بسم الله الرحمن الرحيم
١-١ الصُّكوك التي نقصدها، هي صكوك التَّمويل العادية المصنَّفة ائتمانياً، التي تَعدُّها صناعة الصُّكوك والسَّندات “أداة دَين”. وفرقٌ بين أداة الدَّين وأداة المداينة. وهنا، نستبعد صكوك الشِّق الأول من رأس المال، فهذه لها طبيعتها ومسائلها الخاصَّة. ومثْلها في بعض مسائلها صكوك الشِّق الثاني من رأس المال.
١-٢ تمثِّل هذه الصُّكوك ما يفوق ٩٥٪ من إصدارات الصُّكوك عالمياً (وهذا مع الاحتياط، وليس لديَّ نسبة دقيقة). وقد بلغَت إصدارات الصُّكوك القائمة أواخر ٢٠١٨، أكثر من تسعين مليار دولار. وبذلك ندرِك أهميَّة وخطورة صناعة الصُّكوك، والحاجة للعناية بها. والمقدار المذكور تدخل فيه صكوك بيع الدَّين النَّقدي بنقدٍ، في ماليزيا، وهذا البيع “ربا” كما لا يخفى.
١-٣ يقود دفَّة صناعة الصُّكوك في العالم ثلاثة من البنوك التَّقليدية العالمية (ويُحاول رابعٌ اللحاق بها). وهذه البنوك تسِّوق الصُّكوك المدرجة في الأسواق العالمية للمستثمرين شرقاً وغرباً بما تملكه من شبكة علاقاتٍ واسعة، وبنية تقنيَّة متقدِّمة، وأكثر المستثمرين في الصُّكوك (كما هي الإحصاءات) جهات تقليديَّة، من بنوك عالمية وصناديق وسواها.
١-٤ الفنيُّون في هذه البنوك الثلاثة (وما شاكلها، ومعهم الفنيُّون في البنوك الإسلاميَّة المصدِرة للصُّكوك أو المشتغلة بإصدارها)، يقيمون الصُّكوك على سَنن السَّندات. فمهما كانت الهيكلة الشَّرعيَّة المستخدمة، فإن الواجب في الصُّكوك أن تكون من الناحية القانونية والفنيَّة، وبحاصل شروطها وأحكامها وتعهداتها، مماثلةً للسَّندات في “المخاطر”، ويُطالَب المحامون بتحقيق ذلك في صياغتهم. وهذا لأسباب، منها: أن المستثمرين في الصُّكوك، ممن ذكرتُ وسواهم، يستثمرون فيها استثمارهم في السَّندات أو بمثل الاستثمار في السَّندات، ويزِنون مخاطرها بميزانها، معتمدين في الغالب على ما تطمئنهم إليه وكالات التَّصنيف الائتماني. ثم إن هؤلاء الفنِّيين يمنعون أيَّ محاولة للتَّغيير إن كان التَّغيير يوجِد منفذاً ولو ضيقاً ينتقل من خلاله شيء من مخاطر ملكيَّة أصول الصُّكوك من الجهة المتموِّلة بها إلى حمَلتها. فهم رعاة حال الصُّكوك القائمة اليوم، ولا يرون غيرها عملياً قابلاً للرَّواج، ويتعذَّر في نظرِهم (ومن بعض تجاربهم) تسويقها للبنوك الإسلامية قبل غيرها.
١-٥ تُصنِّف وكالات التَّصنيف الائتماني الصُّكوك (والتَّصنيف شرطٌ للإدراج والتَّسويق العالمي على الأقل) على أساس ثبوت رأس مالها وعوائدها في ذمَّة الجهة المتموِّلة بالصُّكوك، بحيث تكون هي المطالَبة بها في أي وقت خلال حياة الصُّكوك وإلى الإطفاء، دون أن يكون المرور بالأصول شرطاً حتماً لهذا الثبوت. وهي بهذا لا تُصنِّف الصُّكوك إن كانت شروطها وأحكامها وتعهداتها تسمح بانتقال شيء من مخاطر أصولها إلى حمَلتها، ولو فُرض انتقال شيء من هذه المخاطر إليهم للزمها تصنيف الأصول، وهو ما لا تفعله. يقول فضيلة شيخنا الدكتور محمد القري (في بحثه: الصُّكوك الإسلامية ..): “التصنيف يكون للأوراق المالية الممثلة لديون، ولذلك لا تصنيف للأسهم لأنها تمثل ملكيَّة أصول”. وهذه الوكالات لا تقبل الاعتماد في تصنيفها على التأمين، وإن كانت الأصول مؤمَّناً عليها، لأن المقتضى تصنيف شركة التأمين، وهي لا تقوم بذلك. والحاصل أن التَّصنيف يقتصر على الملاءة المالية للجهة المتموِّلة كما هو الحال في السَّندات، وعلى قياس مقدرتها على الوفاء برأس مال الصُّكوك وعوائدها دون أي اعتبار لأصول الصُّكوك إلا من ناحية التأكُّد التام من إغلاق منافذ وصول مخاطر هذه الأصول إلى حمَلة الصُّكوك.
