تَحدَّثتُ في الخاطرة السابقة عن التدقيق الشرعي الداخلي في المصارف الإسلامية في ظل التحول الرقمي، وكان الحديث أقرب للواقع منه إلى التنظير، فما نحتاجه هو دفعة باتجاه الأمام، وليس تنظيراً بعيد المنال، ومن هذا المنطلق؛ ربما يكون من المفيد الاطلاع على أحدث التقنيات المستخدمة فعلياً في مجالي الالتزام والتدقيق الداخلي، فهذان المجالان أقرب المجالات إلى مجال الالتزام الشرعي والتدقيق الشرعي الداخلي من حيث الأدوات، ولعل تسليط الضوء على ذلك يفتح باب التأمل في استخدام تلك التقنيات في مجال الالتزام الشرعي والتدقيق الشرعي الداخلي. وسأتناول في هذه الخاطرة ما يسمى بأتمتة المعلومات الآلية (Robotic Process Automation)، ولعلي أتكلم عن بعض التقنيات الأخرى في خواطر لاحقة، وكُلّ ذلك يَصبّ في محاولة تعزيز الضبط الشرعي والحوكمة الشرعية في ظل ما تشهده التقنيات المالية من تطور متسارع.
يُعَدُّ اتساع حجم العمليات، وما يتبعه من ارتفاع احتمالية وقوع الأخطاء البشرية، وارتفاع تكاليف التشغيل من أبرز الأسباب التي دفعت لبدء الإستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الالتزام والفحص في المؤسسات المالية، فقد بدأت بعض المؤسسات منذ مدة استخدام أتمتة العمليات الآلية (Robotic Process Automation) في عمليات التشغيل و التدقيق و إدارة الأعمال ، وكيف يتم ذلك؟ يتمُّ من خلال تدريب برامج الأتمتة الآلية على محاكاة الأعمال الروتينية الاعتيادية المتكررة التي يقوم بها المستخدم البشري على أنظمة التشغيل والتدقيق، لكنها تقوم بذلك بفعالية أكبر ووقت أقل، ونقصد بالتدريب هنا أي تعليم الآلي على قراءة المعلومات المطلوبة من مصادرها، واتباع الخطوات المطلوبة والمتبعة لفحص العمليات خطوة بخطوة، من البداية إلى النهاية وفي مختلف الحالات المتوقعة كما يفعل المستخدم البشري تمام، وكذلك مراقبة كفاءة إنجاز العمليات من خلال فحصٍ دقيقٍ لصحة المعلومات قبل الإدخال، ومتابعة إدخالها بالتسلسل المطلوب لإتمام العمليات، وبذلك يتم التحقق من تنفيذ العملية من قبل الآلي خلال وقت قياسي قصير؛ لتصبح المعلومات جاهزةً للمتابعة والاستخدام من قبل فريق العمل دون عناء البحث عنها في أكثر من مصدر، وإهدار الوقت في إدخالها، ويبقى على فريق العمل أن يفحص تلك النتائج ليتأكد من سبب عدم مطابقتها للآلية الصحيحة ومعالجة ذلك.
