الواقف التربوي
عبد القيوم عبد العزيز الهندي
عضو هيئة التدريس بقسم الاقتصاد الإسلامي بالجامعة الإسلامية – المدينة المنورة
لقد أولتِ المملكةُ العربية السعودية منذُ نشأتِها على يدِ المؤسِّسِ -رَحمَهُ اللهُ- الاهتمامَ بجانبِ الأوقاف، وتتابعَ على ذلكَ ولاةُ الأمرِ من بعدِه، وتضاعفَ الاهتمامُ مع تنامي الأوقافِ في عصرنا الحاضر؛ إذ يُعَدُّ حجمُ الأوقافِ في المملكةِ العربية السعودية من أضخمِ الأوقاف على مستوى العالَم الإسلاميِّ، ومِن أهمِّ الأسباب وجودُ الحرَمينِ الشريفين بها؛ ولذا تسابقَ المسلمونَ منذُ فجرِ التاريخ الإسلاميِّ وحتى اليوم على الوقفِ فيهما خاصَّةً، وفي غيرها بشكلٍ عامٍّ، وبحسبِ تصريحٍ لوزيرِ الأوقاف يبلغُ عددُ العقاراتِ الوقفية في السعودية ١٢٤ ألفَ عقارٍ وقفيٍّ، تُقدَّرُ أصولُها عندَ البعضِ بأكثرَ من ترليون ريال.
تُوِّجَ هذا الاهتمامُ من قِبَلِ حُكومةِ المملكة العربية السعودية مؤخَّراً بإنشاءِ هيئةٍ مستقلة للأوقاف؛ فصدرَ المرسومُ الملكيُّ بتاريخ ٢٧-٢-١٤٣٧هـ مُتضمِّناً الموافقةَ على نظامِ الهيئة العامَّة للأوقاف، والتي تهدفُ إلى (تنظيمِ الأوقاف، والمحافظةِ عليها، وتطويرِها، وتنميتِها)؛ بما يحقِّقُ شروطَ واقفيها، ويُعزِّزُ من دَورِها في التنميةِ (الاقتصادية والاجتماعية) والتكافُلِ الاجتماعي- وفقاً لمقاصدِ الشريعة الإسلامية والأنظمة-. كما سبقَ هذه الخطوةَ إنشاءُ تِسْعِ دوائرَ مخصَّصةً للأوقافِ الوصايا بعددٍ من المحاكمِ الشرعيَّة بمختلفِ مناطق المملكة.
وجاءَ القطاعُ الخاصُّ مُعاضِداً لهذا الاهتمامِ؛ فظهرَ على الساحةِ عددٌ من المؤسَّساتِ والمراكز المتخصِّصةِ في مجالِ الأوقاف والوصايا، وأسهمتْ بشكلٍ ملحوظ في (نَشْرِ ثقافة الأوقاف، وتوعيةِ مختلف شرائح المجتمع بالوقف وأهمِّيَّتِه وبيانِ فضله وأحكامه، وكيفيةِ إدارته وتنميته)؛ من خلالِ عَقدِ (الدورات التدريبية، وورشِ العمل والندوات والمحاضرات، ودعمِ الأبحاث العلمية، ونشرِ الكتيِّباتِ والمطويِّات)؛ للارتقاءِ بالأوقافِ، ولِضمانِ استدامة العمل الخيريِّ).
وسَعياً إلى التكامُلِ بين القطاعَين (العامِّ والخاصِ)، قام “مركزُ استثمارِ المستقبل” – والذي يُعَدُّ مِن أقدمِ وأبرز المؤسَّساتِ المتخصِّصة في الأوقافِ والوصايا- بإبرامِ مذكَّرةِ تفاهُمٍ مع وزارةِ العدلِ أثمرتْ في افتتاحِ عددٍ من المكاتبِ الاستشارية داخلَ المحاكِم لـ(تقديم الخدماتِ المساندة للواقِفينَ والموصِين، والعنايةِ بطلباتِ صياغةِ وثائق الأوقاف والوصايا بما يتناسب مع متطلبات المستفيدين، وتقديمِ الاستشارات القانونية والشرعية اللازمة، وتسهيلِ سيرِ مُعامَلاتِهم)؛ ممّا شجَّعَ الواقِفينَ، وخفَّفَ العِبءَ على القُضاة، كما أسهمتِ الوثائقُ المعدَّةُ من قِبَلِ المكاتبِ الاستشارية في تقليلِ عدد القضايا المنظورة لدى المحاكمِ؛ لأنّها صِيغتْ على شكلِ بنودٍ واضحة تتضمَّنُ تفصيلاتٍ دقيقةً تستشرفُ المستقبلَ، وتُسهِمُ في ديمومةِ الأوقاف، مع تحقيقِ شروط واقفِيها.
