متطلبات الملكية في الاقتصاد الإسلامي لتحقيق دورها التوزيعي في المجتمع – الطاهر قانة

متطلبات الملكية في الاقتصاد الإسلامي لتحقيق دورها التوزيعي في المجتمع – الطاهر قانة

استناداً إلى النظرية الإسلامية في التوزيع القائمة على نظام الملكية ذات الأشكال المتعددة؛ الخاصة والعامة وملكية الدولة، وما تحققه من توزيع عادل للثروات والدخول، ورفع للمستوى المعيشي للأفراد، وقضاء على التباين الاجتماعي وتركيز الثروات في أوساطهم. يتساءل الفكر عن سبب انعدام عدالة التوزيع في المجتمع المسلم؛ فالعقل يُحتّم أنه هو الأرضية التي ينعكس عليها نمط الملكية المتعددة، ويجني ثمارها التوزيعية جميع أبنائه؟

لا ريب أن المشكلة الاقتصادية للمجتمع المسلم، ومنها جانب التوزيع؛ سببها عدم تطبيق نظام الاقتصاد الإسلامي، خصوصا مبدأه في الملكية، وعدم وصول الوعي والاقتناع بمنهج الاقتصاد الإسلامي إلى القائمين على سياسة المجتمع.وحتى يكون للاقتصاد الإسلامي دور مسؤول وفاعل في علاج المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للأمة؛ لابد أن يُفسح المجال لتطبيق أنظمته بما فيها نظام الملكية ذات الأشكال المتعددة(خاصة، عامة، دولة).وهذه محاولة لبيان ما يتطلبه نظام الملكية في الاقتصاد الإسلامي من واقع مُوَافقٍ وأفراد مُوَاتين؛ تتوفر فيهم القابلية لاحتضان هذا النظام وتطبيقه بإخلاص.

المتطلبات الواقعية وطرق إيجادهاقد يتبادر إلى الذهن أن تطبيق الاقتصاد الإسلامي في واقع الناس معناه إلغاء المؤسسات الاقتصادية القائمة وكل البنوك والشركات غير المبنية على أسس الإسلام ومبادئه في الاقتصاد والمال؛ إلا أن الأمر ليس بهذه الصورة السطحية، التي قد تجعل الكثير ممن يكيدون للإسلام يتحجَّجون باستحالة هذه التغييرات الجذرية، أو على الأقل ترهيب قيادات الأمة ومسيّريها من تكاليفها الباهضة على جوانب الاقتصاد والسياسة والاجتماع.لم يكن الإسلام أبدا بهذه الصورة القاتمة وهو يرتقي بالإنسانية، في عصر النبوة، من ظلمات الجاهلية الأولى إلى نور الحضارة ورحابتها، وإنما كان مطهّراً للواقع، هادياً للنفوس، وفي نفس الوقت ترك ما وجده من خير، بل أضاف إليه وتمَّمَ نقائصه.ولذلك فتطبيق الاقتصاد الإسلامي، من هذا الجانب، يعني إحياء مؤسساته التي اندرست، وتفعيل وتنشيط الممارسات الاقتصادية والاجتماعية التي يتميز بها المجتمع الإسلامي، وتمثل جزءاً من خصوصياته، مما يجعل التطبيق سهلاً ومقبولاً ومؤيَّداً.إحياء المؤسسات العامة للاقتصاد الإسلاميفالاقتصاد الإسلامي يمتلك ما يكفي من المؤسسات المالية والنقدية والاجتماعية والرقابية، التي يزخر بها الفقه الإسلامي في جميع أبوابه التعبّدية والمعاملاتية؛ ومن أهم المؤسسات التي يجب مراعاتها في ذلك: مؤسستا الزكاة والأوقاف.

أولاً: مؤسسة الزكاةإن من خصائص الزكاة؛ أنها لا تخرج إلا بعد بلوغ النصاب، ومعنى ذلك أنها تحافظ على الحاجات الأساسية للأفراد، بل إنها تحافظ على كرائم أموالهم، إلا إذا جادوا بها طائعة بها نفوسهم، وبالتالي فإن الفائض عن الحاجات الأساسية هو محل الزكاة، لأن هذا الفائض ذا نفع قليل بالنسبة للغني الذي ضمن حاجاته الضرورية، إذا ما قورن بالفقير الذي هو في أمس الحاجة لهذا الفائض؛ لأن ضروريات حياته ذاتها منعدمة أو تكاد.

ومن خصائص الزكاة أيضا أنها تقع على جميع أنواع الأموال المعروفة؛ نقدية أو عينية، منافع أوحقوق، وهذا الاتساع في وعاء الزكاة يضمن لها القدرة الكاملة والكافية لإعادة توزيع الدخول والثروات، كما أن نصاب الزكاة المعتدل، والمتراوح بين 2,5% و5% و10%؛ يجعل التكليف بها يتسع ليشمل أكبر عدد من أفراد المجتمع، مما يجعل هذا العدد من المشتركين يشكل قوة كبيرة وقاعدة ضخمة للإحاطة بفقراء المجتمع واحتوائهم بشكل فعّال.ومن خصائص الزكاة أيضا أنها لا تصرف على المحتاجين إليها من الفقراء والمساكين إلا إذا كانوا عاجزين عن العمل، أو انعدمت أسباب الرزق لديهم، فتكون الزكاة بذلك دافعاً للقضاء على البطالة الإرادية؛ سواء من جانب الأفراد بالسعي إلى العمل، أو الدولة بتوفير فرص الشغل للجميع حتى لا يقع كاهل فقرهم عليها.كما أن تمتع الزكاة بصفة التكرار والتجدد، وعدم اقتصار جمعها على موسم وحيد أو سنة واحدة فقط؛ يجعل من المكلفين بإخراجها من الأغنياء أو العاملين عليها من موظفي بيت مال الزكاة، يقومون بجمعها بصفة مستمرة وبشكل دوري ولو لم يكن هناك من يحتاج إليها، مما يضيف إليها بعداً اقتصاديا واجتماعيا في الاحتياط للمستقبل.كما أن العمل بالزكاة يعد بديلا للضرائب، حيث يؤدي دفع الزكاة إلى شريحة واسعة من المجتمع، إلى توفير ما كان مخصصا للإنفاق على تلك الفئات من خزينة الدولة(بيت المال)، مما يؤدي إلى تخفيف العجز في الميزانية.وتختلف الزكاة عن أنظمة التأمين والضمان الاجتماعي الرأسمالية والإشتراكية من عدة جوانب:([1])- فالزكاة عمل جماعي منظم على مدار السنة، وكل مال بلغ النصاب يقوم صاحبه بإخراج زكاته وصرفها إلى مستحقيها الذين حددهم القرآن الكريم، خلافاً للتأمينات الاجتماعية التي توصف بأنها اشتراكات ضريبية باسم مستعار.- كما أن تنظيم جمع الزكاة وإخراجها وصرفها يقوم به الأفراد أنفسهم أو من طرف جمعيات خيرية إذا لم تقم بذلك الدولة، أما تنظيم عمليات الضمان الاجتماعي والتأمين فمردّها إلى الدولة أو شركات خاصة ربحية.- ترتبط الزكاة بعقيدة المسلم فهي قنطرة الإسلام وركن أساسي من أركانه، وهذا ما يجعله يُقْدِمُ على دفعها انطلاقاً من وازعه الديني، عكس اشتراكات الضمان والتأمين الاجتماعية اللذان يتهرب الناس من دفعها إذا كانت إجبارية، أو يمتنعون عن ذلك إذا كانت تطوعية.- تُدفع الزكاة إلى مستحقيها دون النظر إلى كونهم من المزكين السابقين أم لا، خلافاً لأنظمة الضمان والتأمين، فإن المستحقين لها هم المشتركون فيها فقط، وحسبما سدّدوه من اشتراكات سابقة، لا حسب حاجتهم.

