رؤية تحليلية للأزمة المالية العالمية – محمد حبش

رؤية تحليلية للأزمة المالية العالمية

محمد حبش                                                                                                                                                                                                                          

لنتفق في البداية على أن أي أزمة اقتصادية كانت أم مالية لا تحدث لسبب واحد فقط إنما عدت أسباب تجتمع لنصل إلى حالة الأزمة، تقريبا اجمع معظم الخبراء على أن أزمة الرهن العقاري كانت القشة التي قصمت ظهر البعير إن صح القول

ماذا تعني أزمة الرهن العقاري :

لنفرض أن موظفا يدفع مبلغا شهريا حوالي 700 $ كقسط إيجار لمنزله وقدم البنك له تسهيلا يقضي بأن يدفع نفس القسط لكن في النهاية يصبح البيت ملكه بشرط تطبيق معدلات فائدة مرتفعة جدا لأنه لا يملك ضمان يقدمه لهذا القرض العقاري، والبنك رأفة بحال الموظف يقوم في البداية بطلب معدل فائدة منخفض نوعا ما ويرتفع تدريجيا بعد أن يبدو على الموظف انه قادر على سداد باقي الدفعات، و أيضا في حال ادائما.لى السداد فإن الغرامة المطبقة ستضاعف حوالي ثلاث مرات و معدل الفائدة ليس ثابت دائما .. ولكن الشخص العادي قد لا ينتبه لهذه التفاصيل المهمة والمكتوبة في عقد القرض، كل ما يهمه أن يحصل على البيت بدفعات لا تتجاوز ما كان يدفعه للإيجار

وقع العقد وبدأ بدفع أقساط شهرية متساوية ، وهذا كان حال مئات الآلاف من أصحاب الدخول المحدودة والذين كانوا يدفعون أقساطا شهرية كإيجار للبيوت والآن بإمكانهم الحصول على بيت ملكا لهم بنفس الدفعات لهذا السبب ازداد الطلب على العقارات مما أدى لارتفاع أسعارها بشكل جنوني إن الأقساط التي يدفعها خلال السنوات الثلاث الأولى مثلا تكون تسديد لفوائد القرض في الحقيقة

لأسباب متعددة ارتفع مستوى التضخم في الاقتصاد فقام البنك المركزي كإجراء معتاد برفع سعر الفائدة المطبق لكبح جماح التضخم مما أدى لارتفاع القسط الشهري الذي يجب أن يدفعه الموظف مثلا 950 $ شهرياً ولأن دخله محدود نوعا ما فإنعكس ذلك سلبا عليه وأصبح غير قادر على سداد القسط الشهري فإما يموت من الجوع ليسدد أو يتخلف عن السداد وهكذا فقد تراكمت عليه الغرامات وارتفعت الدفعة الشهرية لتصل إلى 1200 $ مثلا وفي نهاية المطاف توقف عن السداد وطرد من البيت هذه كانت حال العديد من أصحاب القروض العقارية مما أدى إلى انهيار سوق العقارات

يبيع البنك القرض الذي منحه على شكل سندات مرهونة بعقارات للمستثمرين ويحصل منهم على عمولة ورسوم وهؤلاء المستثمرين يحصلون على عوائد من مدفوعات أصحاب القروض، قام هؤلاء المستثمرين أيضا برهن السندات على اعتبار أنها أصول مقابل الحصول على قروض جديدة لاستثمارها في شراء سندات جديدة

التساهل الكبير الذي حصل من قبل البنوك في منح الائتمان لدرجة أصبح بالإمكان اقتراض أضعاف مضاعفة من قيمة الرهن تصل أحيانا لحد 20 ضعف

يوضع تصنيف ائتماني للسندات حسب قوة الوفاء بها وهذا ما دعى لابتكار طرق تأمين جديدة على السندات الضعيفة من حيث الوفاء ، اذ يقوم صاحب السند بدفع أقساط تامين شهرية بالمقابل تتعهد شركة التأمين بسداد قيمة السند إذا أفلس البنك أو صاحب البيت

طالما أن هناك شركة تؤمن على السندات بهذا الشكل فقد تشجع الناس على الإقبال على
المزيد من السندات

وكما رأينا إن الدفعات أصبحت فوق طاقة الموظف المالية فقد توقف عن السداد وأعلن إفلاسه وكذلك فعل الكثير منهم بالتالي فقدت السندات قيمتها و أفلست البنوك واستفاد الذين امنوا على سنداتهم من إفلاس البنك أو صاحب البيت بأن يسددوا لهم كامل القيمة وهذا ما حصل بالتالي أفلست شركات لتأمين

هذه الظروف أجبرت البنوك على تخفيض عملية الإقراض مما أثر سلباً على عمل الشركات الصناعية والتجارية التي تحتاج القروض لاستمرار عملها اليومي وهكذا ظهرت بوادر الكساد في الاقتصاد بالتالي تدخلت الحكومة بضخ مليارات الدولارات لمحاولة إنعاش اقتصادها

الإجراءات المتبعة

سمعنا عن خطة الإنقاذ الأمريكية وكذلك الأوربية وفي بعض الدول الآسيوية وتم تخفيض معدل الفائدة على القروض الممنوحة حتى يقبل الناس على تسديد تلك القروض بالتالي تتوفر السيولة لدى البنوك لتقابل سحوبات المودعين التي تدفقت لضمان أرصدتهم من التبخر

