نهاية التاريخ أم نهاية العقل – د.محمد سعيد الأمجد

نهاية التاريخ أم نهاية العقل

دراسة نقدية لنظرية نهاية التاريخ على ضوء التطورات

   د.محمد سعيد الأمجد

إن مقولة نهاية التاريخ ليست مقولة جديدة، بل هي اجترار لمقولات دينية وفلسفية قديمة وحديثة. فهذه المقولة تعد من المسائل الحتمية المتجذرة في المعتقد الديني الذي ربط الزمان بالخلق الأول وبمصير نهاية الإنسان المحتومة؛ ولا غرو فقد وردت في كل الديانات السماوية كما هو الحال في اليهودية والمسيحية والإسلام، مجسدة بفكرة الفناء والانتقال إلى الدار الأخرى.

 بدايات الفكرة

يخطئ من يعتقد أن فرانسيس فوكوياما كان أول من قال بأن التاريخ وصل لنهايته، فأطلق مفهوم (نهاية التاريخ) ، فقد أرّق المجتمع البشري أمر نهاية التاريخ ومستقبل الأرض الأخير منذ زمن مبكر ، واختلطت في هذه المسألة ضغوط الواقع بالخرافة والتحليلات الوضعية الفلسفية، ويجمع التصوّرات كلّها جامع التطلّع الى مجتمع مثالي…

ففي نهاية القرن التاسع عشر كان كثير من الإنكليز، حسبما ينقل توينبي، يعتقدون أن التاريخ وصل إلى نهايته، وكان يشاطرهم في اعتقادهم هذا معاصروهم الغربيون من أهل الأمم الأخرى. (بمن في ذلك قسم من أهل الأمم المغلوبة على أمرها) ففي شمال الولايات المتحدة، على سبيل المثال، كانت الطبقة المتوسطة ترى أن التاريخ انتهى حين تملكت الأقاليم الغربية، وانتصرت الولايات الشمالية على الجنوب في الحرب الأهلية. وفي ألمانيا، أو في بروسيا على الأقل، كانت هذه الطبقة نفسها ترى أن التاريخ وصل إلى هذه النهاية الدائمة بقهر فرنسا وتأسيس الرايخ الثاني سنة 1871.

(فيما بعد، أصبح التقدم العلمي الكبير الذي تشهده الولايات المتحدة والغرب عموماً، ومن ثم سقوط المعسكر الاشتراكي، مسوغاً كبيراً لدى عدد كبير من المثقفين الأميركيين والغربيين، لتبني الوهم الخادع بنهاية التاريخ بالنسبة لهم على نحو حسن وملائم بانتصار الليبرالية والرأسمالية

وقد اعتبر توينبي أيضاً أن اصطدام الحضارة الغربية بمعاصريها في القرن العشرين هو أهم حادث في هذا العصر، لأنه كان “الخطوة الأولى نحو توحيد العالم في مجتمع واحد” منبهاً إلى أن الغرب لا يزال في الفصل الأول فقط من قصة صراعه مع حضارات المكسيك، وبيرو والمسيحية الأرثوذكسية، والإسلام والهندوس والشرق الأقصى (يجدر لفت الانتباه هنا إلى أن ما يقصده توينبي بـ”المسيحية الأرثوذكسية” هو الحضارة الروسية في عهدها السوفييتي، حيث يرى أن الروس أخذوا الماركسية، كفلسفة اجتماعية دينية غربية، وحولوها إلى بدعة دينية أو دين خاص بهم، ثم بدأوا يحاربون الغرب به).

إن مقولة نهاية التاريخ ليست مقولة جديدة، بل هي اجترار لمقولات دينية وفلسفية قديمة وحديثة. فهذه المقولة تعد من المسائل الحتمية المتجذرة في المعتقد الديني الذي ربط الزمان بالخلق الأول وبمصير نهاية الإنسان المحتومة؛ ولا غرو فقد وردت في كل الديانات السماوية كما هو الحال في اليهودية والمسيحية والإسلام، مجسدة بفكرة الفناء والانتقال إلى الدار الأخرى.