ثانياً: مؤسسة الأوقافخاصة الأوقاف الخيرية التي يعود مردودها إلى المصلحة العامة التي حبست من أجلها، والتي انتشرت بكثرة في البلاد الإسلامية، كالجزائر في العهد العثماني؛ حيث أصبحت الأراضي الوقفية تستحوذ على مساحات شاسعة، لا يماثلها في الاتساع والأهمية إلا ملكيات الدولة والأملاك المشاعة، إذْ أن مدخول الأراضي الوقفية في الربع الأول من القرن التاسع عشر كان يساوي نصف مدخول كل الأراضي الزراعية.([2])وقد كانت الأوقاف الخيرية في مدينة الجزائر لوحدها، يقدر عددها بـ 2600 ملكية، وهي مرتبة كما يلي: أوقاف مكة والمدينة، سبل الخيرات، الجامع الكبير، الزوايا، أوقاف الأندلس، الانكشارية، المياه، الطرق، وتعتبر أوقاف مكة والمدينة أهم هذه الأوقاف لأن دخلها يشكل ثلاثة أرباع كل المؤسسات الوقفية، وكان يقسم إلى جزءين؛ جزء يبعث إلى فقراء مكة والمدينة، والجزء الآخر يوزع على شكل صدقات لفقراء مدينة الجزائر صباح كل خميس.([3])ويعتبر تطوير مؤسسة الأوقاف واستثمار مواردها؛ مما يزيد من ريعها، الذي يُصرف في مصالح المجتمع الموقوف عليها، وهي على العموم ذات صبغة اجتماعية وتحقق أهدافاً تكافلية، لا تستطيع الدولة ولا أغنياؤها تحقيقها على الوجه التي هي عليه، من انعدام للأغراض الربحية والنفعية والعوائق الإدارية، مما يساعد مؤسسات الضمان الاجتماعي الأخرى على  إعادة توزيع الدخول والثروات في المجتمع وتحقيق التوازن بين أفراده وفئاته اقتصاديا واجتماعيا.([4])إلى غير ذلك من المؤسسات التي تتصف بشمولها وإحاطتها بكافة ما يلزم الملكية بأشكالها المختلفة لتنصرف نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والرفاهية الاقتصادية في البلاد المسلمة.لذلك يجب إصلاح المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع بما يتفق مع التعاليم الإسلامية؛ كإلغاء نظام الربا من البنوك القائمة، واستبداله بالمعاملات الشرعية الكثيرة والمتنوعة، كالمضاربة والمشاركة والمرابحة وغيرها، كما يجب الاعتماد في ذلك على العلماء والمفكرين العدول، حتى لا يحدث تشويه لمبادئ الاقتصاد الإسلامي أو تحريف لمسيرته.تفعيل الممارسات الخاصة للمجتمع الإسلامي في مجال الملكيةومن أهم الممارسات التي يجب مراعاتها في هذا المضمار مايأتي:أولاً: الحمىوذلك من أجل إيجاد نطاقات للملكية العامة وملكية الدولة في الفضاءات الطبيعية، والمصادر الإنتاجية، لأن الحمى يمثل أحد مظاهر الملكية العامة وملكية الدولة أيضا، وبه تؤديان دورهما في إعادة التوزيع والقضاء على الفقر في المجتمع، لأنه يقع على قطع أرضية من الأملاك المباحة كأراضي الموات التي يُمنع إحياؤها، كما يمنع انتفاع الأغنياء من رعي مواشيهم فيها والانتفاع بالكلأ النابت فيها، وإنما هي محمية لمواشي الفقراء والمساكين، أو لمصالحهم العامة.([5])

ومن الأمثلة عن حمى الأراضي لاستغلالها من طرف الفقراء؛ ما فعله عمر بن الخطاب  رضي الله عنه  أيام خلافته، حيث حمى أرضًا تسمّى الشرف وعين مسؤولاً عنها يقال له (هني )، وأصدر إليه تعليمات صارمة، في الحرص على استغلال الحمى من طرف الفقراء فقط فقال له :”يا هني، اضمم جناحك عن الناس، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياي ونعم بن عفان وابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى المدينة إلى زرع ونخل، وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيته يأتني ببينة فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك، فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق، وأَيْمُ اللهِ إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم ومياههم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً”.([6])

ومن هذه السياسة العُمَرِيَّة في إدارة الحمى، وتوجيهه نحو القضاء على مشاكل التوزيع والتفاوت في مستويات المعيشة بين أفراد المجتمع، يظهر ما للملكية العامة في الاقتصاد الإسلامي من دور فعال في إعادة توزيع الدخل والثروة، وذلك بجعل الحمى مقصورا على الفئات الفقيرة ذات الدخل المنخفض، وعدم السماح للفئات الغنية ذات الدخل المرتفع من مزاحمتهم في ذلك.

ثانياً: الإقطاعارتبطت كلمة إقطاع بما كان سائداً في القرون الوسطى من أنظمة إقطاعية، حيث كان الملوك في أوربا يمنحون الأراضي الزراعية الواسعة لكبار القادة والأشراف من أجل استرضائهم، بحيث تكون علاقة الإقطاعي مع الفلاح علاقة سيد وعبد، فالفلاح في النظام الإقطاعي تابع للأرض كغيره من الآلات والحيوانات المملوكة، بينما إقطاع الأراضي في الاقتصاد الإسلامي؛ فهو بعيد كل البعد عن هذه المفاهيم المبنية على استرقاق البشر وهضم حقوقهم الإنسانية.([7])

فالإقطاع في الاقتصاد الإسلامي هو أن يمنح وليّ الأمر لشخص من الأشخاص، مصدرا من مصادر الثروة الطبيعية، وذلك لتوسيع مساحة الاستثمارات المتعلقة بالأموال المباحة وأملاك بيت المال، سواء كان هذا الإقطاع تمليك عين أو منفعة أو هما معاً.([8])ولذلك يعتبر مبدأ الإقطاع في الاقتصاد الإسلامي أحد أوجه الاستثمار للملكية العامة وملكية الدولة، خاصة مصادر الثروة الطبيعية الخام، التي تتطلب بذل جهدٍ لاستغلالها والانتفاع بها، ولذلك فمن الطبيعي لوليّ الأمر أن يقوم باستثمار تلك المصادر، إما بممارسة ذلك مباشرة، أو بإيجاد مشاريع جماعية، أو بمنح فرص استثمارها للأفراد، تبعاً للشروط الموضوعية والإمكانات الإنتاجية، التي تتوفر في المجتمع من ناحية، ومتطلبات العدالة الاجتماعية من وجهة نظر الإسلام من ناحية أخرى.([9])والملاحَظُ هنا أن إقطاع التمليك يُشجع المستفيد على الاستثمار بعيد المدى والمحافظة على إنتاجية الأرض، لأنها صارت ملكاً له، بينما إقطاع الانتفاع دون تمليك لا يشجع إلا على الاستغلال السريع المردود، رغم أنه أقرب إلى العدالة والمساواة بين الناس، لذلك يخضع الإقطاع لاجتهاد أولياء الأمور في الموازنة والترجيح بين الكفاءة المرغوبة والمساواة المطلوبة.([10])

