مقال: رمَّانة القبَّان – د. أسيد أديب الكيلاني

– الحديث عن بنية المصرفية الإسلامية يبدأ بالحديث عن بناء المصارف التِّجارية الإسلامية. فهذا البناء هو الذي كان متاحاً أو ممكناً عند بدء هذه المصارف المباركة، واستمرَّ إلى اليوم، واستقرَّ، وهو مقتبَسٌ من عموم بناء البنك التجاريِّ التَّقليدي. واعذروني إن تحدَّثت بلغةٍ أفهمها، تبتعد عن التَّعبير الفنيِّ الذي لا أجيده كثيراً.

 

– والمقصود بالبناء هنا، البناء المالي الدَّاخلي للمصرف الإسلامي، الذي يقوم على الأصول والخصوم (أو الخصوم والأصول)، بتصوُّراتها ومقتضياتها التَّقليدية العامة. فما يتلقَّاه المصرف الإسلامي يكون التزاماً عليه، وإن تلقَّاه بصيغةٍ من صيغ الاستثمار. وما يقدِّمه من تمويل يكون التزاماً في ذمَّة المتموِّل (بأصله وربحه)، أياً كانت صيغة التَّمويل. (ولا يعني هذا أن المصرف الإسلامي يَقترض أو يُقرض بفائدة).

 

– وللتَّوضيح أكثر، فما أقصده هو البناء المالي الدَّاخلي (الهيكلي أو المِحوَري)، الذي:

• تَعمل لجنة الأصول والخصوم (ALCO) في المصرف وفقاً له، وتُوازِن وفقاً لمقتضياته بين الأصول والخصوم كالتزاماتٍ متقابلة. • تَبني إدارة المخاطر عملها، وتَضَع معاييرها وأوزانها تأسيساً عليه. • تُعامِل الجهات الرقابية المصرف الإسلامي على وفقه، وتَبني معادلة كفاية رأس المال وتُطبِّق معايير “بازل” على المصرف وفقاً له. • تُصنِّف وكالات التَّصنيف الائتمانيِّ المصرف الإسلامي انطلاقاً منه … إلخ.

 

– والخلاصة: أن كلَّ أطراف العمل المصرفي أو العملية المصرفية يعتدُّون بهذا البناء، باستثناء الهيئات الشَّرعية (كما هو المقتضى). وقد تُخفِّف قلَّة (نادرة) من الجهات الرقابية من صرامته أو صراحته.

 

– من مقتضيات هذا البناء أن التَّمويل (في جانب الأصول) يتعامل مع مخاطر الائتمان. (ونترك جانبَ تلقي الأموال أو ما يُسمى بالخصوم، تركيزاً للفكرة واختصاراً لها).

 

– أما مخاطر الملكيَّة، وهي رمَّانة القَبَّان، فلا يَقبل هذا البناء (وأهله) تحمُّلها في أيٍّ من صيغ التَّمويل، وهذا واحدٌ من أهم أسباب ما (قد) نراه من ضعفٍ أو خللٍ في منتجات أو عمليات التَّمويل في المصارف الإسلامية، وهو يمتدُّ بأثَره إلى الصُّكوك وما فيها. والفقهاء يعبِّرون عن هذه المخاطر بالضَّمان، كما هو معلوم.

 

– قد تَجهَد التَّعاقدات في الإبقاء على هذه المخاطر، بالقدر الأدنى المطلوب شرعاً، وتنجَح في شيء من ذلك، إلا أن التَّفكير الفنيَّ لأطراف العمليَّة يقوم على البناء إياه. ومن دَور المحامين (البارِعين في التَّمويل الإسلامي، في نظر الفنيِّين) تتبُّع مثل هذه المخاطر، وقفل منافذها.

 

– ولذا فإن معدَّلات أرباح التَّمويلات لا تأخذ في حسبانها مخاطر الملكيَّة، وهذا من أبرَز مظاهر البناء الذي نتحدَّث عنه. ولتقريب الفكرة، أُورِد أمثلة سريعة تؤكِّد هذا الزَّعم: ١) يكون في التَّمويل المجمَّع شقٌّ تقليديٌّ يقوم على الإقراض بفائدة، وشقٌّ إسلامي يقوم على التَّمويل بالإجارة، ويكون معدَّل “العائد” في الاثنين متساوياً، والمتموِّل واحدٌ. ٢) تكون نسبة “عائد” التَّمويل واحدةً سواء تم تمويل العميل بالمرابحة أو الإجارة المعيَّنة أو الإجارة الموصوفة في الذِّمة أو الاستصناع. ٣) يموِّل بنك تقليديٌّ عقاراً بالرَّهن (بقرضٍ بفائدةٍ)، وتموِّل نافذته الإسلامية العقار نفسه بالمشاركة المتناقصة أو بالإجارة المنتهية بالتَّمليك، بنسبة “العائد” نفسها.

 

– الاقتصار على مخاطر الائتمان ورفض مخاطر الملكيَّة هو (في الحدِّ الأدنى، وعلى سبيل التَّنزُّل) فكرُ إدارة المخاطر، البعيدة (كثيراً) في أصول عملها عن دائرة الاهتمام في التَّأهيل والتَّقعيد الشَّرعي. وهي المحرِّك الأهمُّ للقبَّان. وإذا رجونا تغيير ذلك في البنوك الإسلامية الكاملة، فالتَّغيير في النَّوافذ وبالأخص نوافذ البنوك العالمية، بعيدٌ جداً. ومن نجَح في تغيير فكر وعمل القائمين على هذه الإدارة، فقد وضَع يَدَه على واحدٍ من أهم مكامن الضَّعف، وعرف من أين يبدأ، وندعو له بالتَّوفيق.

