العمل التطوعي.. والتماسك الاجتماعي – أمجد نيوف
مع العولمة، والإنترنت، وازدياد التفاوت في الدخل والفرص المتاحة في سوق العمل، ومع التغير في القيم الاجتماعية، والانكشاف الثقافي، مع ذلك كله تبرز مسألة التماسك الاجتماعي.
وبناء عليه، سنحاول في هذا المقال استكشاف العلاقة ما بين التماسك الاجتماعي والعمل التطوعي، ومحاولة الإجابة على تساؤلات باتت تطرح بشدة، من قبيل: هل هنالك مزيد من العمل التطوعي في مجتمعات متماسكة؟ هل القطاع التطوعي القوي يبني مجتمعا متماسكا؟ وما دور ذلك كله في خلق و تفعيل الروابط ما بين أبناء المجتمع؟
وسنحاول إلقاء الضوء على بعض المؤشرات الاقتصادية للنشاط التطوعي، عبر مناقشة الاختلاف في النشاط التطوعي، ومدى تأثيره في التماسك الاجتماعي، وهل يساهم العمل التطوعي في الوصول إلى الفئات التي تعاني خطر الإقصاء الاجتماعي؟ وبعبارة أخرى سنحاول أن نحدد الإطار العام للإجابة على السؤال المحوري: هل النشاط التطوعي يعزز المعايير الاجتماعية من الثقة والمعاملة بالمثل والالتزام؟ وهل هذه المعايير الاجتماعية تؤدي إلى مزيد من التماسك الاجتماعي، وبالنتيجة تحسين نوعية الحياة التي نعيشها؟؟!!
ما هو التماسك الاجتماعي؟
من الصعوبة بمكان العمل على إنتاج رابط سببي بين العمل التطوعي والتماسك الاجتماعي. لماذا؟ يفتقر التماسك الاجتماعي إلى التوافق على مفهوم محدد. ثم قد تتأصل ” فجوة معرفية- منهجية ” إذا ما تم نقاش التماسك الاجتماعي بعيدا عن ظاهرة الإقصاء الاجتماعي، وأهمية رأس المال الاجتماعي.
وبوجه عام يمكن القول إن التماسك الاجتماعي عبارة عن نشاط تنموي جار، يتناول القيم والتحديات المشتركة في مجتمع ما، ويستند على دعائم بدءا من إحساس الإنسان بالثقة والأمل، وانتهاء بالعطاء المتبادل بين أفراد هذا المجتمع. ولكن، ما معنى ذلك كله؟
باختصار، لا يمكن فهم التماسك الاجتماعي إلا من خلال ربطه بقراءة اقتصادية للعمل التطوعي. وليكون المجتمع متماسكا كوحدة كلية لا بد من إشراك الجميع في عملية البناء المجتمعي؛ فالتماسك الاجتماعي والإقصاء الاجتماعي خطان اجتماعيان متناقضان على الإطلاق. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يتمظهر الإقصاء الاجتماعي في مجتمع ما؟
تلعب البطالة، والإقصاء في الاستهلاك ـ كآليات مشتركة ـ دورا مهما في هذا التمظهر؛ فالبطالة تعني إقصاء الأفراد عن سوق العمل، وبالتالي فقدان الدخل؛ فالبطالة تخلق الإقصاء الاجتماعي.
والصلة ما بين العمالة والإدماج الاجتماعي مسألة معقدة؛ فخلق فرص العمل قد يسهم في إنهاء الإقصاء الاجتماعي أو الحد منه.
والإقصاء في الاستهلاك يعني غياب الموارد التي تضمن للأفراد مشاركة جدية في الأنشطة المعتادة للمجتمع الذي يعيشون فيه. فالإقصاء الاجتماعي يعني الاعتراف بقوة مفروضة على الإنسان من خارجه، حتى إنه يمكن أن يتحول إلى كائن غير مرئي!!. فالحد من التفاوت في الثروة والدخل ومكافحة الفقر تعتبر وسائل مهمة وجدية لمنع الإقصاء في الاستهلاك، وبالتالي الحد من ظاهرة الإقصاء الاجتماعي.
واستنادا إلى أدبيات علم الاجتماع فان مسألة التماسك الاجتماعي يمكن قياسها من خلال التفاعل الاجتماعي؛ فالتفاعل الاجتماعي بين أفراد المجتمع يحدد ما إذا كان المجتمع متماسكا أو ” حرب الجميع ضد الجميع “.