ثالثاً: الإحياءخاصة إحياء الأراضي الموات، التي تكوّن نسبة كبيرة من أراضي العالم الإسلامي، بحيث لو تمّ استخدامها واستغلال ما فوقها وما في باطنها، لكان الريع الناتج منها فائضا على أهلها خيرا وبركة؛ فالأراضي الصالحة للزراعة في الجزائر مثلاً؛ لا تتجاوز 18% من المساحة الإجمالية، وتشكل الأراضي البور(أي الموات)37% من هذه الأراضي الصالحة للزراعة، والسبب في ذلك أن الأراضي البور يتوقف استرجاعها وإحياؤها على وسائل مادية متعددة وتكاليف باهضة.([11])وهذا ما يتطلب رعاية وإشرافاً من السلطات في البلاد الإسلامية، خاصة عند الشروع في استصلاحها، من أجل إيجاد مجالات واسعة للملكيات الخاصة التي تدعّم اقتصاد الدولة، وتخفف على كاهلها الأعباء الاجتماعية المكلَّفة بها، وذلك بالسماح بتملك الأرض الموات ملكية خاصة بالإحياء، وفقاً لأحكام الشريعة في المعاوضات، لأن تملك هذه الأرض والانتفاع بها لا يكون إلا بالإنفاق وبذل الجهد.([12])

الطرق المؤدية إلى تطبيق أنظمة الاقتصاد الإسلاميالطرق المؤدية إلى تطبيق أنظمة الاقتصاد الإسلامي لا تخرج عن سبيلين؛ العلم والعمل، فبالعلم تتّضح هذه الأنظمة بمؤسساتها، ومنها نظام الملكية، وبالعمل تخضع للنقد والتجديد حتى تترسّخ في أفكار المجتمع، ويصبح احتضانها والعمل بها من ثوابت الأمة التي لا تنفك عنها.

أولاً: تطبيق الاقتصاد الإسلامي بالتدرّج والمرحليةالتدرج في تطبيق الأحكام مبدأ أصيل من مبادئ الشريعة الإسلامية، جاءت به نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، وعمل به الصحابة  تعالى  والتابعون لهم بإحسان، كما أكدته القواعد الفقهية في المذاهب المختلفة، ولذلك يعتبر منهجاً طبيعياً ومقبولاً لتحديد المرونة في التطبيق الميداني للاقتصاد الإسلامي في خضم تحديات الواقع؛ لأنه يحقق التوازن بين الواقعية والمثالية، وبين الرخص والعزائم، وبين الوسائل والغايات([13])، فقد أجاز الفقهاء ترك بعض واجبات الشريعة وارتكاب بعض محظوراتها للضرورة.([14])ومن الأدلة على مشروعية التدرج؛ حديث جابر بن عبد الله  رضي الله عنه  أن النبي  عليه الصلاة والسلام  لما بايع ثقيفاً على الإسلام اشترطت عليه أن لا صدقة عليها ولا جهاد، فقال رسول الله  عليه الصلاة والسلام  بعد أن بايعهم:”سَيَتَصَدَّقُون ويجاهدون إذا أسلموا”([15])؛ “فها هو  عليه الصلاة والسلام  يقبل شرط ثقيف ألا يتصدقوا ولا يجاهدوا، وذلك لعلمه u أنهم إذا أسلموا وتمكن الإيمان من قلوبهم ستطيب أنفسهم بذلك.

فهو صورة من صور التدرج في الدعوة وفي امتثال أحكام الشريعة الإسلامية. ويلاحظ أن هذا التدرج وقع حال عز الإسلام وعلو كلمته وقوة سلطانه. فالحاجة إلى التدرج حال الاستضعاف من باب أولى”.([16])

ومن أمثلة التدرج عند السلف الصالح؛ مقولة عمر بن عبد العزيز لابنه، لما دخل عليه يستعجله في ردّ المظالم إلى أهلها، فقال له:”يا بني، إن نفسي مطيتي إن لم أرفق بها لم تبلغني. إني لو أتعبت نفسي وأعواني، لم يك ذلك إلا قليلاً، حتى أسقط ويسقطوا. وإني لأحتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي. إن الله، جل ثناؤه، لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، ولكنه أنزله الآية والآيتين، حتى استكن الإيمان في قلوبهم”.([17])

ولا يوجد تعارض بين التدرج والأمر بالمسارعة إلى الخيرات في الإسلام، لأن التدرج هو التريث في تطبيق الأحكام إلى حين استكمال الأسباب ووجود الظروف الملائمة، ففرق بين تأخير العمل مع وجود سببه، وبين تأخيره إلى حين وجود السبب، لأن الأول تسويف مذموم، والثاني تأنٍّ محمود.([18])

ومن الصور الحية للتدرج في تطبيق الاقتصاد الإسلامي في العصر الحاضر، تجربة ماليزيا في مكافحة الفقر، والتي تعتبر من”أبرز التجارب التي كللت بالنجاح على مستوى العالم الإسلامي الذي يعيش 37% من سكانه تحت خط الفقر، فقد استطاعت ماليزيا خلال ثلاثة عقود (1970-2000) تخفيض معدل الفقر من 52,4% إلى 5,5% وهو ما يعني أن عدد الأسر الفقيرة تناقص بنهاية عقد التسعينات إلى ثلاثة أضعاف عما كانت عليه الحال في عقد السبعينات.

فقد انخفض معدل الفقر بحلول 2005 إلى 0,5% ويكون الفقر المدقع قد تم القضاء عليه.واللافت في تجربة ماليزيا أن الحكومة وجهت برامج تقليل الفقر التي تم تنفيذها لتقوية الوحدة الوطنية بين الأعراق المختلفة للشعب الماليزي واستخدمت هذه البرامج كوسيلة سلمية لاقتسام ثمار النمو الاقتصادي.وتقوم فلسفة التنمية في ماليزيا على فكرة أن النمو الاقتصادي يقود إلى المساواة في الدخل، وأن وصول الفقراء إلى تعليم وصحة أفضل، يساهما بفعالية في عملية تسريع وزيادة معدلات النمو الاقتصادي.

وشجعت المواطنين المسلمين أفرادا وشركات على دفع الزكاة لصالح صندوق الزكاة القومي، مقابل تخفيض نسبة ما يؤخذ من ضريبة الدخل.ونفذت الحكومة في إطار فلسفتها وسياستها المواجهة للفقر برامج منها برنامج التنمية للأسر الأشد فقرا، وأمانة الأسهم، وأمان اختيار ماليزيا، ومنحت الحكومة إعانات مالية للفقراء مثل تقديم إعانة مالية تتراوح بين 130-260 دولار لمن يعول أسرة أو معوق أو غير قادر على العمل بسبب الشيخوخة، وقدمت قروضا بدون فوائد لشراء مساكن، وأسست صندوقا لدعم الفقراء المتأثرين بأزمة العملات الآسيوية عام 1997م، ووفرت مرافق البنية الأساسية الاجتماعية والاقتصادية في المناطق النائية، وقامت بأنشطة يستفيد منها السكان الفقراء مثل إقامة المدارس الدينية التي تتم بالعون الشعبي وتساهم في دعم قاعدة خدمات التعليم وتشجيع التلاميذ الفقراء على البقاء في الدراسة.

ومن المؤشرات الرسمية ذات الدلالة أن 94% من الفقراء في ماليزيا يتاح لأطفالهم التعليم الأساسي مجانا ويستفيد 72% من الفقراء من خدمات الكهرباء و65% منهم يحصل على مياه نقية وارتفعت توقعات الحياة لديهم إلى 74 سنة بدلا من 69 سنة”.([19])ثانياً: تطبيق الحيل الشرعية في الاقتصاد الإسلاميتُستَعْمَلُ الحيلة بمعنى جودة النظر واستعمال الفكر، والقدرة على التصرف في الأمور بدقة([20])، وهي وسيلة غير مباشرة للوصول إلى غرض لا يجوز التوصّل إليه مباشرةً، فيَتِمُّ الالتفاف على الطريق المباشر المحرّم من أجل الوصول إلى هذا الغرض.([21])وكل حيلة يُتوصَّل بها إلى مباح فيه مصلحة، أو استرداد لحق، أو إثباته، وكانت سالمة من الإثم؛ فهي جائزة، وإنما المحرم؛ الحيلةُ التي يُتوصَّل بها إلى إبطال مقصد شرعي([22])؛كأن”يُظهِرَ مباحاً، مُخادَعَةً وتَوَسُّلاً إلى فِعْلِ ما حَرَّمَ اللهُ، واسْتِباحَةِ مَحْظُوراتِه، أو إسْقاطْ واجِبٍ، أو دَفْعِ حَقٍّ، ونحو ذلك”([23])، ولذلك فإنَّ”الحيل المباحة المتفق على صحتها وسلامتها من سوء النية، هي مخارج من الضيق، وهي تُشْبِهُ الرُّخَص التي تَفَضَّلَ اللهُ بها على عباده للتخفيف عنهم من شدة التكاليف وقتَ الاحتياج لذلك، وإزالةِ الحرج عنهم في الدين.