وفي الفلسفات القديمة نجد زرادشت يصور نهاية التاريخ في نقطة الالتقاء التي يتصارع فيها الخير والشر أيضا، فينتصر الأول على الثاني. كما أن مقولة التيموس مأخوذة من سقراط وأفلاطون، وبالمثل فإن مقولة الإنسان الأخير مقتبسة من نيتشه. والقول ببداية التاريخ والدولة الليبرالية مقولات هيجلية، دون أن ننسى محاولات المفكر الألماني ماركس في تعديل المقولات الهيغيلية، والقول هو أيضا بنهاية التاريخ بعد صراع طويل بين البورجوازية والبيروليتاريا، وحتمية انتصار هذه الأخيرة ونهاية الدولة التي لا يصبح لها آنذاك أي مبرر للوجود بعد انتفاء التناقضات السوسيو-اقتصادية.

كما أن بعض المدارس التاريخية أثارت خلال القرن الماضي مشكلات فلسفة التاريخ ومقولات التقدم والتخلف في صيرورته وإمكانية التنبؤ بنهايات محتملة، ويكفي ذكر نموذج سبنجلر الذي تنبأ في كتابه (سقوط الغرب) بنهاية العالم الغربي حضاريا على الأقل.

وفي الستينات من القرن العشرين تضخمت خطابات ومقولات نهاية التاريخ بعد تصاعد مزاعم نهاية الإيديولوجيات مع عالم الاجتماع كارل لبست K. Lipest.

والحاصل إن ما قام به فوكوياما لا يعدو أن يكون طرحا إحيائيا أو بعثا لفكرة النهاية، وإعادة صياغة للأفكار القديمة والحديثة التي بحثت في ملفها؛ ولا غرو.. فقد ظل تتراوح  بين فكرة الإنسان الأخير عند زرادشت ونتشه، والاعتراف عند هيغل، والحتمية التاريخية عند ماركس.

نقد الاطروحة

ثمة نظرة فلسفية للأمور, أوصلت الفيلسوف الأمريكي الياباني الاصل ( فرنسيس فوكوياما ) عام 1989م , إلى نظريته المتمثلة بأن انتصار الرأسمالية يعني ( نهاية التاريخ ) , وأن قيمة الإنسان مستمدة مما يملكه, وبالتالي فإنّ فقدان الملكية يعني انعدام قيمة مالكها , وبناء عليه فإن المجتمعات البشرية ستكون أمام أحد خيارين: إمّا أن تأكل , أو أن تؤكل!.
وهنا توجد مجموعة من الملاحظات يمكن أن توجه إلى أطروحة فوكوياما في تكوينها الداخلي كمنظومة فكرية، نذكرها على شكل انتقادات عبر نقاط نعتقد أنها تشكل الحلقات الضعيفة في تلك الأطروحة ونوجزها في الآتي:

غموض المصطلح

وفكرة النهاية في حد ذاتها تتسم بالغموض، إذ لا يشعر الفاحص لتأملات فوكوياما ما إذا كانت هذه النهاية أبدية أم نهاية تتلوها بداية، وهو ما اعتبره بعض الباحثين حلقة ضعيفة في تفكيره إذ كيف نقبل بنهاية ونحن لم نعرف بعد البداية الحقيقية. وإذا كان قد اقتبسها من هيغل فقد فاته أن الأخير أعلن فكرة النهاية تاريخيا مقابل البداية فلسفيا، وأن فكرة النهاية تنتمي للتاريخ دون أن تعلن طلاقا مع الفلسفة.
فما دام ثمة زمن وثمة أحداث تقع وتتابع فهل يمكن للتاريخ أن ينتهي؟ ثم وفق أي معيار، نصف حدثاً ما بأنه تاريخي، بينما نحجب هذه الصفة عن حدث آخر؟ وهل ثمة علاقة سببية وعقلية تربط بين الأحداث المتعاقبة وتدفعها للوصول إلى غاية ومستقر لها؟! لذا فإن مصطلح (نهاية التاريخ) ينطوي على مفارقة وعلى تناقض داخلي، كما يقول هنري لوفيفر يقول بأن (التاريخ لا يتعرف إلا بغاية، الغاية وحدها تسمح بتصور الصفة التاريخية وبغيرها لا يوجد تاريخ بل فوضى. العقلانية هي الأخرى تفترض الهدف، الحد النهائي، أو الغاية. فالعقلانية والغائية، حسب لوفيفر أيضاً، متلازمان وتعرف أحدهما الأخرى .. تتضمن العقلانية ترابط الوقائع وتسلسلها وفقاً لنوع من السببية الصورية أو الفعالة والتي لا يمكن تصورها عقلانياً إلا وفقاً لسبب غائي).

