مقال: الصيرفة الإسلامية بين مادح وقادح – د. جريبة أحمد الحارثي

الملحوظ أن أكثر الآراء تداولًا عن المصرفية الإسلامية تنحصر في الآتي:

1. رأي يدافع عن التجربة، مركزًا على إيجابياتها، ملتمسًا لها العذر في تقصيرها، مستندًا على تجويز الهيئة الشرعية معاملاتها، لا يعطي أولوية لمدى تحقيق المقاصد، وما “قد” يرتب على تلك المعاملات من آثار ومفاسد…

2. رأي يهاجم التجربة ، وينطلق في هجومه من نظرته للمقاصد والآثار، ويرى أن كثيرًا من معاملات المصرفية الإسلامية لا تختلف في آثارها عن المعاملات في البنوك الربوية، ويرى أن تجويز تلك المعاملات مبني على “حيَل ومخارج”، اقتضتها ظروف النشأة….

3. وثمة رأي ثالث – وهو الأخفت صوتًا- حيث ينظر للتجربة أنها تتقدم وتتأخر، ولها إيجابياتها وعليها سلبياتها، وأن ثمة معوقات وعقبات أغلبها متعلق بعوامل خارجية – ليست بمَلْك المصرفية الإسلامية- تحد من سرعة التطوير، والقدرة على التغيير، وتلافي أوجه التقصير … سيأتي مزيد من التفصيل عن ذلك…

4. ولقد استبطأ البعض تخلص المصرفية الإسلامية من التمويل القائم على المرابحات والتورق – وما تولد عنها، وما اكتنفها من “حيَل ومخارج” ، ويرى أن المصارف الإسلامية قد طال عليها الأمد، فاستمرأت هذا العمل وتمادت فيه، بل توسعت فيه، وولّدت منه تفريعات وعقود ومعاملات؛ نظرًا لربحه السريع المضمون، ومخاطره التي لا تكاد تكون- فقل حماسه، بل وأظهر ما أكنّه من الانتقاد في رأسه!

5. إن الإنصاف يقتضي أن نكون في الأنصاف؛ فالمصارف الإسلامية خطوة على طريقٍ طويل المسافات، كثير المنعطفات، متنوع العقبات؛ محفوف بالمخاطر والمنافسات، يعمل في بيئات لا تصلح لما يريده من الإنبات؛ فمناخها قد سُنتْ قوانينه، ووضِعتْ تشريعاته، بما يناسب عمل البنوك الربوية، ويعطيها السبْق والأولوية في التحكم بأموال البشرية، والحصول على الأموال دون نظرٍ لحرام أو حلال، أو اهتمام بمآل..

6. إن المصارف الإسلامية تنافس البنوك الربوية في بيئة غير عادلة؛ فللبنوك الربوية امتيازات، لا تحظى بمثلها المصارف الإسلامية، ومن ذلك أن فكرة البنوك نشأتها غرْبِيَة، وولادتها قبل المصرفية الإسلامية بقرون، مما مكنها حتى أصبح لها قرون؛ ووضعت لها تشريعات ونظم عالمية، أهم محطاتها (بريتون وودز) وما نتج عنه من مؤسسات دولية، تتحكم في مفاصل النظام المالي العالمي، ومنه النظام المصرفي، فلا يستطيع مصرف العمل والاستمرار بمعزل عن النظام المالي والمصرفي العالميين اللذين تتحكم فيهما الرأسمالية الغربية لاسيما رأسها أمريكا، وهذا يعني أن المصرفية الإسلامية جزء من نظام مصرفي عالمي يعتبر جزءًا من نظام مالي عالمي، أُسُسه وقوانينه تخدم المصرفية الربوية وتتناقض مع فكرة المصرفية الإسلامية، فكيف لترس في آلة عملاقة -بها مئات الآلاف من التروس الضخمة – أن يتحرك عكس حركة تلك التروس؟! بل حتى على مستوى البيئات المحلية لم تحظَ المصرفية الإسلامية بما يناسب عملها من تشريعات قانونية ونظم إدارية!

7. وليست المشكلة منحصرة في النظم والتشريعات، بل هي أوسع من ذلك، فرغبات العملاء، وطبيعة الموارد، والحرص على المغنم بلا مغرم، والسعي لتقديم خدمات تضاهي ما يناظرها لدى البنوك الربوية….كل ذلك وغيره يحد من قدرة المصرفية الإسلامية على التغيير والتطوير… فذلك يحتاج إلى تضحيات لا يتحملها من جعل همه الأول تعظيم الأرباح!

8. هل يكفي القول بالجواز للحكم على المصرفية الإسلامية أم لا بد من النظر إلى المقاصد والمآلات، وما ينتج عن تلك المعاملات من سلبيات وإيجابيات؟ أليس في الشريعة ما يؤيد النظر إلى المقاصد والمآلات؟ وهل من ذلك (لا أريد أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه) وأمثاله؟ وهل يكفي القوال بالجواز في الجزئيات للحكم على الكليات؟ تساؤلات يفتي فيها أهل الاختصاص..