١-٦ ولأن المخاطر متماثلة، فلو أَصدرَت جهة صكوكاً وأَصدرَت سندات معاً، وقد وجِد هذا في التَّطبيق، فإن التَّصنيف الائتماني للإصدارين يكون واحداً، ولا أثر لأصول الصُّكوك وحالها أو حال جودتها (وما قد يَعرِض لها) عليه.
١-٧ لا يكفي للحكم على الصُّكوك الاقتصار في المراجعة على نشرة الإصدار، أو على مراجعة عقود الهيكلة الشَّرعية فقط، وإنما لا بدَّ من مراجعة العقود والمستندات التي اصطلح على تسميتها: “مستندات سوق رأس المال”، وهذه لا تُسرَد – في الغالب – ضمن العقود والمستندات التي تُذكَر في مستند الفتوى الخاصَّة بالصُّكوك. وربما ذكرتُ فيما بعد ما يرد في العادة في بعض هذه المستندات مما له أثر في نفي حقيقة التَّعاقدات الشَّرعية في الصُّكوك، كخطِّ دفاع أخير لدى المحامين.
١-٨ من الأخطاء الشائعة الخلط بين إصدار صكوك التَّمويل (صكوك الدَّين) التي نعنيها بحديثنا، وبين الصُّكوك الناشئة من “توريق” أصول. فما تقرِّره القرارات المجمعيَّة والمعايير الشَّرعية ومعيار الصُّكوك لسوق دبي المالي (الذي أعدَّه فضيلة شيخنا الدكتور حسين وفضيلة شيخنا الدكتور عبد السَّتار، حفظهما الله تعالى، وهو من أوسَع المعايير اليوم، إلا أن الصِّناعة – وللأسف – تجاهلَته) يُطبَّق (وربما أكثر منه) في التَّوريق، إن وجِد توريق، حيث تشترط المعايير المحاسبية التَّقليدية في التَّوريق: أن يكون بيع الأصول بيعاً حقيقياً. ولكي يكون البيع كذلك، فيلزَم: أن تخرج الأصول من ميزانية الجهة البائعة (المورِّقة لها)، وأن يكون للمشترين حق التصرُّف بالأصول ورهنها، وأن تنقطع صلة تلك الجهة بالأصول بانتفاء سيطرتها المؤثرة عليها. (وإذا لم يكن البيع حقيقياً بهذه الكيفيَّة، فإن التَّوريق يُعدُّ وفق تلك المعايير المحاسبية: “قرضاً مضموناً” لا بيعاً).
١-٩ هذا الذي أقوله (من جوانب قانونيَّة وفنيَّة) ليس مجرَّد فهمٍ أو استنتاجٍ من مراجعة عقود ومستندات عدد من إصدارات الصُّكوك، على كثرة ما ابتليتُ بمراجعته، وإنما هو ما سمعته من المشتغلين بصناعة الصُّكوك من محامين (في مكاتب محاماة عالمية مختلفة) وفنيين (في البنوك العالميَّة وغيرها) وممثلين لوكالات التَّصنيف الائتماني العالمية، في مناقشات مطوَّلة متكرِّرة معهم، ومنه ما هو موثَّق بمكاتبات، والواقع ناطقٌ به. ومن هؤلاء من يصدَع به في المؤتمرات العالمية، ويَعدُّه نجاحاً وصلت إليه صناعة الصُّكوك. بل هو أهم أداة يُعتمَد عليها في تسويق الصُّكوك للجهات العالمية، وللجهات المصدِرة للصُّكوك من غير المؤسسات المالية الإسلامية.
هذه عصارة المختصَر في بيان البيئة التي تولَد فيها صيغ وهياكل الصُّكوك، وفيها تُطوَّر وتَتطوَّر. ومن اليسير التَّنظير في مسائل الصُّكوك دون استصحاب هذه البيئة، ومن البعيد الوصول إلى أحكام سليمة فقهاً في تلك المسائل دون هذا الاستصحاب.
وبعد مناقشة هذه التَّحديات، يمكن أن ننتقل إلى موضوعنا وهو الصُّكوك المقارَنة ببيع الوفاء، ولا نغادره خِداجاً.
وسيقدِّم هذا المنتدى خدمة جليلة للصِّناعة إن انتهى إلى “خارطة طريق” موضوعيَّة، تُعالج التَّحديات أو تبيِّن سبل التَّعامل معها. وقد ننتهي إلى أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان.
والله تعالى أعلَم ..
أحدث التعليقات