بيد أن لوفيفر نفسه، يعود ليقول بأن الغايات المفترضة فقدت معناها أو توشكه. وبأن التاريخ ، منذ أكثر من قرن، لا يحقق أياً من هذه الفرضيات، فرضيات هيغل وماركس، أو الغايات الليبرالية والتقدمية. ويخلص إلى القول بأن التاريخ لن ينتهي إلا وهو يتجه نحو الموت. ولذلك يتجه للبحث عن مخرج منه، من نهايته أو موته

خطأ نهاية الدولة

فحتى بالنسبة لنظرية هيغل حول نهاية التاريخ، والتي جعلها مرجعية أساسية في أطروحته، أثبت التطور التاريخي خطأ نظريته القائلة بنهاية التاريخ عند مرحلة الدولة الليبرالية.

ولا ادل على ذلك من  بروز تيارات فكرية في أوروبا بعد ظهور نظرية هيغل خلفت آثارها على حركة التاريخ البشري خلال القرنين 19 و20، ممثلة في التيارات الاشتراكية والفاشية والنازية والوجودية والسريالية، فضلا عن التيارات القومية والدينية والإيديولوجية التي لعبت أدوارا أساسية في المجتمعات الحديثة، ولا تزال تلعبها في عز النظام الدولي الجديد.

فهيغل، مثلاًً، كان يرى أن التاريخ يصل إلى معناه، أو غايته، بتحقق الفلسفة بوصفها نظاماً سياسياً، أو نظرية الدولة التي تضفي الشرعية على ممارساتها. تكتسي الدولة عنده صفة مطلقة، شبه إلهية. أما ماركس فكان يعتقد بأن التاريخ يصل إلى مبتغاه (وعند بعض الماركسيين إلى حتميته) من خلال الثورة البروليتارية، التي تقيم مجتمعاً لا طبقياً، وتوفر فرصة سيطرة الإنسان على الطبيعة، وبناء اقتصاد الوفرة.
كان هذا يتطلب في رأيه تلاشي الدولة أو إضمحلالها، بوصفها أداة للسيطرة البورجوازية، من دون أن يخوض على نحو واضح وواف بماهية البديل الذي سيحل محل الدولة

لا انقطاع في حركة التاريخ

إن المنطلق الذي انطلقت منه مقولة نهاية التاريخ هي فكرة  مفادها إمكانية حدوث الانقطاع في صيرورة التاريخ، علما بأن التاريخ يسير دوما في حركة تصاعدية لا تعرف الانقطاع أو الدائرية، ولا يمكن أن تتوقف بإرادة ذاتية من شخص معين كان باحثا أو مهندسا أو سوسيولوجيا أو محترفا لأي مجال من مجالات البحث العلمي، علما أن من أبجديات التعريفات المتواترة للتاريخ أنه علم تطور الإنسان داخل مجتمع ما، يعيش تغيرات عدة نتيجة الصراعات اللامنتهية وحاجات البشر التي لا تنقطع ، ولم يكن إشباعها إشباعا نهائيا منذ أن بدأ الخلق إلى أن تقوم الساعة.

ولا شك أن سعي الإنسان لتحدي الطبيعة وتحدي التحدي بتعبير أرنولد توينبي ما تزال وستظل مقولة تمارس تأثيرها على البشر وعلى حركة التاريخ، خاصة من ناحية التحدي العلمي.

ومهمة المؤرخ تكمن في ملاحقة هذه التغييرات وكتابتها انطلاقا من المرجعية الوثائقية، وهي مرجعية تتغير باستمرار بفضل ما يتم الكشف عنه من وثائق جديدة تعطي مناهج متعددة يغتني بها علم التاريخ، وتعجل بظهور مقولات جديدة، لكنها ليست مقولات نهائية، بل هي مقولات تتغير باستمرار ما دام التاريخ يتغير ويسير بإيقاع قوي، فلا معنى إذن لوضع نقطة نهاية لتاريخ تعد كل نقطة فيه بداية مرحلة جديدة، ما دام الجدل يشكل صيرورة مستمرة تعبر عن نهاية حقبة لتعلن عن ميلاد حقبة أخرى، مصداقا للرؤية القرآنية:((وتلك الأيام نداولها بين الناس)).

