الأزمة المالية العالمية ومدى مناعة البنوك الإسلامية منها
عبد العظيم أبوزيد*
كشفت الأزمة المالية العالمية مؤخراً عن عوامل الوهن في الاقتصاد الرأسمالي القائم على الفائدة أساساً. وأرجع المحللون الماليون والاقتصاديون الأزمة الحالية التي عصفت بالبنوك وأسواق المال إلى عدة أسباب، نتعرض منها لتلك التي أثرت تأثيراً مباشراً على البنوك فقط دون أسواق المال، وهي شيئان:
1- الإقراض الربوي الجشع الذي عمّى قلب مقدميه حتى عن النظر في قدرة المقترض على السداد، ما دام هذا القرض مضموناً برهن ما.
2- الاتجار الفظيع غير المحسوب بالديون عن طريق شراء السندات وبيعها؛ فقد بلغ حجم الاتجار في الديون مؤخراً أكثر من تريليون دولار في اليوم الواحد، بينما يبلغ إنتاج العالم كله من السلع والخدمات أقل من ثلث هذا المبلغ في العام الكامل!!
وهذه الديون هي ديون ربوية طبعاً، وبحسب المحللين، فإن الاتجار بسنداتها هو المحرك الرئيسي للأزمة المالية الحالية؛ فقد قدمت البنوك الأمريكية قروضاً عقارية للأمريكيين، مضمونة بالعقارات، ثم أعادت تمويل بعض تلك القروض بعد أن ارتفعت أسعار تلك العقارات في السوق، فحصل المقترضون الأولون على قروض جديدة، مما زاد من عبء القروض وفوائدها عليهم. ثم قامت البنوك الأمريكية معززةً موقفها بضمان شركات تأمين عملاقة مثل فريدي ماك وفاني ماي لتلك القروض العقارية، بدمج تلك الديون وإصدار سندات تمثلها، لغرض الاتجار المحلي والدولي بها، فأقبلت مصارف دولية كثيرة على شرائها.
ومع تنامي الديون وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية الذي شهده العالم أخيراً وجد الأمريكيون أنفسهم غير قادرين على وفاء قروضهم وفوائدها. وعجزُ هؤلاء عن الدفع وملءِ خزائن البنوك أدى إلى عجز البنوك عن تقديم مزيد من التمويل ورفع أسعار الفائدة! تكرس هذا العجز مع عجز مؤسسات التأمين على القروض عن الوفاء بالتزاماتها نتيجة الطلب الهائل عليها مع وقوع المؤمَن ضده وهو تخلف حملة وثائق التأمين، أصحاب الدين العقاري، على الوفاء بالتزاماتهم تجاه البنوك المقرضة المؤمَّن لها. فتهددت البنوك بالإفلاس، ليزيدَ الطين بلة إسراع كل المودعين إلى البنوك لسحب أرصدتهم خشية فقدها بإفلاس البنوك، ولتنتقل عدوى خوف عامة المودعين هذه، كما هو الحال في كل الأزمات، من بنك لآخر، ومن دولة لأخرى رغم انعدام أسباب تلك المخاوف في الدول الأخرى للوقت الراهن على الأقل، فصارت أزمة الرهن العقاري في أمريكا بذلك أزمة عالمية!!
هذه هي باختصار وتبسيط أسباب الأزمة التي عصفت بالبنوك مؤخراً، وأدت إلى إفلاس كثير منها، وتزعزع بعض البنوك في منطقتنا العربية، ولا سيما تلك التي اشترت أو توسعت في شراء سندات الديون الأمريكية.
والسؤال الآن، هل البنوك الإسلامية محصنة وبمنأى عن الوقوع في تلك الأزمات؟ الجواب أن التشريع الاقتصادي الإسلامي يحرم الربا والفائدة أشد التحريم، ويمنع بيع الديون والاتجار بها ولو كانت ديوناً غير ربوية. وعليه، فإن كانت البنوك الإسلامية اليوم تلتزم بهذه الحرمة كما تملي عليها هويتها، فهي ولا شك محصنة من الوقوع؛ أما إن كانت غير ملتزمة حقيقة وعملياً بهذه الحرمة، فهي لن تكون في مأمن من هذه الأزمات، بل ستكون طرفاً فاعلاً فيها ومنفعلاً.
