أحبتي القراء الكرام.. إن الناظر إلى مفهوم الاستهلاك في المذهب الاقتصادي التقليدي يراه غير منضبط بضوابط أخلاقية ولا اجتماعية وعامة، وإنما يفترضون مبدأ الرُّشْد والعقلانية، ويبيح هذا النظام لنفسه أن لا يتدخل في الاستهلاك بعد ذلك، فيستهلك الإنسان ما يريد من السلع والخدمات النافعة أو الضارة، فيبيح الخمر والخنزير والزنا وغيرها من الأمور لأنها تمثل منفعةً لهذا المستهلك، واعتمادا على عقلانيته.
ولكننا في المقابل لو نظرنا إلى المذهب الاقتصادي الإسلامي، لوجدناه يقر للإنسان بحرية الاختيار لما يريد استهلاكه من السلع والخدمات المختلفة، إلا أنه يضبط هذا الاستهلاك بضوابط عديدة، من شأنها أن تحقق أعظم النفع والأهداف المنشودة من هذا الاستهلاك، وأهم هذه الضوابط والملاحظات هي:
1. إن الإسلام حصر الطلبَ الاستهلاكي في سلة الطيبات، فإن الله عز وجل قد سخر لنا الكون وما فيه، وحرم علينا أشياء معينة، فصَّلها في شرعه العظيم، قال تعالى: ” وقد فصَّلَ لكم ما حَرَّم عليكم ” (سورة الأنعام/ آية119)، ولذا يَحْرُم علينا أن نستهلك ما حرمه الله ورسوله، وما حرم استهلاكُه حرم إنتاجُه، كالخمر وأدوات الميسر ونوادي الفواحش.
بخلاف المجتمعات غير الإسلامية والتي تستهلك وتنتج ما يحل وما يحرم؛ وذلك لعدم احتكامها إلى الشرع الحنيف الذي أنزله خالق الأرض والسماوات.
2. إن الاستهلاك يكون لإشباع منفعة معينة، وإننا نرى المجتمعات غير الإسلامية تستهلك ما يشبع منافعها سواء كانت هذه المنفعة حقيقية أو وهمية، حيث قد يقدم الإنسان على شرب الخمر لأنه يرى فيها خلاصَه من الهموم التي تثقله، ولكنها منفعة وهمية، ولذا نرى الإسلام لا يقر هذه المنفعة الوهمية ويقر المنفعة الحقيقية، فنراه حرم الانتحار، في حين ترتفع نسب الانتحار في البلاد غير الإسلامية لأنهم يأخذون بهذه المنفعة الوهمية المزعومة.
3. مبدأ وظيفية الاستهلاك: ويعني ذلك أن الاستهلاك له وظيفة طبيعية أقرها الإسلام واحترمها بل وجعلها أساساً من أسس الاستهلاك في المجتمع المسلم، وتتجلى هذه الوظيفية في حفظ الإسلام للضروريات الخمس، حتى أباح للإنسان أن يأكل الميتة حفاظاً على روحه من الهلاك، كما أمره بحفظ طاقاته الجسدية من خلال حفظ النفس، وطاقاته الروحية من خلال حفظ الدين، وطاقاتِه العقلية من خلال حفظ العقل، وهكذا في بقية الأمور.
وهذا كله تأكيد لمبدأ وظيفية الاستهلاك في المجتمع المسلم.
4. مبدأ وحدة دالة الاستهلاك، ويسميه بعض الباحثين: مبدأ وحدة دالة الرفاهية الاجتماعية، حيث ينظر الإسلام إلى المجتمع المسلم على أنه طبقة واحدة، وليس طبقيات متعددة، وله دالة استهلاك اجتماعية موحدة ومنع التمايز وتكريس الموارد بما يخالف ذلك وبما يخالف ضروريات المجتمع، وهذا واضح ومنظور من خلال مختلف التشريعات الإسلامية، ومنها على سبيل الإجمال:
1) قوله تعالى: ” … كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ” (سورة الحشر/آية7).