صحيح أن ثمة علامات تنحت نفسها وتشكل منعطفات حاسمة في مسيرة الزمن، بدءا من هبوط آدم من الجنة ووقوع الطوفان ومبعث الأنبياء، مرورا باكتشاف أمريكا وظهور آلة البخار، وصولا إلى الثورة الفرنسية والحربين العالميتين وظهور الانترنيت، وكلها محطات هامة غيرت من وتيرة تاريخ البشرية، وشكلت نقطة نهاية عصر وبداية عصر آخر، لكنها لم تشكل نقطة انقطاع في التاريخ.

وبكلمات أخرى، فإن هذه المحطات الحاسمة لا تجسد نقط بداية أو نهاية بقدر ما هي أحداث كبرى وقضايا ثقافية تساهم في فرز نظرية للمعرفة. والتاريخ بهذا المعنى لا يتوقف في كليته أو شموليته، وإنما تتحول بعض الظواهر الجزئية فيه، وهي الظواهر التي عممها فوكوياما، متخيلا أنها تؤدي إلى النهاية، متناسيا أن التاريخ حركة كلية ديناميكية متدفقة ومتجددة، تندرج فيها حركة الكون والأرض والإنسان والمجال بجميع حيثياته وأبعاده، منذ بدأ الخلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والحاصل أن الجبرية التي يتحدث عنها فوكوياما والحالة الإلزامية التي يسعى لفرضها على مسار الإنسانية بهذه الميكانيكية العمياء، لم يحن أوانها بعد، لأنها اتخذت أبعادا وتأويلات بعيدة عن المرجعية التاريخية الدقيقة.

وبعد فالرؤية الاسلامية لنهاية التاريخ ليست دعوة وطنية أو قومية ضيّقة، وهي ليست أيديولوجيّاً شعب الله المختار أو المجتمع النموذج المجسِّد لنهاية التأريخ سواءً في صورتها الهيجلية (الدولة) أو في صورتها الماركسية (المجتمع الشيوعي) أو في صورتها الديمقراطية الليبرالية التي طرحها فوكوياما..
انّ أساس الأخلاقية ـ هنا ـ يكمن في كون الإنسان عاجزاً عن الانتصار على قوى الشرّ (الذهنية والسلوكية والاقتصادية والحضارية) دون إمداد غيبي. فوعي الإنسان بعبوديته ونسبيّته أمام كمال الله يفتح أمامه آفاقاً لا حدود لها للتحرّر من الشرّ

النهاية المقطوعة للتاريخ

هل ستظل في مراحل ما قبل التاريخ كما يشير إلى ذلك فوكوياما في معرض حديثه عن نهاية عصر الإيديولوجيات الكبرى، أو لا يشكل ذلك تناقضا مع فكرة نهاية التاريخ التي يفترض أن تكون كل المشاكل الاقتصادية والسياسية والعرقية قد حلت معها؟

على عكس هذا الاتجاه، فإننا نجد أن الهوة بين الشمال والجنوب والدول الغنية والفقيرة قد زادت اتساعا، وبرزت القوميات العرقية بحدة في البوسنة وكوسوفو وجنوب الفلبين وغيرها من أرجاء العالم ، وأصبح التطرف الديني وانتشار الإرهاب بكل أنواعه يؤكد أن التاريخ لم ينته بقدر ما بدأ.

إذا كان فوكوياما قد أكد على أن ثبات الديموقراطية الليبرالية هو الطريق الوحيد الذي يجب سلوكه لدخول التاريخ الكوني، معتبرا أن كل المراحل السابقة على الديموقراطية الليبرالية مراحل ما قبل التاريخ ، وبأن بوصول المجتمعات البشرية إلى هذه المرحلة من التاريخ الكوني ينتهي التاريخ، فإنه يناقض نفسه بوضوح في ارتكاز تحليله على البعد المركزي الأوروبي، وهو البعد الذي طالما انتقده بشدة إدوارد سعيد.

وهذه واحدة من المآخذ التي تؤاخذ كذلك على أطروحته حول نهاية التاريخ. فعلى الرغم من أن فلاسفة عصر الأنوار ومؤرخي الحضارات ورواد التاريخ الجديد الذين جاءوا من بعدهم قد تحدثوا عن التاريخ الكوني وشمولية التطور البشري ، فقد ظل هذا التاريخ في عالميته وتطور سيرورته يخضع للزمن الأوروبي ، بينما أزمنة المجتمعات الأخرى مجرد دوائر تحيط بالمركز، وليس لها أي تأثير في مجريات تطور الإنسانية.

