لحماية الريال من التضخم…الذهب مستودع أمين للثروة النقدية
د. يوسف بن أحمد القاسم
أستاذ الفقه المساعد بالمعهد العالي للقضاء
كثر الكلام هذه الأيام حول فك ارتباط الريال بالدولار، إثر الانخفاض الملحوظ الذي مني به الدولار الأمريكي، وماله من آثار سلبية على العملات المرتبطة به، ومنها الريال السعودي، ومن هنا جاءت المقترحات العديدة حول تعويم الريال (أي تحريره)، أو ربطه بسلة عملات (منها الدولار، واليورو، والجنيه الاسترليني)، أو إبقاء الارتباط بالدولار مع رفع نسبة الصرف، أو إبقاء الحال على ما هي عليه؛ لما قد يكون للتغيير من سلبيات تفوق حجم إيجابياته، وقد أشعل جذوة الحديث عن هذا الموضوع ما قامت به الكويت قبل فترة، من فك ارتباط عملتها النقدية (الدينار) بالدولار، وربطها بسلة عملات، مما أثار جدلا واسعاً حول هذه الخطوة الجريئة التي اتخذتها هذه الدولة الخليجية، وأثره الإيجابي أو السلبي على الدينار الكويتي، وأثره أيضاً على توحيد العملة الخليجية الذي تبشر به دول الخليج عام ٢٠١٠ م.
إننا لا نشك أبداً أن كل عملة نقدية تكتسب قوتها بما لها من رصيد اقتصادي، وما لها من ناتج محلي، وما لديها من مخزون احتياطي، ومن هنا كان للدولار قوته وقيمته النقدية، إلا أن الدولار يبقى في النهاية ورقة معرضة للانهيار لأي عارض اقتصادي، وربما سياسي، وهنا أتساءل: لماذا يبقى الريال أسير الدولار، رغم هذه المخاوف التي تحيط به؟ ولماذا لا يكون هناك تفكير جاد بربط الريال بأنفس معدن، وهو الذهب؟
لقد كان الدولار ذاته قبل عام ( ١٩٧٣ م) مرتبطاً بالذهب، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية متعهدة بتسليم أونصة من الذهب لكل خمسة وثلاثين دولاراً، ولهذا كان للدولار آنذاك ثقله بين العملات النقدية، وكانت ثقة الدول في الدولار في أوجها، أما اليوم فمؤشرات انخفاض الدولار تلعب دورها، لا سيما وأنه لم يعد سراً أن مئات الملايين من الدولارات تطبع دون رصيد! وهذا يبشر بمخاوف كثيرة، بدت تطفو آثارها على السطح. جاء في الموسوعة العلمية للذهب والمجوهرات ص ١٧٣ ما نصه:”بعد
أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها، أفاق العالم على الدمار والخراب الذي سببته الحرب للدول الأوروبية، والغنى والانتعاش الذي حققه الاقتصاد الأمريكي بعيداً عن ساحة الحرب، ومزودًا لها بالعتاد ١٩٤٤ م أخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة للدعوة إلى مؤتمر عالمي لتقرير نظام /٧/ والسلاح، وفي ١ نقدي ينظم العلاقات الاقتصادية النقدية بين دول العالم الرأسمالية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية،
واجتمعت أربع وأربعون دولة في مؤتمر عالمي بمدينة (بريتون وودز) في الولايات المتحدة الأمريكية للبحث في تنظيم العلاقات الاقتصادية والنقدية بين هذه الدول، فخلال فترة الحربين العالميتين وأزمة الكساد العالمي تبنت الدول الرأسمالية أنظمة نقدية مختلفة، وتعددت علاقات العملات الوطنية بالذهب، واعتمد النظام النقدي الحديث على علاقة جديدة للنقد الورقي مع الذهب والدولار الأمريكي، وتمخض عن اجتماع (بريتون وودز) تأسيس صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، كمنظمتين عالميتين لتطبيق السياسات النقدية التي تم الاتفاق عليها، وقد نص النظام الأساسي لصندوق النقد الدولي بأن تعرض كل دولة عضو عملتها الوطنية مقابل الذهب أو الدولار الأمريكي بالوزن ١٩٤٤ م، ويقوم هذا النظام على دعائم منها: تثبيت سعر الدولار /٧/ والعيار السائدين بتاريخ ١ بالذهب، وقابلية تحويله إليه بواقع ٣٥
دولارًا للأونصة…، وأصبح الذهب والدولار الأمريكي يستخدمان في إطار النظام النقدي الجديد لتعريف الوحدات النقدية في النظام الرأسمالي، وبذلك تعرف الوحدات النقدية إما بشكل مباشر بالنسبة للذهب، أو بشكل غير مباشر بالنسبة للدولار الأمريكي، الذي بقي العملة الوحيدة القابلة للتحويل إلى ذهب، واحتل الدولار الأمريكي–كعملة وطنية– مركزاً مماثلاً للذهب في النظام النقدي العالمي…، وقد ساعد على هيمنة الدولار الأمريكي على النظام النقدي العالمي ما توفر للولايات المتحدة من مخزون ذهبي كبير، نتيجة بيع السلاح والعتاد للدول الأوروبية المتحاربة، كما مكنت المنظمتان العالميتان اللتان