 

– بمخاطر الملكيَّة تكون المصرفية الإسلامية مصرفيةَ “مشاركةٍ في المخاطر” في جميع صيغ التَّمويل. فهذه المشاركة لا تقتصر (كما يَظنُّ البعض) على صيغ المشاركات، بل توجد في المداينات أيضاً، وإن بأسسٍ ومعانٍ مختلفة.

 

– أعود فأقول: مَنْع هذه المخاطر من أسس الضَّعف أو الخلل في التَّطبيقات، كما ألمحنا. فهذا المَنع يوجب أن يكون مبلغ التَّمويل وربحه التزاماً في ذمة المتموِّل، من وقت خروج المبلغ من ذمَّة المصرف. فلا تتصوَّر إدارة المخاطر (مثلاً) أمرين:

١) أن لا يكون المبلغ أو الرِّبح التزاماً (حتماً) في ذمة المتموِّل، بسبب المرور بالملكيَّة، فيكون فوق مخاطر الائتمان مخاطر ملكيَّة تُعرِّضه لاحتمال النَّقص.

٢) أن تترتب على البنك المموِّل تكاليف إضافية، تطرأ فيزيد بها مقدار مبلغ التَّمويل فوق ما صَدرت به الموافقة الائتمانية. وإن قُبلَت الزِّيادة، فلا يُقبَل أن تتمَّ دون حصَّةٍ إضافيةٍ تُقابلها في مقدار الرِّبح.

 

– وهنا مثال: إن تمَّ التَّمويل بالإجارة، فإن مبلغ التَّمويل والرِّبح تَصدر بهما الموافقة الائتمانية. فإن كان المؤجر هو الذي يتحمَّل تكاليف الصِّيانة الأساسية، وهو الواجب، فإن المؤدَّى أن يكون المصرف المؤجر معرَّضاً لاحتمال زياد المبلغ الذي يخرج من ذمَّته (وهو مبلغ التَّمويل)، والموافقة الائتمانية لم تَصدر بذلك، وإن خرجَت الزِّيادة من ذمَّة المصرف، فلن يكون ربح العملية مغطِّياً لها، فينقص الرِّبح الذي صدَرت به الموافقة الائتمانية، لأنه سيوزَّع على المبلغ الأصلي والمبلغ الزَّائد الجديد.

 

– “رمَّانة القبَّان” هذه من أنجَع كواشِف الحيل المذمومة، فعددٌ واسعٌ من هذه الحيل يَقصد إلى منع مخاطر الملكيَّة، والأمثلة على هذه الحيل يَطول ذكرها.

 

– إقناع أصحاب الفكر الرِّبوي بالفارق بين التَّمويل التَّقليدي والتَّمويل الإسلامي بمنطِق مخاطر الائتمان ومخاطر الملكيَّة، أيسَر من سواه، وهذا من تجربة متواضعة. فمثل هذا المنطق يَقلب أسس التَّمويل التَّقليدي القابعة في أذهانهم رأساً على عَقِب، وإن لم يستوعبوا صيغ التَّمويل الإسلامي. فهذه المخاطر (وأكرِّر المعنى، وهو معلومٌ) من نواقض الفكر البنكيِّ الرِّبوي.

 

– موضوع هذا البناء، وأنه من أهم أسباب ما يُطرَح من إشكالات، تيسَّر لي ذكره في مؤتمر علماء الشَّريعة (قبل الماضي) في ماليزيا، وذكَرت أنه سببٌ في جعل جميع جوانب العملية التَّمويلية (الائتمانية والرقابية والمحاسبية والقانونية) ثوابت، وما يجب أن يكون متحرِّكاً، يدور في فلَك هذه الثَّوابت ويُلبِّي مقتضياتها، فهو الجانب الشَّرعي. وأقول: هذه الجوانب بمثابة لباسٍ جاهزٍ، علينا (في الغالب) أن نلبسَه دون خيار، فإن كان واسعاً، كان علينا زيادة الوزن، وإن كان ضيِّقاً، كان علينا خفض الوزن. أما اللِّباس نفسه، فيصعب المسَاس به. وهذا هو التَّحدي الكبير، الذي يتطلَّب دأباً وثباتاً.

 

هذه خواطر سريعة، وربما مبعثَرة، أطلتُ فيها، وهي مختصَرة. فالموضوع واسعٌ، وإيجازه يخلُّ ببيانه، ولست من البارعين في حشر المعاني الكبيرة في قوارير الجُمَل المختصَرة والعبارات القصيرة. وقد طرَق ما فيه بعض المنتدَين الأكارم. وآمل أن يكون في التَّجارب البعيدةٍ عن معرفتي القاصرة ما يَنقُض ما حكيت (مما يتَّصل بالبناء، لا بأفراد التَّطبيقات).

 

وأحمد لله تعالى أن أُتيحَ طَرح هذه القضايا، لتكون محلَّ نظرٍ علميٍّ هادئ. فأوَّل خطوات تجويد العمل، أن نضَع أيدينا على مكامن الضَّعف أو الخلل، قبل (أو مع) الاشتغال بالعرَض. وأُعيد ما قلته مرَّة: إن استخدام هذا البناء لم يكن خيارَ المُلاك المؤسِّسين، بل كان استخدامه في البدايات من “العزائم”، ومن عاصَر هذه البدايات أو قرأ عنها أو سمع بصعوباتها وتحدِّياتها، يُدرِك المقصود، ويُدرك حجمَ الجهود التي بذلها علماؤنا المؤسِّسون.

 

هذا، والله تعالى أعلم