فالتاريخ الأوروبي في نظر فوكوياما هو التاريخ الجوهري المستمر، بينما تواريخ العالم الآخر مجرد تواريخ سطحية عارضة يمكن القفز عليها ، ومن ثم فإن نهاية التاريخ تتجسد في إخضاع الأوروبي-الغربي المنتصر لغير الأوروبي كتاريخ متخلف.

ومن هذا المنطلق اتخذ فوكوياما من التاريخ موقعا متشائما في وجه المجتمعات غير الأوروبية، فعندما يقف المفكر الأوروبي في موقع مرجعي غير الذي انطلق منه صاحب أطروحة نهاية التاريخ ، فإنه يرى الواقع المعاصر لا من حيث نهايته للتاريخ، بل هو استمرار لتاريخ لم ينته بعد بالمعنى الذي يجري وراءه  فوكوياما ، لأن إنسان العالم الثالث لا تزال تكبله مشكلات عديدة تحول دون وجوده على خط السير نحو الليبرالية الديموقراطية!.

وفي حقيقته ان هذا النمط من التفكير بالتاريخ واحداثه يعكس احادية النظرة اليه اذ لا دليل على حقّانية هذا النموذج أو صلوحه للعالمية أو انطوائه على صفتي العدل والحكمة. بل الدليل على خلافه:
(انّ التفاؤل بصدد انتشار العادات والمبادئ الغربية، لا يتطلّب اعتقاداً ساذجاً بالتقارب ـ كما يعلم هنتنغتون ـ فإنّ الصيغ المتطوّرة لنظرية التحديث لم تتوقع أبداً تقارباً للثقافات والمجتمعات في نموذج غربي عالمي)
و (سيبقى القليل من الحياة الغربية الفعلية مما يتّسم بكونه نفيساً أو متفرداً

(فأسوأ ما يقال عنها ـ يقصد أطروحة هنتغتون ـ إنّها توفّر ذخيرة فكرية زائفة للقوميين في كل مكان
فالتطلع الى آخر نقطة قادمة في التاريخ وفقا للرؤية الاسلامية ـ ليس نهايةً للتأريخ أو تنبّؤاً محدوداً بنقطة زمنية قادمة أو سيادة حضارة وتفوّقها على غيرها تكنولوجياً أو اصطدامها معها.

اشكالية التحليل التاريخي

في تحليل فوكوياما الخاص بدور الاستعمار في تطور المجتمعات الإنسانية ودور الإمبريالية الرأسمالية في التمهيد لانتصار الليبرالية واتجاه بوصلة التاريخ نحو النهاية، أغفل عن عمد أو بدون وعي في تحليله التاريخي أن النظام العالمي الجديد الذي بشر به على الصعيد الفكري يضرب بجذوره في عمق التاريخ الإمبريالي الذي كان في سبيل تسويق فائض إنتاجه لا يتورع عن استعباد الشعوب وإبادتها.

وهكذا بإغفال فوكوياما لهذا العنصر كمكون أساسي للتاريخ الحديث والمعاصر، يكون قد أخطأ في المنهج الذي انطلق منه، والمنهج الخاطئ أصلا، لا يمكن إلا أن يفرز نتيجة خاطئة.

ومن الملاحظ كذلك أنه انحاز مقابل في تحليله لحركة التاريخ إلى مقولة الحاجة إلى الاعتراف التي صاغها هيجل ضمن منظوره للديموقراطية الليبرالية كزواج ببين العقل والحرية وضمان للتعددية، ومعنى ذلك أنه أغفل التحليل الملموس للواقع المعاش والعناصر الفاعلة في التطور التاريخي، مما أسفر عن فراغ في حصيلة التحليل.

وقد يكون كتاب  فرنسيس فوكوياما  من أهم الكتب التي صدرت على الصعيد الأيديولوجي في الولايات المتحدة الأمريكية قبل استعمارها العرب، وبعد تفكّك الاتحاد السوفياتي بكل ما يمتلكه من ممتلكات.‏ لكن  فوكوياما، لا يعتمد على قوة الكتاب الفكرية، ولا على الحقيقة التاريخية.. بقدر ما يستند على المتغيرات، أصولية، أو سياسية، أو ما تنتجه المصطلحات الاستراتيجية.‏

الذي يقرأ نهاية التاريخ جيداً سيواجه مستويين للنص؛
أحدهما المصّرح عنه، وهو جملة التحليلات السياسية المتناهية دائماً .‏