أما المُختَلَفُ فيها فيمكن الأخذ بها عند الضرورة والحرج الشديد، إن ترجَّح دليلُها أو تساوَى مع دليل بطلانها، خصوصاً للمُضطرِ المُحرَجِ، فيجوز الإفتاء بها له لإخراجه من الحرج والضيق، ولإبقاء حرمة الدين في نفسه”([24])

ومن أنواع الحيل الجائزة؛ التحيُّل على تعطيل أمر مشروع على وجه ينقل إلى أمر مشروع آخر؛ كإنقاص المال عن نصاب الزكاة ببذله في شراء السلع، فقد انتقلت مصلحة هذا المال من نفع الفقير إلى منافع عامة تنشأ عن تحريك المال، كما انتقلت من زكاة النقدين إلى زكاة التجارة([25])، وفي هذا التفاتة اقتصادية بارعة؛ فالمزكي بفراره من وجوب زكاة النقدين، مؤقتاً، بمثابة المترخِّص، مع ما في ذلك من جلبٍ لمصالح اقتصادية عامة؛ كترخيص الأسعار على الناس وخاصة الفقراء، بالإضافة إلى أن الفقير لم يضِعْ حقُّه من الزكاة، وإنما تمّ تأجيله فقط، مقابل تحقيق مصلحة عامة.([26])

المتطلبات التربوية ووسائل بلوغها”العالم الإسلامي ليس بيده أن يغير أوضاعه الاقتصادية إلا بقدر ما يطبق خطة تنمية تفتّق أبعاده النفسية، وتخلصه من تركة عصر ما بعد الموحدين، من خرافاتها، وعقدها ومسلماتها الوهمية.يجب أن تتضمن النهضة الاقتصادية هذا الجانب التربوي الذي يجعل من الإنسان القيمة الاقتصادية الأولى، كوسيلة تتحقق بها خطة التنمية، وكنقطة تلاقي تلتقي عندها كل الخطوط الرئيسية في البرامج المعروضة للإنجاز”.([27])

وهذا بيان لما يلزم توافره في المسلمين أفراداً وجماعاتٍ، من تصورات واضحة، وعقائد صحيحة، وسلوكيات تربوية لازمة، فيما يتعلق بملكية الأموال من جانب الإنسان في هذه الحياة، كفرد أو جماعة أو دولة، وما هي المسؤوليات الملقاة على عاتقه، والواجبات الخاصة والعامة التي تناط به بسبب هذه الملكية.التربية العقائديةتعتبر العقيدة، هي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة، وتملأ نفسه شعورا بالثقة والاطمئنان للشرائع والقوانين النابعة من تلك العقيدة، بصرف النظر عن المنافع المتوخاة من الالتزام بها؛ تحققت أو لم تتحقق.فالإسلام مثلاً؛ يرى أن الملكية حق يتضمن مسؤولية، وليس سلطاناً مطلقاً، كما يعطي للربح مفهوماً أرحب وأوسع مما يعنيه في الحساب المادي الخالص؛ إذ يدخل في نطاق الربح، بمدلوله الإسلامي، كثير من النشاطات التي تعتبر خسارة بمنظار آخر غير إسلامي.وقد سار الإسلام بالإنسان لغرس هذه العقيدة فيه، بتربية أبنائه على مجموعة من المبادئ والأسس، وترسيخها في أفكارهم وأفئدتهم، حتى تؤتي ثمارها في واقعهم وتكون سبباً في فلاحهم في الدنيا والآخرة، ومن أهم هذه المبادئ ما يأتي:

أولاً: الاستخلافاستخلف الله U الإنسان بتمليكه هذا الكون ملكية استخلافية، مما يجعله يقوم بالمال ويحافظ عليه ويستمر في تنميته، ويحرص مع ذلك على تنفيذ الواجبات وأداء الحقوق المتعلقة بهذه الملكية، خصوصا ما تعلق منها بجوانب التوزيع بأنواعه المختلفة، التي تقدمت دراستها.والاستخلاف ليس معناه أنَّ الإنسان خليفة لله في أرضه، فالله لا يجوز له خليفة، بل هو I خليفة لغيره، كما في قوله  عليه الصلاة والسلام :”اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل”([28])، لأنَّ الخليفة لا يكون إلا عند موت المستخلِف أو غيبته، أو لحاجة المستخلِف إلى الاستخلاف، بينما الله تعالى حي، قيوم، لا يموت، ولا يغيب، غني عن العالمين، ومن جعل له خليفة فقد أشرك به.([29])ولذلك فمعنى الخليفة كما بيَّنه العلماءُ؛ الذي يخلُفُ مَنْ قَبْلَه، لأنَّ الذي يأتي خليفةٌ لمن يمضي، وهذا الوصفُ يُتصوَّرُ في جميع الأمم وسائر أصناف الناس، لكنه يليق بالأمة الإسلامية أن يُسمى أهلها بجملتهم خلائف للأمم، وليس لهم من يخلفهم، لأنهم آخر أمة.([30])ومبدأ الاستخلاف له من الأدلة في كتاب الله الكثير من الآيات من بينها:-   {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة}.([31])-   {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْض ِ}.([32])-   {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرضِ }.([33])-   {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَف َ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم}.([34])والملكية في الاقتصاد الإسلامي بأنواعها الثلاثة(الخاصة والعامة والدولة) ترتبط ارتباطا وثيقا بمبدإ الاستخلاف، الذي يعتبر أصلا للملكية، وإطارا يضبطها ويتحكم فيها من حيث اكتسابها واستثمارها والعوائد التي تتحقق منها.فمبدأ الاستخلاف يجعل الملكية بأنواعها الثلاثة تستمد مشروعيتها من المالك الأصلي الذي هو اللَّه I، مما يؤثر على المالك فردا أو جماعة أو دولة فيجعل تصرفاته في الملكية مقيدة بقيود الوكالة ومقتضياتها، فيلتزم بالأحكام التشريعية التي تنظم هذه الملكية سواء من حيث وسائل اكتسابها أو طرق استثمارها، أو التكاليف الاجتماعية المنوطة بها، وهذا ما يسمح للملكية بأداء دورها التوزيعي في رفع المستوى المعيشي لجميع أفراد المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية.([35])وبالإضافة إلى ذلك فإن علاج مساوئ التوزيع، والقضاء عليها؛ يتطلب بيئة عقائدية صحيحة تحكم الملكية، ومبدأ الاستخلاف يوفر هذه البيئة العقائدية، التي تهيمن على كل الأساليب المادية التي تُواجَه بها مشاكل التوزيع والتفاوت الطبقي، مما يجعل الاقتصاد الإسلامي ينفرد بخصوصية أساليبه في محاربة الفقر ومشاكل التوزيع، عن النظامين الرأسمالي والاشتراكي، وذلك لتميزه بمبدإ الاستخلاف المهيمن عقائديا على كل الالتزامات المشاركة في مواجهة مساوئ التوزيع وتحقيق العدالة الاجتماعية؛ انطلاقا من أن المستخلِف يُلزِمُ المستخلَف بأن يجعل جزءاً مما استُخلِفَ فيه للقضاء على الفقر.

