مقال: ندوة البركة ليست حفل تأبين للمصرفية الإسلامية – د. عبدالباري مشعل

ندوة البركة ليست حفل تأبين للمصرفية الإسلامية

1. ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي وليست للبنوك الإسلامية، عقدت يومي الاثنين والثلاثاء. وهي محاولة مستمرة لدعم المصرفية الإسلامية في عالم الواقع وتقويم مساراتها وتوسيع مجال أهدافها، وتمثل التوصيات والفتاوى الصادرة عن الندوة من أهم المراجع المؤثرة في مسيرة الفقه الحديث، إلى جانب فتاوى الهيئات الشرعية في البنوك الرائدة في المجال مثل بيت التمويل الكويتي وبنك دبي الإسلامي والبنك الإسلامي الأردني ومصرف قطر الإسلامي ومصرف الراجحي وبنك البحرين الإسلامي وبنك التضامن السوداني. لقد كانت تلك الفتاوى مصدر إلهام للعمل المصرفي الإسلامي وتقدمه وتطوره، وما زالت المصرفية الإسلامية تتوسع وتنتشر وتزدهر بتطبيقات ومنتجات جديدة مبتكرة تحسب لها لا عليها *مهما أثارت هذه المنتجات من جدل*، فهي في عرض العالم وطوله تواجه تحدي تلبية الاحتياجات والعيش والمواءمة مع المحيط التشريعي والقانوني والمصرفي في ظل سلطات إشرافية اتسمت لفترة طويلة بالسلبية تجاهها ومؤسسات داعمة تكافح من أجل مزيد من الفاعلية والمواءمة مع المحيط الدولي ومؤسساته المرجعية على مستوى المحاسبة والحوكمة والائتمان والرقابة وفي مقدمتها أيوفي ومجلس الخدمات الإسلامية والبنك الإسلامي للتنمية.  

 

2. إن النقد الموجه إلى المصرفية الإسلامية لا ينبغي أن يفهم على أنه حفل تأبين، وتأبين المصرفية الإسلامية لن يكون في ندوة البركة التي عرفت بحماية المصرفية ودعمها عبر عدة عقود، وها هي اليوم في الندوة ذاتها التي شاع عنها النقد تناقش في بحثين المشتقات وبدائلها لدعم مسيرة المصرفية الإسلامية وتطبيقاتها وتذليل العقبات ومواجهة التحديات. لن يكون حفل تأبين لحي في ريعان شبابه، أثبت وجوده ولفت أنظار العالم إليه، حتى أصبح لاعبًا لا يمكن غض الطرف عنه من قبل المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهو ما جعل عددًا من البنوك المركزية تتدخل بقوة لرعايته وحوكمته والرقابة عليه في العديد من البلدان بعد أن كانت تمارس نوعًا من الرقابة على استحياء أو تمارس نوعًا من غض الطرف وهناك المزيد من تدخل السلطات الإشرافية في قادم الأيام بعد انفكاك الأيدلوجيا الضيقة عن التطبيقات المصرفية الإسلامية. 

 

3. وإن كل النقد الموجه للمصرفية يفهم في نظري باعتبارين، الأول: باعتبار تحميلها المسؤولية الملقاة على عاتق كل مؤسسات الاقتصاد الإسلامي لأنها أول هذه المؤسسات وجودًا ونشاطًا وتطورًا، وهذا ظلم اعترف به القاصي والداني، وبدأت تتوازن النظرة كما بدأت عملية التوازن بين القطاع الربحي وغير الربحي في الظهور في الدراسات ذات العلاقة بالمصرفية الإسلامية في لفتة لتوسيع النظر وتأكيد الرؤية الأشمل لمؤسسات الاقتصاد الإسلامي كما بدأت مسيرة ترشيد الجانب الربحي في البنوك نفسها فماليزيا اليوم من خلال البنك المركزي تقود رؤية جديدة قائمة على الوساطة المالية القائمة على القيم والتمويل الاجتماعي وأنا متأكد بأن هذه الرؤية سيتم تعميمها على البنوك المركزية في العديد من الدول. وأما الثاني: فباعتبار بعض المنتجات التي تثير الجدل كالمنتجات التي تعالج المناطق الحرجة في المصرفية الإسلامية وهي: *حالات التعثر في الديون، وتسييل الديون، وتمويل السيولة، والتحوط لمخاطر السوق والأسعار* وهذه المنتجات رغم ما انطوت عليه جدل حاد فقد أثرت المصرفية الإسلامية والفقه الحديث من جهتين: الأول: تنطوي على إعمال دقائق الفقه في التطبيقات بشكل ذكي ولي شواهد على ذلك، وهذا من الإثراء المحمود الذي يحسب لفقهاء المصرفية الإسلامية الرواد الذين كانوا على الدوام مثالاً حيًا لفاعلية الفقه الإسلامي ومرونته وواقعيته، والثانية: اختلاف وجهات النظر حول التطبيقات أمر محمود وأدى في جملته إلى عدم القطع بحرمة أي من التطبيقات وإنما آل إلى تعزيز كونها اجتهادية وفي أحيان إلى ترشيدها وتحسينها.   