أما المستوى الثاني فإنه يتعلق بالمقدمات الفلسفية الشمولية، أي بالقصد الذي هو عقيدة الكاتب.‏
نحن إذاً، أمام اغتصاب جديد لمفهوم التاريخ، وحركته، ونهايته، مع أنه يأخذ شكل التأويل ليبني مشروعاً إيديولوجياً في عصر تّم الإنفاق على وصفه بأنه عصر انهيار الإيديولوجيات، ومن أهم ما بشّر به فوكوياما، هو التقسيم الجيوسياسي ـ أي الجغرافيا السياسية تحديداً ـ تحت القناع الفلسفي الذي مهمته ـ تقسيم الإنسانية بحسب فرز الثقافات، إلى ما يمتّ رجعياً إلى التاريخ

وبالمثل، يلاحظ أن فوكوياما لم يستثمر المعلومات التاريخية المتوافرة عن بعض المجتمعات ذات الخصوصية التاريخية مثل المجتمعات الإسلامية. فباستثناء إشارات شاحبة حول إيران فإن كتابه لا يتضمن سوى معطيات هزيلة من تاريخ المجتمعات الإسلامية ودورها في مستقبل الصراع العالمي وبناء المجتمع الدولي الجديد، وهو ما سبق أن أكدته دراسات فكرية سابقة، أو أثاره ولو بكيفية سلبية مفكرون معاصرون من أمثال صمويل هانتغتون.

ضرورة الاحتكام للاسس العلمية

أجمع النقاد على أن التاريخ لن ينتهي ما دامت العلوم الطبيعية المعاصرة لم تبلغ غايتها ونهايتها بعد ، وأنه لا يمكن وضع حد للعلم، والعلم هو وحده الذي يقوم الصيرورة التاريخية.

وبالتالي فإن التاريخ لن ينتهي في مجتمع لا يزال ينتج العلوم، بل إنه تشكل اللحظة الراهنة زمنا متميزا تعرف خلاله البشرية صحوة تكنولوجية وتجديدا هائلا في شتى علوم الحياة، مما يوحي ببداية تاريخ جديد سيستمر بعطاءات إنسانية جديدة وإبداعات بشرية خلاقة بدل أن يكون نهاية حتمية مزعومة.

وإذا كانت المسافات قد تقاربت في عصرنا بفعل تقدم وسائل الاتصالات , فإنّ الجمع بين المواصفات القياسية للبشر والحيوان في عصرنا هذا , قد بات أمراً واقعاً وملموساً بعد أن سيطرت على البشرية القيم المادية البحتة , وأصبحت معها القيم الفاضلة والأخلاق الحميدة من الندرة بحيث أصبح معها حاملوها غرباء في مجتمعاتهم..

وقد اعترف فوكويامو نفسه فيما بعد بضرورة الاستفادة من معطيات علوم الطب والاحياء فعا في مقال لاحق ليدعو الى الاستفادة من عقاري (البروزاك والريتالين):إذ يقول:(..أنه يؤثر على مستوى السيروتونين في الدماغ. الذي يرتبط بالمشاعر الخاصة بالثقة بالنفس وبتقدير الذات. كما أن للسيرتونين دور في التنافس على تسلسل المكانة لدى الرئيسيات من الثدييات. ويشعر الشمبانزي بانتشاء السيروتونين عندما يحقق مكانة الذكر الأولى. وعن طريق تنظيم السيروتونين في دماغ الشمبانزي يمكن للعلماء أن يعيدوا ترتيب التسلسل الهرمي الخاص بالهيمنة في مستعمرات الشمبانزي وهذا الكلام وان كان حقيقيا وثابتا علمياً إلاّ أنه يتعلق بالسيروتونين (الإفراز الطبيعي) أما الأدوية المعيقة لتثبيته (على شاكلة البروزاك) فلها شأن آخر…و بما أن عدد النساء اللاتي يملن للإكتئاب أكثر من الرجال فإن بروزاك تستخدمه النساء على نطاق واسع. واحتفي بالدواء في كتب عديدة وله (مثل الريتالين) استخدامات لا خلاف على أثرها العلاجي. لكن عدداً غير معروف من ملايين مستخدميه يسعون وراء ما يسمى بعلم العقاقير التجميلي…

ثم يصل فوكوياما للربط بين آثار الدواء وبين نطرية هيغل المتعلقة بالكفاح لجلب الاعتراف. حيث يرى الببروزاك طريقاً مختصراً يستبدل الكفاح من أجل الإعتراف (الذي يقتضي بناءً شاقاً للنظام الإجتماعي العادل) بحبة دواء (تجلب للإنسان الرضى عن النفس وتقدير الذات) تلغي ضرورة السعي إلى التغلب على الذات بكل قلقها ومحدوديتها!