هذا هو التميز الذي ينفرد به الاقتصاد الإسلامي والذي يتجسد في الأساليب ذات الصبغة العقائدية في أداء الأدوار التوزيعية.([36])إن الإسلام بإقراره نظام الملكية، وإضفائه مفهوم الاستخلاف عليها؛ جعل من الملكية وكالة في التصرف في الثروات، وأمانة في تأدية الواجبات، وبمجرد أن يسيطر هذا المفهوم للملكية على عقلية المالك؛ يصبح قوة توجهه في سلوكه الاقتصادي، وضابطاً صارماً يفرض عليه الالتزام بفرائض الله U، وحدوده المرسومة في سياسة الأموال، وبهذا يربط الاقتصاد الإسلامي القيمَ الماديةَ بالقيم الروحية، خلافاً للمذاهب الاقتصادية الوضعية؛ الرأسمالية والاشتراكية في انحرافاتها المادية السيئة.([37])ثانياً: التوازنينطلق الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي في بناء نظرياتهما الاقتصادية حول الملكية من التسليم المسبق بانعدام التوازن بين الموارد الاقتصادية وحاجات البشر؛ فالحاجات الاقتصادية حسبهم غير محدودة، والموارد الاقتصادية التي تستخدم لإشباعها محدودة، ويعبرون عن ذلك بمشكلة الندرة؛ التي تعتبر من المسلمات الرئيسية عندهم، ويجعلونها موضوع علم الاقتصاد.والنظام الرأسمالي في ارتباطه بمشكلة الندرة، يسلّم بتعارض مصالح البشر وعدم تناسقها، فوجود الفقر ليس سببه سوء توزيع الثروة بين الناس، وتكدسها عند البعض وانعدامها عند البعض الآخر؛ وإنما هو شح الطبيعة نفسها عن إمداد الإنسان بالموارد الكافية لإشباع حاجاته الاقتصادية.وهذا ما انعكس سلبا على السياسات الرأسمالية في معالجة مساوئ التوزيع ومحاربة الفقر والفوارق الطبقية؛ لأنَّ مَنْ بيدهم سلطة اتخاذ القرار مِنْ قادة واقتصاديين، يعتقدون مسبقاً أن المشكلة لن تُحَلّ، لأن الموارد الاقتصادية الموجودة لا تستجيب لجميع الحاجات.إلا أن الاقتصاد الإسلامي لا يقرّ بمشكلة الندرة؛ لأنها تخالف عقيدته في الاستخلاف والتسخير، فالله U قد ضمن الرزق لجميع الناس بما فيها الدواب الأخرى؛ يقول U:{وَمَا مِن ْدَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتاب مبين}.([38])فالتوازن بين الحاجات البشرية والموارد الاقتصادية مقرّر سلفا؛ ضمن العقيدة الإسلامية، وأكثر من ذلك؛ توازن الموارد فيما بينها، وتوازن حاجات الإنسان كفرد أو جماعة أو دولة، فهو توازن داخل الموارد فيما بينها، والحاجات فيما بينها أيضاً، يقول I:{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّله إلا بِقَدرِ مَعْلوم}.([39])ثالثاً: التسخيرالكون مسخّر للإنسان، بناء على أن المالك الحقيقي لهذا الكون، وهو الله U؛ سخّر كل ما فيه من موجودات لهذا للإنسان؛ مما يدفعه إلى عدم إهمال الجانب المادي للحياة، ويقبل على العمل لجمع المال والسعي لعمارة الأرض؛ قال  تعالى :{هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}([40])، وعمارة الأرض في عقيدة المسلم لا تتعارض مع الغاية التي خلقه الله U لأجلها وهي العبادة بقوله I:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}([41])، لأن العبادة تشمل كل عمل صالح رافقه إخلاص لله  تعالى ، ويتجلّى ذلك بوضوح في قوله U:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}([42])؛ فالانتشار في الأرض ابتغاء فضل الله يشمل كلّ صور عمارتها.([43])ومبدأ التسخير في التصوّر الإسلامي يجعل الفقر الذي يتعرض له المسلم الصادق بريئاً من أسباب الكسل أو عدم كفاية الموارد كما في النظامين الوضعيين، فالفقر المقبول في الإسلام؛ ما كان سببه تركاً لجمع المال، إما عجزا بَدنياً أو فكرياً أو يُتماً، كما قال U:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً}([44])، أو استضعافاً لا حيلة للخروج منه؛ كما في قوله  تعالى :{فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}([45])، وقوله:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}([46])، وقوله U:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً، وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً، فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ…}([47])، أو انصرافا عن جمع المال لما هو أولى؛ كتعلم القرآن والدعوة إليه، أو طلب العلم النافع والتخصص فيه وتعليمه، أوجهادا و دعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن زيدِ بن خالدٍ  رضي الله عنه  أنَّ رسولَ الله  عليه الصلاة والسلام  قالَ:”مَن جَهَّزَ غازياً في سبيلِ اللهِ؛ فقد غَزا، ومَن خَلَفَ غازياً في سبيلِ اللهِ بخيرٍ؛ فقد غَزا”.([48])

ولذلك لا يقبل الاقتصاد الإسلامي إطلاق تسمية الفقير على من ترده اللقمة واللقمتان، أو الغني الذي عنده ما يكفيه، أو سليم الجسم المتفرغ لكسب قوته بنفسه دون شواغل تمنعه، فقد جاءت الأحاديث النبوية تَتْرَى في النهي عن تقمص نعوت الفقراء من هؤلاء؛ فمن ذلك حديث الزبير بن العوام  رضي الله عنه  عن النبي  عليه الصلاة والسلام  قال:”لأَنْ يأخذَ أحدُكم حبلَهُ فيأتيَ بحُزمةِ الحطبِ على ظهرِه، فيبيعَها، فيكُفَّ الله بها وجهَهُ؛ خيرٌ لهُ من أنْ يسألَ الناسَ، أعطَوْهُ أو منعُوه”([49])، وكذلك قوله  عليه الصلاة والسلام :”لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي”([50])، وقوله  عليه الصلاة والسلام  أيضاً:”ما يزال الرجل يسأل الناس؛ حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزْعَةُ لحم”.([51])والملاحظ أن انصراف الأفراد عن جمع المال في المفهوم الإسلامي؛ لابد وأن يكون خدمة للأفراد الذين انصرفوا لجمع المال، دون تكليف من أحد، وإنما برغبة وتلقائية جُبِلوا عليها، أو بفُرَصٍ أتيحت لهم، ولم يضيعوها، وتقديم هذه الخدمة من الفقراء إلى أغنياهم يكون بأشكال مختلفة تتسم بالتنوع والعمق والشمولية.فالجهاد التطوعي مثلا عمل دفاعي عن المال وصاحبه، والعلم تنمية مالية وبشرية بالكشف عن السبل والوسائل الناجحة لإيجاد المال وزيادته كما ونوعا؛ من إدارة وتقنية وعلم نفس ونحو ذلك، والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمل وقائي وأمني للمال وصاحبه؛ يصرف عنه أصناف الاعتداءات المختلفة من الأفراد أو المسؤولين.بل إن وجود العاجز المعدم، والشيخ الفقير، واليتيم المسكين، وغير هؤلاء ممن حفلت بهم المجتمعات الإنسانية في كامل العصور؛ يضفي على جمع المال معنى، وعلى الغنى هدفا، بالنظر إلى ابتلاء الفقير وتمتع الغني، وتضرر القاصر وانتفاع القوي بقواه الإنتاجية كاملة.وهذه بدورها خدمة معنوية لأصحاب الأموال بشكل من الأشكال التي تدخل ضمن رفع المعنويات أو الإحساس بالأمن، أو الاطمئنان على المستقبل أو ما شابه ذلك، قال  تعالى :{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ؛ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُم من خَوْفٍ}.([52])التربية الأخلاقيةتقوم التربية الأخلاقية على مبادئ التقوى بمفهومها الواسع والأخوة بمعناها الشرعي؛ التي تشمل جميع الناس، وقد لخصها الحديث النبوي الشريف:”اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن”.([53]) أولاً: التقوىلقد حرص الإسلام على تربية أبنائه على خلق التقوى، وتكثيف معانيها في أفكارهم وممارساتهم، فشملت كل جوانب حياتهم واستوعبت كل مكان يكونون فيه، كما قال r في الحديث السابق:”اتق الله حيثما كنت”، ذلك أن خلق التقوى يستأصل الأخلاقيات الفاسدة من حياة الفرد والمجتمع، ويحارب كل سلوك يتنافى مع الفطرة البشرية وكرامة الإنسان.

