مقال: تأملات في سنن الله في الكون والحياة – د. جريبة بن أحمد الحارثي

(تأملات في سنن الله في الكون والحياة)
1. تأملت قول الله تعالى (يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون)، وحديث (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وغيرها … فعلمت -ما علمه آخرون من قبلي -أن الشريعة جعلت لأمور الدنيا سننًا وأسبابًا من أخذ بها وصل للنتيجة المترتبة على الأخذ بها، فهي سنن كونية في التعامل مع ما سخره الله للإنسان من موارد مادية في الأرض، فمن تعامل مع تلك الموارد وفق تلك السنن الكونية، فإنه سيستفيد منها بدرجة عالية، سواءً أكان برًا أم فاجرًا، غير أن البَرَّ يلتزم في ذلك بما تقتضيه العقيدة والقيم والأخلاق التي جاء بها الإسلام، وذلك لضبط سلوك الإنسان في تعامله واستفادته من تلك الموارد، بينما لا يلتزم الفاجر بشيء من ذلك، إلا ما وافق هواه، ورأى أنه يحقق مبتغاه..
2. أما القضايا المتعلقة بأمور الدين، وتنظيمه للحياه، فهذه لا يهتدي للصواب فيها من انقطعت صلته بالوحي، فلم يؤمن به ويستهدي بشرعه.. فهو في هذا الشأن يعيش في ظلمات (إذا أخرج يده لم يكد يراها)، فكيف تريد نورًا ينير حياتك ممن (لم يجعل الله له نورًا)؟ ولا يعني ذلك عدم استفادتك منه في أمور الدنيا، فقد يكون ممن أخذ بالسنن والأسباب، فحصل منها على ما لم تحصل عليه، فعلم ظاهرًا من تلك الحياة، لكنه أخفق في معرفة غير الظاهر(الغيب) منها، لذا تراه يُسخِّر ما توصل إليه في أمور الدنيا، وما اكتشفه من أسرارها لتحقيق منافعه في الحياة الظاهرة فقط، بعيدًا عن الوحي وهدايته، وما احتواه من ربط الدنيا بالآخرة..
3. أتعجب من أساتذة كبار في الاقتصاد والتمويل في الغرب … كتبوا وقدموا أفكارًا في الاقتصاد، ونال بعضهم جائزة نوبل!! لكنهم لم يهتدوا لخطورة الربا والقمار والغرر والمضاربات على الاقتصاد، رغم وضوحها،،وقد يتحدث بعضهم عنها، لكن لم يكن ذلك قول الغالبية منهم، لأنهم لو اهتدوا لذلك، ونادوا به كلهم أو جلهم لحدثت استجابة…ولكن كيف يهتدون، وهم بعيدون عن مصدر الهدى (يعلمون ظاهرًا عن الحياة الدنيا فقط)؟ أتذكر هنا أننا قد نرى عالمًا يضرب به المثل في اكتشافاته المذهلة في علم الطب أو الفضاء أو التقنية … ثم نراه في المساء منبطحًا تحت أرجل بقرة؛ يطلب منها بركة وعطفًا وحلًا لمشكلاته النفسية والاجتماعية…!! (خواء روحي، لم يهتدِ لسننه، ومصدره، كما اهتدى لاكتشاف سنن الله في العلوم التجريبية، فبحث عن سد ذلك الخواء الروحي تحت أرجل تلك البقرة! ).*
(ولكن: ينبغي أن نعترف أنه انطلق من محرابه أمام البقر، لمتابعة أبحاثه في المختبر؛ فنجح فيما أراده من دنياه، وخسر في أخراه… ومن العيب في حق من يناجي ربه في محراب الصلاة، أن يتقاعس عن العمل في محراب الحياة، ويستجدي المعرفة بعلومها ممن لا يعترف بمولاه*!)
4. خلاصة: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) توجيه نبوي كريم نحو أداة فنية لممارسة نشاط اقتصادي (زراعة)، قائمة على الملاحظة والتجربة، لاكتشاف سنن الله في هذا الشأن، وهذه يسبق إلى اكتشافها من كان أكثر جهدًا ومثابرة ودقة وطول نفس في الملاحظة والتجربة، وهذا الجانب نستمد العلم بشأنه من الخبير فيها؛ برًا كان أو فاجرًا، بل إن الحكمة (وهي ضالة المؤمن) تقتضي أن سؤال الخبير الكافر عنها أولى من سؤال المسلم غير الخبير؛ فهي مشترك إنساني، يصل إليه من اكتشف سنن الله فيه…جانب فني بحت (تأبير النخل)، لا تتدخل فيه الشريعة إلا باشتراط عدم تصادمه مع المبائ العامة ومقاصد الشريعة، فلا نستخدم أداة ضارة، أو تحتوي محظورًا شرعًا(مثلًا: التسميد بالنجاسات، التداوي بالخمر)، فإذا ظهر الزرع، فلا تبعه قبل بدو صلاحه (لأن درجة الغرر عالية= غرر كثير)، فإذا حصدته (فآتوا حقه يوم حصاده)، فإذا استهلكته (فكلوا واشربوا ولا تسرفوا)، فإذا بعته، أو بادلته، فلا ربا، ولا غش، ولا غرر، ولا غبن، ….
5. في العلوم الإنسانية والاجتماعية مبادئ، ووسائل، وقد اهتم الإسلام بوضع مبادئ تلك العلوم (العدل، الرفق، المساواة، الصدق، التعاون، التراحم، التكافل، التشاور…)، وترك للبشرية الاجتهاد في اكتشاف وسائلها التي تناسب الزمان والمكان؛ فالمبادئ ثابتة، والوسائل متغيرة ومتطورة، والوسائل اجتهادية، شريطة أن تكون شريفة، ولا تؤدي إلى محظور، لذا يمكن أن يهتدي لها الفاجر قبل البر، وهي من الحكمة التي يبحث عنها المؤمن أنّى وجدها أخذ بها، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم فكرة حفر الخندق من الفرس، وأخذ عمر نظام الدواوين من الروم، وكلها أدوات، لا تصطدم مع المبادئ، بل تسهم في تحقيقها بكفاءة …