وعند النظر في معاملات المصارف الإسلامية نجد أن كثيراً من هذه المصارف تقييم معاملاتها على بيوع لا تختلف في جوهرها عن الإقراض الربوي، كبيع العينة والتورّق، وتمارس الاتجار بالديون عبر تصكيك (تسنيد) بعض الالتزامات المادية الناشئة عن التعامل بالبيع والشراء. ففي بيع العينة والتورق، يقدم المصرف الإسلامي لعملائه نقوداً في الحال، ليستوفي أكثر منها بعد أجل بوساطة سلعة لا تكون مقصودة حقيقة بالبيع والشراء، بل ولا تظهر إلا في الورق، فتباع السلعة وتشرى في لحظات، لتعودَ إلى مالكها أو سوقها المعتاد بعد أن خرجت عنه بالاسم فقط، فينشأ الدين الذي يمثل ثمنها، والذي على العميل طالب التمويل أن يدفعه لاحقاً بزيادة عن النقود التي قبضها فعلاً!
وفي تصكيك الديون، نجد بعض المصارف الإسلامية، ولا سيما في جنوب شرق آسيا، تصكك دين العينة الناشئ عن البيع السابق وتتاجر به في السوق الثانوية كما فعلت البنوك الأمريكية في الديون العقارية! فضلاً عن تصكيك كثير من البنوك الإسلامية لديون بيوع المرابحة والسلم والاستصناع، والاتجار في تلك السندات؛ وكذا إصدار صكوك تمثل في غالبيتها ديوناً ونقوداً لا سلعاً وخدمات. ومثل هذا الحال واقع في أسهم الشركات، فبعض المصارف الإسلامية تتاجر لحساب عملائها، وربما بقرض منها، بأسهم شركات دون أن يكون لتلك الأسهم غطاء حقيقي أو واف من السلع والخدمات، مما يؤول بالأمر إلى الاتجار بالديون في واقع الحال.
وعليه، فالنتيجة أن البنوك الإسلامية التي تقدم القروض المبطنة بالفائدة بطريق البيع، وتصكك الديون الناشئة وتتاجر بها في الأسواق كما تفعل البنوك الربوية، هذه البنوك الممارسة لتلك الأعمال ليست محصنة أبداً من الوقوع في مثل الأزمات التي شهدتها النبوك مؤخراً، بل على العكس هي طرف فاعل فيها، لأنها لا تختلف من حيث دورها الاقتصادي والسوقي عن نظيراتها الربوية. وإذا ما أرادت البنوك الإسلامية أن تكون محصنة من الأزمات، وفاعلاً إيجابياً في اقتصاديات اليوم، فعليها في الحقيقة أن تلتزم واقعاً وجوهراً بالشريعة، وألا تقصر التزامها بالشريعة على الشكليات التي لا تقدم ولا تؤخر، بل تثقل العميل وتزيد من تكلفة التمويل عليه، لينوء بعبء مالي يفوق في بعض الأحوال العبءَ المترتب عن الفوائد الصريحة التي يدفعها إلى البنوك التقليدية، ولا سيما أن بعض مؤسسات التمويل الإسلامي قد ابتكرت أساليب لتغريم كل المتخلفين عن سداد قروضهم، وأخرى لإعادة التمويل للمقترضين السابقين، نظير ممارسات البنوك الربوية، وهي الممارسات التي كان طرفاً فاعلاً في وقوع الأزمة الحالية كما تقدم.
ومن الطريف أن انبرت بعض المصارف الإسلامية التي وصفنا حالها بعد وقوع الأزمة الحالية لتتحدث عن مزايا التمويل “الإسلامي” الذي تمارسه من حيث أفضليته على التمويل الربوي التقليدي، وسلامة آثاره الاقتصادية، ومناعته من الأزمات، وكأن حالها فعلاً كذلك، مع أنها من حيث الأثر الاقتصادي والسوقي لا تختلف في ممارساتها عن نظيراتها التقليدية
أحدث التعليقات