الكون وليس الوحي، وتعرضهم لها لا يعني أنهم أولى من غيرهم بفهمها ومناقشتها وإبداء الرأي حولها.
واستنادا إلى التوضيح السابق، أنقل هنا بعض أهم ما قاله ابن تيمية عن التسعير، ثم أعلق عليها في ضوء التخصص الاقتصادي: “فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وارتفع السعر، إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراها بغير حق.. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل: فهو جائز، بل واجب”.
بعض كلام المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ هو من الفقه بمعناه الاصطلاحي، وبعضه ليس كذلك، وهو موضع الاهتمام هنا: قوله “الوجه المعروف …عوض المثل:”، ليس لها حدود مقدرة، ومعايير محددة شرعا، ولذا فإن الفقهاء ليسوا أولى من غيرهم في إعطاء رأي في معرفة وتقدير الوجه المعروف وعوض المثل ونحو ذلك. وأقول هذا لأن بعض الناس يخلط بين معرفة المبادئ ذات العلاقة ( مثل وجوب العدل وتحريم الظلم والغش والخداع، واستغلال الناس ) وبين تطبيق هذه المبادئ على الواقع المستلزم الرجوع إلى العرف والخبرة و/أو المعرفة الفنية التي مجالها الأول علم الاقتصاد.
قوله “ارتفع السعر إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق”، واضح أنها تفسيرات لأسباب ارتفاع السعر. ومثل هذه التفسيرات ليست أحكاما شرعية مستنبطة، بل مصدرها الكون ( وفق تعبير الشيخ إدريس ) ، بالمعنى الذي سبق ذكره في الفقرة السابقة، وهي من صميم نظرية الاقتصاد الجزئي.
تفسيرات المؤلف ـ رحمه الله ـ تعد نظرة منه في فهم عمل الأسواق، وهي نظرة تدل على سعة فهم وقوة ملاحظة، ويجب أن تقرأ تلك التفسيرات في إطار الفهم السائد آنذاك لآلية السوق، مأخوذا في عين الاعتبار بساطة الحياة، وبساطة الفهم لعمل قوى السوق آنذاك، خلاف أنه ( ابن تيمية ) لم يكتب أصلا بهدف شرح عمل السوق بالبسط والتفصيل.
وقوله “كثرة الخلق” تعتبر عبارة مجملة من وجهة علم الاقتصاد، حيث المعول هو على زيادة الطلب ( أي أن منحنى الطلب انتقل من مكانه في التحليل الجزئي )، وزيادته غالبا بسبب زيادة الدخل، وقد يحدث هذا دون زيادة عدد الناس، مثلا بسبب تحسن التقنية، أو زيادة متوسط إنتاجية العامل الواحد. النمو السكاني يجلب غالبا زيادة دخل. وفي هذه الحالة ربما تكون الزيادة في الدخل أعلى أو في الناس ( نمو السكان ) أعلى. وربما لا يزيد الدخل ( الحقيقي ) إلا قليلا، بينما يزيد السكان كثيرا، ومن ثم يقل المستوى المعيشي لغالبية السكان، ويحدث غالبا تغيير في نمط الاستهلاك، بما يزيد الطلب على سلع، وغالبا تعمل هذه الزيادة على رفع أسعارها، وفي المقابل، يقللها على سلع أخرى، وقد يخفض أسعارها.
وقد يرتفع السعر دون ظلم من الناس، ولو لم يقل الشيء ولم يكثر الخلق، ولم يزد الدخل، لسبب خارجي مثل انخفاض سعر الصرف، أو رفع السعر من قبل المصدر في حالات الاستيراد.
وباختصار، السعر في البحث الاقتصادي النظري والتطبيقي يخضع لعمل قوى كثيرة جدا في وقت واحد، ولا بد من التعرف عليها وفرزها. وتبحث هذه الأمور بالتفصيل في الاقتصاد الجزئي.
ومن جهة أخرى، ارتفاع السعر، إذا كان مستمرا، وأصاب المستوى العام للأسعار، فيسمى في علم الاقتصاد التضخم inflation، وهو يبحث بالتفصيل في الاقتصاد الكلي. ومن نقاط البحث دراسة العلاقة بين عرض النقود والمستوى العام للأسعار، ولم يكن هناك من معنى لبحث هذه العلاقة إلا بعد ظهور الثورة الصناعية وظهور النقود الورقية والنقود التي تصنعها البنوك ( مثلا الحسابات الجارية )، وهذه لم تكن موجودة قبل الثورة الصناعية.
الموضوع من وجهة التحليل الاقتصادي طويل، وبالله التوفيق
المصدر: http://islamfin.go-forum.net/montada-f21/topic-t108.htm
أحدث التعليقات