ومن الأمثلة على ذلك استخدام تلك الآلية حالياً في عدد من المؤسسات للتحقق من عمليات غسيل الأموال في المؤسسات المالية، ففي بعض المصارف تتجاوز العمليات المصرفية اليومية 100,000 عملية، ومن الصعب الاعتماد فقط على المراجعة البشرية للتحقق من تلك العمليات، والوفاء بمتطلبات الكفاية بالدقة المطلوبة من السلطات الإشرافية لمسح عمليات غسيل الأموال، فكان الحل لهذه المشكلة في استخدام إنظمة الأتمتة الآلية للعمليات (RPA)، فتقوم المؤسسات بربط نظامها الرقمي المعني بمسح العمليات المصرفية مع نظام الأتمتة، وبرمجته بما يلزم من الضوابط و القيود؛ للتحقق وإصدار الإشعارات والتنبيهات للعمليات المشكوك فيها، والتي تتطلب التحقق، فيقوم النظام بفحص جميع العمليات المنفذة، والتأكد من سجلات العملاء وعملياتهم ومعلومات دخلهم، وهنا يبدأ دور الآلي بجمع المعلومات الكثيرة والمتناثرة في مختلف المصادر؛ لتكون جاهزة لاستخدام الموظف المحقق، فيبدأ بعد أن أصبح كل شيء جاهزا بين يديه بما يسمى بعملية الفحص الدقيق، كالتحقق من الحركات المالية للأشهر الستة الماضية، والتأكد من مصدر دخل المتعامل، وإذا ما كان دخله يسمح بوجود التحويلات التي قام بها على سبيل المثال، وغير ذلك مما هو مطلوب، وتلك العملية يتم إنجازها عادةً خارج ساعات العمل، فيأتي الموظف في بداية اليوم ليجد كل المعلومات المطلوبة ونتائج الفحص جاهزة، وهي العمليات المشبوهة التي تحتاج إلى تدقيق وعناية خاصة لفحصها والتأكد منها.
ومن خلال ما ذُكِر، يمكن أن يستفيد قطاع التدقيق الشرعي الداخلي في المصارف الإسلامية من تقنية (Robotic Process Automation)، حيث يمكن تغذية الآلي بالضوابط المطلوب النظر إليها، فيقوم بمسح كافة المعلومات (وليس عينة منها فقط) من أنظمة المصرف المختلفة كما يفعل المدقق الشرعي حاليا، ويقوم بتحليلها ومطابقتها واستخراج ما خالف الضوابط المبرمج عليها، فيتأكد من التسلسل الصحيح لتنفيذ العملية من خلال قراءة التواريخ في العقود والأنظمة، ويتأكد من أن تَملّك الأصل قد تحقق قبل بيعه للمتعامل في بيع المرابحة مثلاً، ومن صحة اقتطاع الأرباح والرسوم المتفق عليها من خلال التأكد من صحة المبالغ المسجلة في النظام، ومقارنتها مع ما تم خصمه بالفعل من حساب المتعامل، ليكون كلُّ ذلك بين يدي المدقق الشرعي مع جميع البيانات المطلوبة، وبعدها يمكن أن يتركز عمل المدققين الشرعيين على نتائج ذلك الفحص، فيراجعون العمليات ويضعون الملاحظات، ويصححون ما لزم، ويضعون التوصيات لتطوير الممارسة الحالية بما يضمن عدم تكرار الخطأ، كما ويمكن أن يكون هناك تدقيق على عينة بسيطة للتأكد من سلامة ودقة عمل النظام ومخرجاته فضلا على تدقيق النظام نفسه.
وقد أسعدني أحد المتخصصين الفضلاء الأسبوع الماضي عندما أخبرني أنهم قد بدأوا بالفعل بالعمل على الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في عمليات التدقيق الشرعي، وأنهم في طور العمل على اكتشاف مجالات أخرى يمكن أن يستخدموا فيها بعض تلك التقنيات في عملهم لرفع مستوى الضبط الشرعي في مؤسستهم وزيادة كفاءته.
إن استخدام تقنية أتمتة العمليات الآلية (Robotic Process Automation) في أعمال التدقيق الشرعي سيكون له إسهامات كبيرة في تحسين عمل الأقسام الشرعية في المؤسسات المالية، ورفع مستوى الالتزام والضبط الشرعي إلى مستويات عالية، كما أن ذلك سيساهم في مواكبة تلك الأقسام للتحول الرقمي المتسارع، وهو ما سيعزز وجودها ودورها المنشود. والله تعالى أحكم وأعلم.
د. مهند الدكاش
20/11/2020
mohanadaldakash@hotmail.com
(هذه الخاطرة تعبر عن رأي كاتبها فقط)
أحدث التعليقات