والحقيقة ان البشرية لم تصل إلى التقدم والرخاء , بل صار التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي وتزايد الفروقات بين البشر , أهم مميزات العصر الأمريكي الراهن , وباتت معها أسواق المال العالمية اليوم , أشد خطراً على الاستقرار العالمي من الأسلحة النووية ذاتها .

إنّ مفهوم المال في حضارتنا وتراثنا يختلف عما هو عليه في الحضارة الكونية الحديثة , فهو عندنا موجود لخدمة البشر والمجتمع , فكل ثراء لا يزيد من فرص العمل مرفوض , وكل تكديس للثروات مرفوض , فالثروات في حضارتنا العريقة ليست سوى وسيلة من وسائل التكافل الاجتماعي غرضه تحسين مستوى معيشة الأمة والمجتمع ( فرادى وجماعات ) , إذا ما أنفقت في وجوه الخير , خلافاً لما هو عليه الحال في الحضارة الحديثة التي جعلت منها معبوداً يلهث وراءه , ويتقرب إليه , أصحاب النفوس الضعيفة والمهزوزة , ممن أعمت حمى الاستهلاك وتكديس الثروات بصيرتهم

عدم توظيف معطيات الاقتصاد

من المسائل التي تثير الانتباه أن فوكوياما يعالج في كتابه قضايا اقتصادية حساسة مثل العمل والشركات والأرباح والبورصات والسوق العالمية والتضخم والاستغلال، ويطلق في ذلك أحكاما نهائية ويقينية ، علما بأن القضايا التي يناقشها في امتدادها الزماني والمكاني تتطلب بعدا معرفيا اقتصاديا كبيرا، وتستلزم فرق بحث متخصصة في الحقول المعرفية الأخرى التي يطرحها، فضلا عن امتلاك إحصائيات دقيقة متطورة لإثبات صحة ما يذهب إليه.

وفي النصف الثاني من مقالة فوكويامو الجديدة المذكورة اعلاه يسجل قفزة من نهاية التاريخ إلى نهاية الأنثروبولوجيا. فيعيد طرح مسألة المحركين: الاقتصادي والاعتراف. فيرى أن طرحه الأولي لنهاية التاريخ هو طرح يقف على عدم واحدة هي الاقتصاد.

في حين أن النهاية الحقيقية للتاريخ ستقف على قدمين أولهما الاقتصاد وثانيهما الاعتراف الذي ستقدمه التكنولوجيا الاحيائية هدية للبشرية فتخلق نوعاً جديداً من البشر لا يحتاج للاعتراف لأنه متشابه!

نتائج البحث

ان مقولة نهاية التاريخ ، تتقاسمها مجموعة من الفضاءات المعرفية المختلطة، المفتقرة إلى التنظيم لتحمل قضايا معقدة لا تمت بصلة إلى موضوع وهو نهاية التاريخ، ولا ترتبط بدراسات تاريخية بمعنى الكلمة.تتداخل فيها الفلسفة والاقتصاد والسياسة والمجتمع والبيئة والتربية والحقوق والديموغرافيا، دونما حاجة علمية إلى هذا التداخل.

وتتسع رقعتها لتشمل الزمن القديم والوسيط لتصل به إلى عصر العولمة، دون تدقيق في الأمور التي تستحق التدقيق. وداخل هذا الكوكتيل المتلألئ، يحاول القارئ أن يمسك بموضوع الأطروحة ليجده سمكة في الماء يصعب قبضها بإحكام.

إن المتأمل للنتائج التي خرجت بها هذه الاطروحة ، لا يجد فيها أي جديد، فكل ما ذكره هو تكرار ممل لما طرح في سوق الثقافة الرأسمالية منذ أمد بعيد، واجترار لما قتل بحثا ودراسة من طرف المؤرخين والفلاسفة.