ولذلك كانت حياة الإنسان اليومية في الإسلام كلها عبادة؛ بداية من آداب النوم والاستيقاظ، إلى آداب الأكل والشرب واللباس، إلى آداب الجلوس والحديث، والعمل والسفر، إلى غير ذلك من الآداب والسلوكيات التي تهدف إلى غرس خلق التقوى، وتعميق معانيه في النفوس، حتى تصل بها إلى الالتزام، عن طواعية ورغبة، بمواصفات الشخصية الإسلامية السوية، المعطاءة، في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية، المادية والمعنوية، التي تليق بالإنسان كمخلوق كرَّمه الله U وحمّله من المسؤوليات الفردية والجماعية ما يليق بهذا التكريم.كما أن للشعائر الإسلامية دور تربوي كبير في ترسيخ خلق التقوى في الأفراد، فأركان الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج تُعتبَر بِحقٍّ أركان التقوى، لما لها من مواصفات الاجتماع والتربية والاستمرار، التي تهذّب شخصية الإنسان وتصوغ نفسيته صياغة سويّة، تربط الشكر بالغنى، والقناعة بالتنمية، مثلما تربط الحياة بالآخرة.فالتقوى أساس كل الأعمال، والاقتصادية منها على الخصوص؛ لقوله  تعالى :{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}([54])، فهي التي توقظ الضمير الإنساني وتدفع به إلى الحلال وتبعده عن الحرام، محققة بذلك مراقبة الله U في السرّ والعلن، مستغنية عن المراقَبَات الإدارية والمحاسَبَات القضائية، إذ لا تجدي مراقبة البشر إذا انتفت مخافة الله U، وهذا ما أدى ببعض العلماء إلى اعتبار التقوى عاملاً من عوامل الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي.([55])ثانياً: الأخوةتمثل الأخوة دعامة أخلاقية أساسية في بنية المجتمع الإسلامي الذي تتجسد فيه نظم الإسلام وشرائعه، بما فيها نظام الملكية، ذلك أن الأخوة تعني التعاون والتعاطف والرحمة والإيثار، وما إلى ذلك من قيم المحبة التي يحملها الأخ لأخيه.وتعتبر الأخوة في الدين أوثق رابطة تؤلف بين قلوب المسلمين وتعمل على تماسكهم وتجعلهم على قلب رجل واحد، مثلما وصفهم النبي  عليه الصلاة والسلام  بقوله:”مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”([56])، وبذلك يتحقق انتماء الأفراد للمجتمع، ومشاركتهم في انشغالاته الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فيكون ذلك سبباً في تحمّلهم واحتضانهم لأهدافه الخيرية وغاياته الحضارية، بحيث تكون الأخوة التي يحملها كل فرد بين جنبيه، دافعاً أساسياً للمبادرة والعطاء، سواء لإغناء النفس بعمارة الأرض، أو لإعانة الغير ببذل المعروف لهم، وكل ذلك من مواصفات الإيمان، كما قال  تعالى :{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.([57])وبقدر هذا الشعور بالأخوة، يكون ذوبان الأثرة والأنانية والمصالح الخاصة في كيان المجتمع الإسلامي ومصالحه العامة([58])، مما يجعل خلق الأخوة ذا دور كبير في توجيه الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع وتحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي فيه.ولقد كانت المؤاخاة بين المسلمين من مهاجرين وأنصار؛ مثلا يحتذى به في ترقية الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، فهي الأساس المتين الذي أرسى به النبي  عليه الصلاة والسلام  قواعد الدولة الإسلامية الأولى بعد بناء المسجد النبوي في المدينة المنورة، حيث كان المهاجرون فقراء لا يملكون شيئًا بعد تركهم لأموالهم وأهليهم بمكة، فآخى النبي  عليه الصلاة والسلام  بينهم وبين الأنصار، مؤاخاة فريدة من نوعها، قائمة على المشاركة المعنوية في المؤازرة والولاء، والمشاركة المادية في الدُّور والأموال، وقد بلغت هذه المؤاخاة إلى حدّ التوارث بين المسلمين، بدل التوارث بين الأقارب الذي لم ينزل التشريع به بعد.([59])وأكثر من ذلك؛ فقد بلغت درجة الأخوة بين الأنصار والمهاجرين مبلغاً عظيماً قلّما يتصف به بنو البشر، إنه الإيثار الذي نال به الأنصار شرف مدحهم والثناء عليهم من ربهم، ووعْدِهم بالفلاح في قوله U:{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.([60]) 

الوسائل التربوية لبلوغ أهداف الاقتصاد الإسلامي أولاً: التعليمالاهتمام بالناحية التعليمية في ظل الإسلام، ظهر مُبكِّراً، منذ عهد النبوة، من خلال تعليم الصغار الكتابة، وجعله من ضمن طرق فداء الأسرى، فعن ابن عباس  رضي الله عنه  قال: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل لهم رسول الله  عليه الصلاة والسلام  فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة.([61])كما كانت المدن في البلاد الإسلامية تشعّ نورا بما تضمنته من مدارس ومعاهد ومراكز علمية لا يزال التاريخ يذكرها، فمن ذلك أن صقلية في العهد الإسلامي، بلغ عدد المساجد بأحد مدنها ثلاثمائة مسجد، في كل مسجد معلم للقرآن، ومعلمو القرآن لا يكلفون بالخروج إلى الجهاد عند مصادمة العدو، كما كانت العلوم الإسلامية رائجة والأدب العربي متمكناً، حتى أصبحت صقلية من أصقاع العلوم الإسلامية الشهيرة، ومقصداً لأهل العلم، يرحل إليها الأندلسيون لأخذ العلم عن رجالها، وكانت رحلة العلماء إليها من أطراف بلاد الإسلام شائعة.([62])

والتعليم له دور خطير في تنمية المجتمع وبعث حضارته؛ فيجب الاهتمام بإصلاح مناهج التعليم في كل مراحله، وفقاً لخصوصيات المجتمع الدينية والحضارية والتاريخية، بحيث تكون برامجه ومفرداته مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله r؛ باعتبارهما دستور المسلمين ومنهج حياتهم في شتى المجالات، والتي منها المجال الاقتصادي والاجتماعي، كما يجب الاهتمام بالمعلم والأستاذ الذي يبذل العلم لتلاميذه وطلابه، من خلال تكوينه وإعداده باستمرار وفعالية، وكفالته ماديا ومعنويا بما يليق بمنصبه الحيوي وتفرغه له، حتى يقوم بمهمته على أكمل وجه.([63])