2) أحاديث الستور، منها: حديث عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما -قال أتى النبي بيتَ فاطمةَ، فلم يدخل عليها، وجاء عليٌّ فذكرتْ له ذلك، فذكره للنبي ، قال: “إني رأيت على بابها سترا موشيا” وقال: “ما لي وللدنيا”، فأتاها عليٌّ فذكر ذلك لها، فقالت: ليأمُرْني فيه بما شاء، قال: “ترسل به إلى فلان أهل بيتٍ بهم حاجة ” (رواه البخاري).
وحديث عائشة -رضي الله عنها -: رأيت النبي خرج في غزاته فأخذت نمطا فسترتُه على الباب، فلما قدم فرأى النمط عرفتُ الكراهيةَ في وجهه، فجذبه حتى هتكه أو قطعه، وقال: “إن الله لم يأمرنا أن نكسوَ الحجارة والطين”، قالت: فقطعنا منه وسادتين وحشوتُهما ليفاً فَلَمْ يَعِبْ ذلك عَلَيّ (رواه مسلم).
5. إن دالة الاستهلاك في النظام الإسلامي تؤمن الكفاية لأفراد المجتمع، وقد مر معنا أن هناك استهلاكا ذاتيا مستقلا عن الدخل، يستهلك الإنسان حتى لو لم يكن له دخل يكفيه، ولكن الإسلام بتشريعاته يكفل هذا الحد لكل إنسان وهو ما يسمى حدَّ الكفاية،حيث إن كفاية الناس تجب بعملهم واكتسابهم أو وفق النظام المحكَم نظامِ النفقات، فإنْ لم يَفِ العمل ولا النفقات فإن بيت مال الزكاة يجب أن يعطيهم ما يكفيهم ويوصلهم إلى أدنى مراتب الغنى، وإن عجزت ميزانية بيت الزكاة عن ذلك فتُلقى مسؤوليةُ كفايتهم على بيت المال العام بيت مال المسلمين، ويكون ذلك بناءً على أساس حقوقي معتبر في الشريعة الإسلامية وهو الحاجة.
6. إدخال البُعد الأُخرَوي والإيثاري في المنفعة، حيث إن الاقتصاد الوضعي لا يتعامل إلا مع المحسوسات المادية، بينما يُضيف الإسلام البُعْدَ الأخروي إلى المنفعة والاستهلاك، فترى الأجر العظيم للصدقة والإحسان والقرض الحسن والنفقة على الأقارب والهدايا والصلة وغيرها من ألوان البر والإيثار، بل تجد الإنسان يوازن بينها وبين الاستهلاك المادي المحسوس أحيانا كما فعل عثمان -رضي الله عنه -مع التجار حين أربحوه بتجارته خمسة أضعاف، ولكنه قال: ولكن اللهَ أعطاني فيها عشرة أضعاف، وتصدق بها.
7. عدم تشويه الطلب الاستهلاكي، حيث إن المنتج في النظام الرأسمالي يعمد إلى زيادة الطلب على سلعته عن طريق الدعايات، وهي إحدى آفات الإعلام المعاصر، حيث استخدمت المرأة سابقاً، والأطفال لاحقاً، بل صارت تُدرَس دراسةً نفسية للتأثير على المستهلك، حتى يجنح للاستهلاك الترفي فوق الدخل المُتاح (Disposable Income)، حتى ابتعد الاستهلاك عن الدخل ولم يعد دالَّةً له، بل انفجر انفجاراً ذريًّا فصار أكبر من الدخل، وأعانت على ذلك وسائل الإعلام من جهةٍ والمصارفُ من جهةٍ أخرى بتقديم قروض وتسهيلات بلا ضمانات؛ لدعم تشويه الاستهلاك.
ومن خلال هذه الضوابط والملاحظات وغيرها نرى الاهتمام الرباني الإسلامي بحفظ الفرد والإنسان على وجه الأرض فتوجيهه الوجهة الصحيحة، فإن النفس تركن إلى المهالك إذا تركناها على هواها، ولذا قال الشاعر:
النفسُ كالطفلِ إن تتْرُكْه شَبَّ على—– حُبِّ الرضاعِ وإن تفطمْه ينفطمِ
فسبحان الخالق والمشرع الحكيم..وإلى لقاء قريب بإذن الله تعالى.
بقلم: بشر محمد موفق
bishrmm@gmail.com
متخصص في الاقتصاد والصيرفة الإسلامية
أحدث التعليقات