وإذا كان رأس المال الاجتماعي يشكل ملامح الحياة الاجتماعية ومعاييرها، وتفاعل الثقة التي تمكن الأفراد من القيام بعمل مشترك وفاعل، فإن التماسك الاجتماعي، عبر التفاعل الاجتماعي، يرتبط بشكل وثيق مع رأس المال الاجتماعي. والعمل التطوعي يجسد ويخلق رأس المال الاجتماعي. لماذا؟ لوجود علاقة جدلية بين النشاط التطوعي والثقة؛ فالتواصل مع الآخرين يوجد بوجود الثقة، ويزداد بازدياد الثقة، والعكس صحيح.
ويميل باحثون في علم الاجتماع إلى التأكيد على أنه إذا كان هنالك تماسكٌ اجتماعيٌّ سيكون هنالك قطاع تطوعي قوي، وإذا كان هنالك قطاع تطوعي قوي يجب أن يكون هنالك تماسك اجتماعي قوي.
وفي سياق الحديث عن مؤشرات التماسك الاجتماعي لا يمكن إغفال مجموعة القيم المشتركة لمجتمع ما وتفسيراتها؛ ففي أية لحظة تاريخية قد ينشأ التماسك الاجتماعي على أساس الهوية أو الفئة الاجتماعية، وتتراكم تفسيراتها على أسس من دين أو لغة أو ثقافة أو أدب أو تقاليد، أو أسس أخرى. ورغم وجود نظريات تتحدث عن نجاحات سياسية واقتصادية وثقافية لمجموعات متماسكة اجتماعيا على أساس عرقي أو طبقي أو هوية، فإنه بالمقابل قد يصبح نوع التماسك مصدرا للإقصاء أو الصراع الاجتماعي.
ما هو النشاط التطوعي؟
قيل وكتب الكثير عن أنواع الأنشطة التطوعية، كالخدمة العامة الخالصة، مثل التبرعات والهبات للبحوث الطبية، وهنالك الأنشطة الخيرية عن طريق جمعيات خيرية مثل رعاية الفقراء والمحتاجين، ثم النشاط الخيري الخاص الذي يحمل سمات الشخص الذي يقدمها كالتبرع بالدم، وغيرها من أنواع أخرى. فالعمل نحو الأفضل من خلال توفير هذه الخدمات يوضح، بصورة جلية، العلاقة ما بين النشاط التطوعي والتماسك الاجتماعي. ولكن لماذا يتطوع أفراد المجتمع لتقديم هذه الخدمات؟
ليس التطوع فكرة اختيار عقلاني بسيط؛ بل هو سلوك قائم على دافع الالتزام. فنحن نقوم بفعل التطوع لأنه الشيء الصحيح الواجب عمله، وليس لأنه يزيد من قيمة المنفعة. وليس شرطا أن يكون كل عمل غير مأجور عملا تطوعيا. وهنالك التزامات قوية، تدعم اجتماعيا وأخلاقيا وقانونيا، هي واجبات أو مسؤوليات وليست نشاطا تطوعيا. فالعمل التطوعي يسقط ويتغلغل بين الواجبات من جهة، ويستجيب بصفاء ونقاء لسلوك المنفعة من جهة أخرى.
انطلاقا من ذلك، ودون بعض التماسك الاجتماعي، وإلى حد ما من القيم المشتركة والالتزامات، فإن الأفراد لن يقوموا ببعض العمل التطوعي. وعلى العكس من ذلك، في مجتمع متماسك حقيقة قد لا يكون هنالك الكثير من العمل التطوعي؛ فالواجبات تجاه الآخرين تعتبر كمسؤوليات يجب الوفاء بها، وليس شيئا خاضعا للاختيار. مع الاعتراف بأن العمل التطوعي هو جزء من واحد فقط من شبكة الدعم الاجتماعي، وشكل من أشكال التفاعل الاجتماعي الذي يشكل بدوره فهما حاسما لطبيعة العلاقة ما بين التماسك الاجتماعي والعمل التطوعي. ويمكن القول إن الهياكل الاجتماعية، التي تؤثر في النشاطين الحكومي والتطوعي، تلعب دور الوسيط السلبي من حيث ضعف العلاقة، أو ضبابيتها في أحسن الأحوال ما بين الجانبين. فالنشاط التطوعي يمكن أن يبين عدم وجود نشاط حكومي في مجال معين. والقيم المتعددة والثقافات المختلفة تتحد مع غياب التمويل الحكومي، ويمكن أن تؤدي إلى تعدد مؤسسات القطاع التطوعي.
وأخيرا، لا ندعي أننا قدمنا فهما كاملا ومتكاملا لطبيعة العلاقة ما بين العمل التطوعي والتماسك الاجتماعي، لكن يمكن أن ندعي أن العمل التطوعي بإطاره الأخلاقي – المؤسساتي، كالمركز الدولي للأبحاث والدراسات، يبشر ببناء مزيد من التماسك الاجتماعي، من خلال العمل على خلق قواعد قيم الإيثار والمحبة والثقة المتبادلة.
أحدث التعليقات