كما يجب”إحداث تحول جذري في التعليم ليتخلص من استخدامه كوسيلة لأقلمة الإنسان مع حاجات النظام القائم، وليصبح التعليم وسيلة تعين الإنسان على ابتكار المستقبل، ومن أجل ذلك لابد أن يتعلم الطفل أن العالم ليس حقيقة تم الانتهاء من صياغتها، ولكن العالم عمل ينتظر الابتكار. إن المهمة الأولى للمثقفين كشف الأكاذيب التي تسود المراجع المدرسية، ووسائل الإعلام، وهما اللذان يخدمان الغرب للإبقاء على هيمنته بأيديولوجيات مغالطة عن حداثته، وليس ثمة افتراض واحد عن تلك الحداثة المزعومة لا يعد افتراء وكذبا”.([64])ولا شك أنّ من أسباب عدم تطبيق الاقتصاد الإسلامي؛ إقصاؤه من المراجع التعليمية المعتمدة في المدارس والمعاهد والجامعات، وحلّ محله تدريس المناهج والنظريات الغربية في الاقتصاد والاجتماع، والتي كانت السبب في جعل أبناء الإسلام يستوردون المناهج الاشتراكية أو الرأسمالية، لحلّ معضلات مجتمعهم ومشكلات اقتصادهم، “وفي البلاد الإسلامية على وجه الخصوص ليست المسألة بأن نعطي المال سلطانا لم ينزل به الله؛ بتركيزه في أيدٍ قليلة يتبعه انخفاض في مستوى المعيشة ونقص في القوة الشرائية وإفقار للجماهير الكادحة، وليست المسألة بأن ننتزع منه كل سلطان كذلك بإذابته في ضُرُبِ المساواة الطوباوية يَذهبُ بنجْعِهِ النافعِ في دفع الإنتاج”.([65])

وعلى هذا الأساس كانت ترقية الدراسات الإسلامية في مجال الاقتصاد الإسلامي وتطبيقاته المواكبة للعصر؛ من أهم ما يجب أن تتوجه إليه همم القائمين على التخطيط لإرجاع الأمة إلى حظيرة الإسلام، وإخراجها من نفق التخلف والتبعية، لأن”المطلوب من علم الاقتصاد في السابق كان أقل بكثير من المطلوب منه اليوم، فالإنسان كان يتقبل في السابق معظم ما يجري على أنه طبيعي أو مقدر ومحتوم، بينما الإنسان اليوم لا يستسلم ولا يتقبل شيئا كما هو؛ وإنما يبحث ويفكر في الأسباب والنتائج والوسائل والغايات وغير ذلك”.([66])

ولذلك فإنَّ من العوائق الواقعية؛ عدم وجود الكفاءات العلمية المتمكنة، وبالقدر الكافي، مما يعيق قيام أي فكرة، ويمنع تجسدها في الواقع المعاش، ومرد ذلك افتقاد المتعلمين للخلفية السليمة في تكوينهم وتعليمهم، وهذا يجعلهم غير متمكنين من نقل المعاني بصورة واضحة وسهلة والقدرة على إقناع الآخرين، بالإضافة إلى سوء العلاقات وانعدام الثقة بين العلماء الربانيين والقائمين على السلطة في المجتمع، فالطبيعة البشرية في الحقيقة ميالة إلى التمسك بالمعتقدات السابقة ورفض ما يعارضها من أفكار ونظريات، فلا تقبل إلا ما يتفق مع معتقداتها الأصيلة.([67])

ثانياً: الإعلامينبغي أن تُستغل وسائل الإعلام استغلالاً يخدم مبادئ الإسلام وحضارته، بما في ذلك الاقتصاد الإسلامي وأهدافه، سواء كانت هذه الوسائل مرئية أو مسموعة أو مقروءة، بحيث تعرض جوانب العظمة في هذه الحضارة وأسباب تفوقها، وتَقَدُّمَ المسلمين في جميع المجالات، والتعريف بعلماء الإسلام في شتى الميادين، ونشر تراثهم وأعمالهم، وأن تكون تلك الوسائل أداة بِنَاءٍ لا مِعْوَلَ هَدْمٍ كما هو الواقع في كثير من بلاد الإسلام.([68])

ويعتبر المسجد أهم مؤسسة إعلامية قادرة على الإسهام في بعث حضارة الإسلام، وتكوين رأي عام يحتضن شرائعه وقيمه، ويدافع عنها، بما في ذلك مبادئه في الاقتصاد، وذلك لما لهذه المؤسسة من مكانة في قلوب المسلمين، قادتهم وعامتهم، ونظراً لارتباطها بدينهم ومكونات شخصيتهم، كما أن التاريخ أثبت أن المسجد قد أدى دورا هائلا في حياة الجماهير الإسلامية، روحياً وحضارياً.([69])ولا ينطلق الاقتصاد الإسلامي في المجال الإعلامي من فراغ، بل من رصيد تاريخي حافل بالصور الحية التي تبين مدى ما بلغته المجتمعات الإسلامية من رفاهية اقتصادية وعدالة اجتماعية لا يزال صداها يدوي إلى يومنا هذا، فمن هذه الصور في القضاء على الفقر:”قال رجل من ولد زيد ابن الخطاب: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً، وذلك ثلاثون شهراً فما مات حتى جعل الرجلُ يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم فما يجده، فيرجع بماله قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس”.([70])ومن صور الرعاية الصحية وكفالة المرضى، فقراءهم وأغنياءهم على حدٍّ سواء؛ أحاديث نبوية وآثار للسلف الصالح كثيرة؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أصيب سعد يوم الخندق فضرب عليه رسول الله  عليه الصلاة والسلام  خيمة في المسجد، ليعوده من قريب”.([71])ومرّ عمر بن الخطاب  رضي الله عنه  بقوم مجذومين من النصارى عند مقدمه من دمشق فأمر أن يعطوا من الصدقات وأن يجري عليهم الوقف، كما وقف عثمان بن عفان محلة سلوان في ربض القدس على ضعفاء البلد، واشتهر الوليد بن عبد الملك بالاهتمام بالمرضى والزمنى والتوسيع عليهم؛ حيث أعطى لكل مُقعد خادما ولكل أعمى قائدا.([72])

وهذه صورة عجيبة لأحد المستشفيات التي بُنيت بمراكش المغرب، بناه بها أحد الخلفاء الموحدين، وقد وصفه أحد علمائها بقوله:”ما أظن أن في الدنيا مثله، وذلك أنه تخير ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه، فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخاريف المحكمة ما زاد على الاقتراح، وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهاً كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع برك في وسطه؛ إحداها رخام أبيض، ثم أمر له من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره بما يزيد على الوصف، ويأتي فوق النعت، وأجرى له ثلاثين ديناراً في كل يوم؛ برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة، خارجاً عما جلب إليه من الأدوية، وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعدّ فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم، من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض؛ فإن كان فقيراً أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل، وإن كان غنياً دفع إليه ماله وترك وسببه، ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء؛ بل كل من مرض بمراكش من غريب حمل إليه، وعولج إلى أن يستريح أو يموت، وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله يعود المرضى”.([73])