 

4. إن النقد الحاد للمصرفية الإسلامية بعبارات الصورية، أو تطويع الشريعة التي جرت على لسان الرائد المؤسس الشيخ صالح كامل، لا يلزم منها ظاهرها ولا مقتضاها من بطلان العقود وعدم شرعيتها، بقدر ما تعبر عن رؤيته التي باتت واضحة والتي تتمثل في بحثه الدائم عن مؤسسة تستوعب رؤية الاقتصاد الإسلامي الأشمل وأن البنوك التجارية لم تكن الوعاء الذي يمثل هذه الرؤية، والأمر ليس جديدًا بل قديم في مقولاته ومقابلاته واجتماعاته وهو يسعى على الدوام لمحاولة الانتقال من الرؤية النظرية إلى تطبيق يستوعبها ونسأل الله أن يوفق إلى ذلك في القريب وإلا ما معنى المجلس العام للبنوك الإسلامية؟ وأما ما يتعلق ببطلان العقود وعدم شرعيتها فلا يؤخذ من إطلاق كهذا، بل يؤخذ من جهات الفتوى والرقابة الشرعية التي تتسم بسمعة حسنة في مجموعة البركة وبنوكها الاثني عشر حول العالم. 

 

5. لست سعيدًا بالحفاوة بالنقد على ظاهره دون الالتفات لمضمونه الذي ذكرت، لأن المصرفية الإسلامية عمل جاد، والندوات الداعمة لها بدءًا من البركة والأيوفي وندوات البنوك العديدة ومنها ندوة البنك الأهلي هي عمل جاد أيضًا ينظر في مشكلات وتحديات المصرفية الإسلامية ويُمحص فيها النظر من حيث الشرعية والملاءمة لمقاصد العمل المصرفي الإسلامي على الدوام، والأولى الالتفات للجهد المبذول في المناقشات العلمية الجادة في محال نزاع محددة بدلاً من تضخيم تلك الإطلاقات وإشاعتها بعيد عن حقيقة رؤية صاحبها. من تجربتي في النقد خلال فترة العقد الثاني من خبرتي في المصرفية الإسلامية شعرت أن التوغل في النقد يُغيب الجانب الإيجابي والمبدع من القضية، ولذا أهيب بالباحثين للانصراف إلى اكتشاف طبيعة المنتجات محل الجدل والأساس الفقهي لها، وتقييمها والنظر فيما إذا كان من اللازم تقديم بدائل لها تتسم بالابتكار وتكون أقل إثارة للجدل وهو ما أنصرف إليه في اهتماماتي العملية مع عملائي. ماليزيا التي سبقت في إجازة العديد من المنتجات في المناطق الحرجة آنفة الذكر تراجع نفسها على الدوام، ومن ضمن المراجعات قرار البنك المركزي الماليزي في مسألة العينة، وهو من القرارات المُحكمة والمقدرة، ومن المعايير الشرعية التي تعتبر نقلة نوعية في المصرفية الإسلامية وتساعدها في التعامل مع المناطق الحرجة المعيار الشرعي بشأن إعادة الشراء. 

 

6. إني كممارس للعمل الاستشاري والرقابي في المصرفية الإسلامية لن أكون إلا منسجمًا مع نفسي، ولن أركب موجة وأعمل بخلافها، ولن أشيع نقدًا لا أؤمن به في واقع عملي، إنني انظر إلى التجربة المالية الإسلامية عبر تلك العقود الماضية وقررات المجمع الفقهي الداعمة وما تقدمه أيوفي المباركة من المعايير الشرعية ومعايير المحاسبة والحوكمة مصدر إثراء للمضي في عملنا وجهادنا في هذا السبيل، “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل. 

د.عبدالباري مشعل

14مايو2019