الحكومة الأمريكية ستقوم بشركاء أسهم في تسع شركات مالية كبرى بالتالي تصبح الضامن لودائع الناس

العديد من الدول أعلنت ضمان ودائع الناس لحدود تصل إلى 250 ألف $ في بعض الأحيان ولمدة ثلاث سنوات

تدخلت الحكومة الأمريكية وأنقذت شركة AIG للتأمين من كبرى شركات التأمين في العالم من الإفلاس

ضخت مليارات الدولارات في كل الأسواق المالية في العديد من دول العالم حتى تحافظ على
سلامة الأسواق والثقة فيها

خطة الإنقاذ الأمريكية وكانت بمبلغ 700 مليار $ وقد انقسم الكونجرس لفريقين :

الكتلة الجمهورية: فضلت عدم تدخل الدولة بالتالي سيفلس الناس والشركات لأن إيديولوجية الدولة لا تسمح بتدخل الدولة في الأسواق المالية

الكتلة الديمقراطية : طلبت بإشراف أقوى للحكومة والكونغرس على تنفيذ خطة الإنقاذ بالتالي جاءت الخطة بشكل حل وسط بين الطرفين وهي ضرورية لكنها غير كافية لإعادة الاستقرار الكامل

يجب تفعيل رقابة الدولة والإشراف على المضاربات التي تحصل في الأسواق المالية على الأصول التي يتداولون بقيمتها تصل لعشرين ضعف القيمة الحقيقية المقومة بها حيث البيت لنفرض قيمته مليون $ يباع بشكل سند وهذا السند يستخدم للحصول على قروض وكل طرف يعتقد إن البيت ملكه وهكذاستمرت المضاربات عشرات المرات على نفس البيت

توفر جهة دولية تراقب عمل البنوك الاستثمارية ، حيث هذه الرقابة ضعيفة في النظام المالي الأمريكي فقد تداولت تلك البنوك السندات العقارية بشكل هائل وفي النهاية كان يجب أن تنهار

الأزمة كما صنفها المحللون بأنها ” أزمة سيولة ” و ” أزمة ثقة ” فالسيولة انخفضت بشكل كبير لدى البنوك والثقة فقدت لذا لجأ المودعون لسحب ودائعهم ولم تستطع البنوك تلبية طلبات السحب الكبيرة والمفاجئة لذا أعلن العديد منها الإفلاس حيث لايمكنه أيضا الاقتراض من بنوك أخرى لتلبية السحوبات ، فهذا حال معظم البنوك

أزمة الثقة تقوم الحكومة بإيجاد حل لها عن طريق ضمان الودائع ضمن حدود معينة وأزمة السيولة
ستجد حلاً لها عن طريق ضخ المليارات في الأسواق المالية

تأثيرها على سورية

على المدى القريب لن يحدث أثر كبير في الاقتصاد السوري نتيجة انخفاض التعاملات المالية بين سورية والعالم الخارجي وعدم وجود الاسواق المالية بالتالي لاتوجد المضاربات في السندات وكذلك توفر الاحتياطي الكبير من القطع الأجنبي لمواجهة التغييرات التي قد تصيب اقتصادنا

أما على المدى البعيد ربما بعد سنوات سيصيبنا آثار الكساد في الاقتصاد العالمي ، حيث سينخفض الطلب على الصادرات السورية مما يخفض القوة الشرائية لليرة السورية بالتالي تنخفض قيمتها

وانخفاض الطلب على الصادرات سيؤدي لانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بالتالي انخفاض الإنتاج الصناعي ) بالتالي ما يجعل المصانع والشركات تسرح الموظفين ( كما حدث مع بريطانيا وغيرها منذ أيام ) بالتالي تزداد معدلات البطالة

أيضا الكساد في الاقتصاد العالمي وانخفاض مستويات الدخول الفردية سيؤدي لانخفاض دخول المغتربين في الخارج مما يؤدي لخفض حجم القطع الأجنبي الوارد إلى سورية بالتالي انسحاب المستثمرون لتأمين السيولة اللازمة من دول أخرى

أيضا انخفاض مستويات الدخول الفردية في العالم يؤدي لانخفاض السياحة بشكل عام ولا أحد ينكر المساهمة الكبيرة للسياحة في الدخل القومي

فرص في الأفق

كما حدث في أزمة عام 1997 في دول شرق آسيا ( أزمة النمور الآسيوية ) وقامت الشركات والأفراد الأمريكيون بشراء شركات في كوريا وهونغ كونغ بأرخص الأسعار لأنها كانت بحاجة ماسة للسيولة وأفلس العديد منها بالتالي انخفضت قيمة أسهمها واشتراها الأمريكيون

الفرصة الآن سانحة أمام سورية لشراء مصارف أو شركات مالية متوسطة انخفضت أسهمها فأصبح سعرها مقبولاً بالتالي تحقق المزيد من الانتشار عالمياً

في النهاية يتطلب الأمر مزيداً من الوقت والجهد لحل الأزمة ولم تنتهي بعد وإن ظهر بعض التحسن في مؤشرات الأسواق المالية وإنما هي إجراءات تصحيحية لا أكثر و يعتقد أنها ستستمر حوالي عامين حتى يعود الانتعاش للاقتصاد العالمي

هل سيشهد العالم ولادة نظام اقتصادي جديد أو يعود لقواعد النظام والتقيد بها حتى لا يصاب بأزمات أخرى..


محمد حبش