تأسستا لرعاية هذا النظام، من تدعيم وضع الدولار الأمريكي باعتباره عملة عالمية ترتبط بالذهب مباشرة…، وحققت الولايات المتحدة في اتفاقية (بريتون وودز) مكاسب اقتصادية هائلة؛ حيث استحوذت على كميات كبيرة من ذهب العالم، وتربعت على عرش النظام النقدي العالمي…، ونتيجة لاعتماد النظام النقدي العالمي المفرط على الدولار الأمريكي، تجمع الذهب– الذي لا وطن له– في الولايات المتحدة، وأدى تزايد الطلب من الدولار بدل الطلب من الذهب إلى تدعيم العالم أجمع للاقتصاد الأمريكي، بحيث أتاح هذا النظام للولايات المتحدة أن تعيش على حساب مورديها، وتستفيد من كرمهم وتعلقهم بعملتها الوطنية، فالذهب والدولار الأمريكي يستخدمان كتغطية لإصدار العملات
الوطنية، وتتمكن الولايات المتحدة لقاء أوراق نقدية مطبوعة ليست بذات قيمة أو تكلفة أن تشتري من العالم قيماً حقيقية، دون الحاجة للتصرف في مخزونها الذهبي، أو استخدامه لتسديد قيم مشترياتها من العالم الخارجي. وتوافق خروج كميات كبيرة من الدولارات من الاقتصاد الأمريكي إلى العالم الخارجي، مع تزايد العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي، وأدى تزايد الإنفاق العسكري للولايات المتحدة، ومطالبة الدول الأجنبية بتحويل دولاراتها إلى ذهب، إلى تسرب كميات كبيرة من الذهب إلى خارج الولايات المتحدة، وتناقص الاحتياطي الأمريكي من الذهب بكميات هائلة، مما نجم عنه انخفاض في قيمة الدولار، ووهن في علاقته مع الذهب…، وأصبحت علاقة نظرية، فالأوراق النقدية الأمريكية لم تعد مغطاة بالذهب، والدولار لم يعد قاب ً لا ١٩٧١ م من جانب /١/ للتحويل إلى ذهب…، ثم أعلن الرئيس الأمريكي (ريتشارد نيكسون) في ١٥
واحد إلغاء قابلية الدولار للتحويل بالذهب…، وبإلغاء اتفاقية (بريتون وودز) فقد الدولار الميزة الخاصة التي اتصف بها…، ونتج عن إيقاف تحويل الدولار بالذهب انخفاض حاد في سعره مقابل الذهب، حيث ارتفع سعر أونصة الذهب إلى ٣٨ دولاراً عام ١٩٧١ م، و ٤٢,٢٢ دولاراً عام ١٩٧٣ م…”أه لقد قصدت من هذا السرد التاريخي بيان ما للذهب من رصيد هام في تغطية العملة النقدية، وأثر استبعاد
هذه التغطية على القوة الشرائية للعملة، كما وقع للدولار إبان تلك المرحلة الماضية، ثم استعاد الدولار الأمريكي عافيته بهيمنة الدولة عالمياً في مجال الاقتصاد، والتصنيع، والسياسة…الخ، فكانت هذه القوة عاملاً مساعداً لهيمنة عملتها (الدولار)، بالإضافة إلى ما لديها من مخزون احتياطي كبير من النفط وغيره، إلا أنه تسلل إليها في السنوات الأخيرة شيء من الضعف الاقتصادي، مما أدى إلى ظهور انتكاسات للدولار، مؤذنة بشيء ما سيحصل خلال الشهور أو السنوات القادمة.
إن الذهب معدن نفيس يكتسب قوته من نفسه، أما سائر العملات الأخرى فتكتسب قوتها من قوة الدولة، وما لها من حضور اقتصادي..الخ، ولاشك أن ما يكتسب قوته بنفسه أعظم متانة وأكثر أمنًا من عملة ورقية تكتسب قوتها بالواسطة، ولهذه الأهمية رأى (جرينسبان) مدير البنك المركزي الأمريكي الأسبق أنه لا يمكن حماية الأوراق النقدية إلا بربطها بالذهب، حيث قال:”إن في غياب نظام الربط بالذهب لا توجد طريقة لحماية المدخرات من المصادرة عن طريق التضخم. إنه لا يوجد هناك مستودع وكلام ( Freedom by Alan Greensban Gold and Economic)” أمين للثورة الاقتصادي (جرينسبان) هنا مهم جداً، وهو يدل على أهمية ربط العملات بالذهب، وكونه مستودعًا أميناً للثروة النقدية، وهذا لا يعني– بطبيعة الحال– أن هذا هو العامل الوحيد المؤثر في استقرار العملة، فالدولة بما تنعم به من استقرار سياسي وأمني، وما لديها من ناتج محلي، ومخزون احتياطي كبير، وغير ذلك مما قد لا تفصح عنه الدولة، له دوره بلا شك في ثبات العملة واستقرارها، إلا أني أؤكد على ما
قرره (جرينسبان) من أهمية ربط العملة بالذهب؛ لما لهذه العملة الذهبية من قيمة ذاتية، ولما تتمتع به من حرية واستقلال، ولما تشهده من استقرار نسبي، أكثر بكثير من أي مصدر مالي آخر، مما يستدعي نظر المسئولين في مؤسسة النقد إلى هذا المعدن الهام، وضرورة ربط النقد السعودي بهذه العملة الذهبية؛ لحمايته من التضخم، أو الانهيار، لا سمح الله.
أحدث التعليقات