وكما لا يخفى على شريفِ علمكِم أنّ الوثائقَ قديماً كانت تكتبُ بخطِّ اليدِ قبلَ تطورِ منظومة القضاء والاعتماد على أجهزةِ الحاسب الآليِّ؛ ولذا فقَد شرفت بزيارةِ ورثة أحد الواقفينِ -رحمهُ الله-، وقد طلبَ الورثة مساعدتَهُم في قراءةِ صكوك أوقاف والدِهم لمعرفةِ مضمونِها، والحقيقة أنَّني أُعجِبتُ كثيراً بالواقفِ-رحمهُ اللهُ-، وأسميتُه (الواقفَ التربويَّ).
فقَد ظهرَ لي جليَّاً أنَّ الواقفَ -رحمهُ اللهُ- ومع أنّه كان مُهندِساً مِعماريَّاً بحسبِ الورثةِ؛ إلّا أنّه مع ذلك كان فقيهاً تربويَّاً لم يكتفِ بالمصارفِ التي اعتادَ الناسُ على ذِكرها في الأوقافِ الخيرية كـ(عمارةِ المساجد، وحفرِ الآبار، ومساعدة الفقراء والمساكين والمنكوبين، وسائرِ أوجُه البِرِّ والخيراتِ المعروفةِ)؛ بل أرادَ لِذُرِّيتِه الرِّفْعَةَ والالتصاقَ بالعلومِ الشرعية, ومواصلةَ الدراساتِ العليا، وحفظَ القران الكريم، وشجَّعَهُم وحفَّزَهُم على ذلك.
جاءَ في الصكِّ الأوَّل: ( تاسعاً: أ- يُعطى لكلٍّ مِن أولادِ أبنائي وأولادِهم ممَّنْ حَفِظَ كتابَ “عُقودِ اللؤلؤِ والمرجانِ فيما اتفق عليه الإمامانِ البخاريُّ ومسلمٌ” سهمٌ واحدٌ، ب-ولَمِنَ حَفِظَ “العُمدَةَ في الحديثِ” سهمٌ واحد، ج-ولِمَنْ حَفِظَ “الأربعينَ النوويّةَ” نِصفُ سهمٍ، د-ولَمِنْ حَفِظَ “مختصرَ المقنعِ في الفقهِ” نِصفُ سهمٍ، ه-ولَمِنْ حَفِظَ “المقاماتِ السبع” رُبُعُ سَهمٍ، وذلك لِمَرَّةٍ واحدة فقط، ويُجْرى له اختبارٌ من اثنينِ من مُدرِّسي المسجدِ النبويِّ ويُعطونَه شهادةً بذلك).
وفي الصكِّ الثاني: ( تاسعاً: يُعطى لِكُلٍّ من أولادِ أو بناتِ أبنائي، وما تناسلَ من أبناءِ الظُهورِ دون البُطونِ، في اختباراتِ المدارس أو الكلِّيَّاتِ أو المعاهدِ أو الدِّراساتِ العُليا: أ- بدرجةِ “مُمتازٍ” سهمٌ واحد زيادةً على سَهمِه، ب- بدرجةِ جيِّد جِدَّاً نِصفُ سَهْمٍ، ج- بدرجةِ جيِّدٍ رُبُعُ سهمٍ، في كلِّ مراحلِ الدراسة، وفي كلِّ سَنةٍ دراسية. (مُلْحَقُ المادَّة التاسعةِ): ويُعطى لِمَن “رَسبَ” في اختباراتِ المدارس للمراحل الثانوية ما تطلبُه منه المدرسةُ لدراستِه مع الجُمُعاتِ في العطلةِ الدِّراسية).
هكذا أرادَ الواقفُ التربويُّ -رحمهُ اللهُ- أن تكونَ ذُرِّيَّتُه مِن بَعدِه (لَصيقةً بالعلومِ الشرعية، حريصةً على التفوُّقِ والامتيازِ، ومُواصلَةِ الدِّراساتِ العليا)؛ لتكونَ لَبِنَةً صالحةً نافعة في المجتمع.
وأنتَ أُخَيَّ الكريمُ قارئُ هذه الأسطُر أشجِّعُك لأنْ تضعَ الوقفَ ضِمْنَ اهتماماتِك، وعندما يُيَسِّرُ اللهُ لك أنْ توقِفَ وقفاً فَتذكَّر (الواقفَ التربويَّ).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: “إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ”.
أحدث التعليقات