________________________________

[1]- قنطقجي، ص ص:101-102.
[2]- حمدي باشا عمر، نقل الملكية العقارية في التشريع الجزائري، عنابة: دار العلوم للنشر والتوزيع، سنة1420هـ-2000م، ص ص:56-57.
[3]- خديجة بقطاش، أوقاف مدينة الجزائر بعد الاحتلال الفرنسي 1830، مجلة الثقافة، العدد62، الجزائر: وزارة الإعلام والثقافة، سنة1401هـ-1981م، ص77.
[4]- هشام أسامة منور، الوقف تمويله وتنميته، بيروت: مؤسسة الرسالة ناشرون، سنة1426هـ-2005م، ص19 وما بعدها.
[5]- عبد الله يونس، ص ص:207-208 ؛ الزرقا، ص14.
2- مالك، الموطأ، كتاب دعوة المظلوم، باب ما يتقى من دعوة المظلوم، ص587.
[7]- رفيق المصري، أصول الاقتصاد الاسلامي، ص176.
[8]- الخفيف، ص262 ؛ الرصّاع، ص ص:537-538.
[9]- باقر الصدر، ص458.
[10]- الزرقا، ص16.
[11]- لزعر علي، الفلاحة في الجزائر بين الإنتاج والحاجة، مجلة آفاق، جامعة عنابة، ديسمبر1998م، ص ص:02-03.
[12]- الزرقا، ص ص:15-16.
[13]- سامي بن إبراهيم السويلم، فقه التدرج في تطبيق الاقتصاد الإسلامي، سنة1428هـ-2007م .h رضي الله عنه  رضي الله عنه p://www.islam رضي الله عنه oda تعالى .n عليه الصلاة والسلام  رضي الله عنه /pdf/ رضي الله عنه adarg.pdf، يوم19/03/2007 الساعة:15:00سا، ص44.
[14]- ابن تيمية، الخلافة والملك- تحقيق: حمّاد سلامة، الزرقاء-الأردن: مكتبة المنار، ط2، سنة1414هـ-1994م، ص34.
[15]- الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج4، ص ص:509-510، رقم1888 ؛ الألباني، صحيح سنن أبي داود، كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب ما جاء في خبر الطائف، ج2، ص258.
[16]- السويلم، ص ص:12-13.
[17]- ابن الجوزي، سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز، بيروت: دار الكتب العلمية، سنة1404هـ-1984م، ص127.
[18]- السويلم، ص ص:13-14.
[19]- h رضي الله عنه  رضي الله عنه p://www.abrar.org.uk/ara/ind عليه الصلاة والسلام x.php?show=n عليه الصلاة والسلام ws&ac رضي الله عنه ion=ar رضي الله عنه icl عليه الصلاة والسلام &id=4383 /19-03-2007 الساعة 14:30سا.
[20]- محمد بن إبراهيم، الحيل الفقهية في المعاملات المالية، الدار العربية للكتاب، سنة1985، ص24.
[21]- السويلم، ص36.
[22]- الشوكاني، نيل الأوطار، كتاب الصلح وأحكام الجوار، باب جواز الصلح عن المعلوم والمجهول والتحليل منهما، ج5، ص289 ؛ القرطبي، ج9، ص217.
[23]- ابن قدامة، كتاب البيوع، باب الربا والصرف، ج6، ص116.
[24]- محمد بن إبراهيم، ص ص:115-116.
[25]- محمد الطاهر ابن عاشور، ص112.
[26]- محمد بن إبراهيم، ص63.
[27]- مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، بيروت-القاهرة: دار الشروق، د.ت، ص92.
[28]- المنذري، كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره، ص172 ؛ مالك، الموطأ، كتاب الاستئذان، باب ما يؤمر به من الكلام في السفر، ص571.
[29]- ابن تيمية، الخلافة والملك، ص ص:53-54 ؛ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، لا يصحّ أن يُقال الإنسان خليفة عن الله في أرضه فهي مقولة باطلة، بيروت: مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع، سنة1416هـ-1996م، ص5 وما بعدها.
[30]- عبد الرحمن بن محمد الثعالبي، الجواهر الحسان في تفسير القرآن، بيروت: دار إحياء التراث العربي، سنة1418هـ-1997م، ج2، ص536.
[31]- سورة البقرة:2/30.
[32]- سورة الأنعام:6/165.
[33]- سورة فاطر:35/39.
[34]- سورة النور:24/55.
[35]- القرطبي، ج17، ص238.
[36]- باقر الصدر، ص506 وما بعدها.
[37]-  محمد الجمال، ص179 وما بعدها.
[38]- سورة هود:11/6.
[39]- سورة الحجر:15/19-21.
[40]- سورة هود:11/61.
[41]- سورة الذاريات:51/56.
[42]- سورة الجمعة:62/10.
[43]- عبد الله عبد العزيز عابد، مفهوم الحاجات في الإسلام، “دراسات في الاقتصاد الإسلامي – بحوث مختارة من المؤتمر الدولي الثاني للاقتصاد الإسلامي-“، جامعة الملك عبد العزيز: المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي، سنة1405هـ-1985م، ص16.
[44]- سورة النساء:4/9.
[45]- سورة القصص:28/24.
[46]- سورة الإنسان:76/8.
[47]- سورة الكهف:18/79-82.
[48]- الألباني، مختصر صحيح الإمام البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من جهز غازياً أوخلفه بخير، ج2، ص ص:278-279 ؛ المنذري، كتاب الجهاد، باب أجر من جهز غازيا، ص289.
1- الألباني، مختصر صحيح الإمام البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، ج1، ص435.
[50]- الألباني، صحيح سنن الترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة، ج1، ص355.
[51]- البخاري، كتاب الزكاة، باب من سأل الناس تكثرا، ج1، ص ص:325-326 ؛ مسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، ج2، ص594.
[52]- سورة قريش:106/3-4.
[53]- الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج3، ص362.
[54]- سورة الأعراف:7/96.
[55]- صالح حميد العلي، ص173.
[56]- البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، ج3، ص140 ؛ مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، ج4، ص1587.
[57]- سورة الحجرات:49/10.
[58]- محمد عبد الله الخطيب، خصائص المجتمع الإسلامي، الجزائر: دار الصديقية، د.ت، ص163.
[59]- ابن تيمية، الخلافة والملك، ص112 ومابعدها.
[60]- سورة الحشر:59/6.
[61]- الشوكاني، نيل الأوطار، كتاب الجهاد والسير، باب المن والفداء في حق الأسارى، ص348 ؛ مهدي رزق الله أحمد، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: دراسة تحليلية، الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، سنة1412هـ-1992م، ص359 ؛ إبراهيم العلي، صحيح السيرة النبوية، عمان-الأردن: دار النفائس للنشر والتوزيع، سنة1415هـ-1995م، ص ص:192-193.
[62]- محمد الفاضل بن عاشور، الحضارة الإسلامية في صقلية، المجلة الزيتونية، مجلد5، عدد5، سنة1361هـ-1942م، ص85.
[63]- حسن بن إبراهيم الهنداوي، التعليم وإشكالية التنمية، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سنة1424هـ-2004م، ص111 وما بعدها ؛ محمد أحمد كنعان، ص116 وما بعدها.
[64]- روجيه جارودي، ص146.
[65]- مالك بن نبي، ص47.
[66]- عارف دليلة، بحث في الاقتصاد السياسي، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط2، سنة1987م، ص10.
[67]- خيري خليل الجميلي، الاتصال ووسائله في المجتمع الحديث، الإسكندرية: المكتب الجامعي الحديث، سنة1997، ص ص:39- 40.
[68]-  محمد أحمد كنعان، سبيل النهضة منهج وهدف، بيروت: دار البشائر الإسلامية، سنة1412هـ-1991م، ص125 وما بعدها.
[69]-  محي الدين عبد الحليم، الرأي العام في الإسلام، القاهرة، دار الفكر العربي، ط2، سنة1410هـ-1990م، ص312 وما بعدها.
[70]- علي محمد محمد الصًّلاَّبيَّ، ص995، نقلا عن سيرة عمر لابن عبد الحكم ص128 ؛ ابن الجوزي، ص94
[71]- البخاري، كتاب الصلاة، باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم، ج1،ص113 ؛ المنذري، كتاب السير، باب الحكم فيمن حارب ونقض العهد، ص308 ؛ العسقلاني، كتاب الصلاة، باب المساجد، ص74.
[72]- محمد عبد الحي الكتاني، الملاجئ الخيرية الإسلامية، المجلة الزيتونية، مجلد3، عدد5، سنة1357هـ-1939م، ص237.
[73]- عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، www.al-mos رضي الله عنه afa.com رضي الله عنه o  رضي الله عنه O PDF:، يوم 25/01/2007 الساعة:14:23سا، ص ص:139-140.

المصدر: http://www.nashiri.net/articles/religious-articles/3897—–.html