وقد سقطت في شباك التحيز حين وضع صاحبها فكرته في خدمة السياسة الأمريكية الرأسمالية، وصاغ أفكاره بروح انبهارية تحت نشوة انتصار النظام الدولي الجديد…

إن هذا التوجه المهندس سلفا، جره إلى السباحة في عالم تخيل فيه أن التاريخ قد انتهى وأغلق أبوابه بعد انتهاء الحرب الباردة، متناسيا أن بوادر تكتلات سياسية أخرى بدأت تطفو ملامحها مع كل من روسيا والصين والهند، كما أن أوروبا نفسها بدأت تعلن عدم انصياعها لنظام العولمة الجديد، دون أن ننسى أن القوى التحررية الإسلامية بدأت في الانتفاض والتفكير في تكتلات إقليمية وجهوية، وتطمح ليكون لها موقع قدم في خارطة القوى المؤثرة رغم هيمنة الغرب.

وبالعودة إلى شائعة (نهاية التاريخ )نجد أنها تعبر عن حلم أميركي من النوع التبشيري. حيث الدستور الأميركي (الإنجيل الجديد) بمبادئه الليبرالية يسود العالم!. لكن شهرة هذه الشائعة إنما أتت من معارضيها المتضررين منها. حيث يعترف فوكوياما في مقالته الراهنة بقوله:… من الصعب أن نصدق في اللحظة الراهنة وجود زاوية لم تنتقد فرضية نهاية التاريخ من خلالها(

ومع ذلك فإن فوكوياما يتجاهل أن حلم الانتشار العالمي هو حلم جميع المذاهب التبشيرية سواء كانت دينية أو أيديولوجية، بل أن هذا الحلم يتكرر بصورة أخرى لدى المذاهب غير التبشيرية عبر طموحها لسيادة الآخرين والسيطرة عليهم مع حرمانهم حق المشاركة في الفكرة

لكن الدرس الأهم الذي يمكن لنا، بل وينبغي أن نستخلصه من كتب التاريخ، هو أنه ليس ثمة قضاء محتوم لا حيلة لنا فيه وليس لنا إلا أن ننتظره مكتوفي الأيدي، مستسلمين إلى قضاء لا مهرب منه ولا سبيل لتعديله، بل هناك أمور مرجحة أو محتملة فقط يمكن أن تقع في مستقبلنا. هنا يصبح درس التاريخ ليس كشفاً عن طوالع وغيبيات، كما يفعل المنجمون، بل كأنه الخريطة المفروشة أمام الملاح وبوصلته التي تيّسر له إمكان تجنب الغرق، خلافاً لما سيكون عليه الحال لو سار على غير هدى. هذا يحتم علينا إذن أن نشمر عن ساعد الجد ونعمل بهداية العبر والدروس التي يوفرها لنا التاريخ.

وأن الحالة العربية تجلس على فوهة بركان في حين تتجنب النخب العربية تبدو إما غير مكترثة أو غير مبالية، أو أنها تكتفي بشتم الغير وتحميله المسؤولية كاملة وحده، وتنشغل في الوقت نفسه بتبرير أخطائها وسياساتها الكارثية.

وهذا مساوق للتحذير عن الانخراط والانبهار بدعوات الآخرين وتقليعاتهم حول نهاية التاريخ ومصير البشرية، والتي يكون فيها الإنسان منفعلاً ومتأثراً بقوى تأريخية أو سياسية خارجة عن إطار القيم الأخلاقية وتأثيرها في صناعة التأريخ… هذا هو صمام الأمان وليُصرْ بعد ذلك إلى (تساؤلات العقل النقدي أو تساؤلات العقل الديالكتيكي أو العقبات الأبستمولوجية التي يواجهها البحث العلمي المعاصر)…

والفكر الاسلامي نصّاً وتجربةً بصدد التمييز بين الوعي الصحيح والخاطئ بغض النظر عن مناهجه وآلياته ووسائله ومصطلحاته… وصولاً إلى تأطير الناتج من عملية الوعي بإطار قيمي غائي..عبر ابراز المعادل الموضوعي لهذه الاطروحة وغيرها وهو (التطلع) ، فالتطلع هنا ـ ليس نهايةً للتأريخ أو تنبّؤاً محدوداً بنقطة زمنية قادمة أو سيادة حضارة وتفوّقها على غيرها تكنولوجياً أو اصطدامها معها..ليس هو تطلعاً لإنسان فرانسيس فوكوياما أو صاموئيل هنتنغتون أو ماك موهان أو كارل بوبر… انّه تطلع المستضعفين لنور الله ووعده بالانتصار الأخير ووراثة الأرض، الاستضعاف المؤسس على قيم أخلاقية كونية وروحانية ملتزمة سياسياً وحضارياً ومؤثرة في حركة التأريخ.

المصدر: http://www.zeitoonah.com/pages/left/2008/8/1.html