الاستثمار هو العنصر الخامس والأخير من عناصر النشاط الاقتصادي بعد الإنتاج والتوزيع والإنفاق والادخار. الاقتصاديون التقليديين يخلطون بين الادخار والاستثمار، فهم يرون أن المدخرات لابد أن تتجه إِلى نواحي الاستثمار المختلفة فيما يعرف بالاستثمار التلقائي، وذلك لأن العرض يولد الطلب أي أن الدخل لابد أن ينفق كله إِما في الاستهلاك وإِما في الاستثمار.
ولكن الفكر الاقتصادي الحديث يرى أن الاستثمار يعني الجزء المدخر من الدخل الذي يتم توجيهه إلى مشروعات القطاعات الاقتصادية: الزراعية، والصناعية، والتجارية، والتعدينية، والخدمية، … وغيرها من القطاعات من أجل زيادة التكوين الرأسمالي على المدى الطويل.
الاستثمار في القرآن الكريم
لم يرد لفظ الاستثمار في القرآن الكريم، أنما ورد لفظ ثمر ومشتقاتها، قال تعالى: ” كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا ” البقرة 25. وقوله تعالى: ” وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ” الأنعام 99. وقوله تعالى: ” وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ” الأنعام 141. وقوله تعالى: ” يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ” النحل 11. وقوله تعالى: ” لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ” يس 35.
هذه الآيات تبين أن الاستثمار في القرآن الكريم يعني النماء والزيادة من نتاج الزرع والأشجار بمختلف أنواعها. وهذا المعنى يتطابق مع مدلول كلمة الاستثمار في اللغة حيث أصلها من الفعل ثمَر بمعنى نتج وتولد أو نمى وكثُر، ومن مدلولات الاستثمار الاهتمام بالتنمية وتكثير المال، لذلك جاء في معجم الوسيط تعريف الاستثمار على أنه استخدام الأموال في الإنتاج.
الاستثمار في السنه النبوية
لم يرد لفظ الاستثمار أيضاً في السنة النبوية الشريفة، ولكن وردت أحاديث تدل بالمعنى على الأمر باستثمار الأموال، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة ” رواه الدارقطني والبيهقي. وفي رواية أخرى قال: ” ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ” رواه الترمذي. وفي رواية ثالثة قال: ” ابتغوا في مال اليتيم أو أموال اليتامى لا تذهبها ولا تستهلكها الصدقة ” رواه الشافعي والبيهقي.
والقصد من الحديث أن ينمى المال لأن في نماءه حق الزكاة، فإن عُطل المال أستحقت الزكاة فأخذت من رأس المال، وبهذا فأنها تأكل منه وتستهلكه فينقص سنة بعد سنة، وفي هذا ضرر لليتيم. أما إن عُطل المال ولم تؤد زكاته فهو الكنز المنهي عنه في قوله تعالى: ” وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ” التوبة 34. وكنز المال وبقاؤه في صورة عاطلة فيه ضرر للمجتمع لأنه يمثل إعاقة لهدف عمارة الأرض التي أمر الله بها في قوله تعالى: ” وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ” هود 61. وعمارة الأرض تكون باستثمار خيراتها التي سخرها الله للإنسان بما يحقق صالح الفرد والمجتمع، وهي تفوق التنمية الاقتصادية بالمفهوم الحديث.
وهناك حديث يحض على الحفاظ على الأصول الرأسمالية للمجتمع وعدم بيعها إلا إذا كان ثمنها سيوضع في أصول استثمارية أخرى أكثر نفعاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من باع دارا أو عقارا فلم يجعل ثمنه في مثله كان قمنا أن لا يبارك فيه ” رواه ابن ماجه.
وحديث يوجه نحو صيانة ودعم الأصول الاستثمارية القائمة لتكون صالحة للعمل والإنتاج باستمرار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” بينما رجل يمشى فى أرض فلاة إذ سمع صوتاً فى سحابة يقول: اسق أرض فلان فأفرغ السحاب ماءه فى شرجة من شراج الحرة فذهب ذلك الرجل الذى كان يمشى إلى المكان الذى أفرغ السحاب ماءه فيه فرأى رجلاً معه فأساً يمهد مجرى للماء حتى يذهب إلى أرضه أو بستانه حتى استوعب الماء كله فذهب إليه وقال: السلام عليك يا فلان باسمه الذى سمعه فى السحابة فقال: وعليك السلام من أين عرفت اسمى؟ قال: إنى سمعت صوتاً فى سحابة يقول: اسق أرض فلان فأفرغ السحاب ماءه عندك فماذا تصنع؟ قال: أما قد قلت لى ذلك فإنى أنتظر ما يخرج من الأرض فأقسمه ثلاث أقسام: قسم أتصدق به وقسم آكله أنا وعيالى وقسم أرده فى بطنها ” رواه البخاري ومسلم. فالرجل كان يدخر ثلث الناتج من الأرض ويوجهه فيها مرة أخرى لدعم الاستثمار القائم.
وحديث آخر يحث على إضافة تكوينات رأسمالية جديدة في المجتمع بالتشجيع على إحياء الأرض الموات وجعل حافز ذلك تمليكها لمن أحياها لما في ذلك من صيانة للموارد الاقتصادية وعدم إهدارها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” من أحيى أرضاً ميته فهي له وليس لعرق ظالم حق ” معالم السنن للخطابي. ومعنى: ” ليس لعرق ظالم حق ” هو أن يغرس الرجل في غير أرضه بغير إذن صاحبها فيؤمر بقلعه إلا أن يرضى صاحب الأرض بتركه.
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تحمل في طياتها النقاط الأساسية لجوهر معنى الاستثمار كما تضمنته تعريفات الاقتصاديين بمختلف مذاهبهم الاقتصادية، وهذه النقاط تتلخص في:
1- المحافظة على الأصول الرأسمالية الاستثمارية الموجودة وعدم التفريط فيها بالبيع، ووجوب صيانتها ودعمها باستمرار حتى تكون صالحة للعمل والإنتاج على الدوام.
2- العمل على زيادة الأصول الاستثمارية بإضافة تكوينات رأسمالية جديدة إلى القطاعات الاقتصادية: الزراعية، والصناعية، والتجارية، والتعدينية، والخدمية … وغيرها من القطاعات.
3- أن تكون الإضافات الرأسمالية متتالية ومرتبطة بمجالات استثمارية طويلة الأجل.
4- أن يكون الهدف الأساسي من العملية الاستثمارية تحقيق النمو والزيادة في المستقبل لتحقيق مقاصد الشريعة في الحفاظ على الدين والعقل والنفس والنسل والمال، وذلك بمراعاة أن يكون الاستثمار محصوراً في مجالات الحلال الطيب، ووفقاً لسلم الأولويات فيُبدأ بالاستثمار في الضروريات ثم الكماليات ثم التحسينيات، ويكون تحقيق مقاصد الشريعة مقدم على الربح.
تمويل الاستثمار في الاقتصاد الإسلامي
في الغالب ما يكون المدخر غير المستثمر، وهذا يعني أن المدخر لا يستثمر مدخراته بنفسه، إما لعدم خبرته أو لصغر حجم المبلغ المدخر مقارنة بضخامة تكلفة المشروعات الاستثمارية، لذا وجدت المؤسسات المالية التي تعمل على جذب وتجميع المدخرات ومن ثم القيام بتوجيهها نحو المشروعات فيما يعرف بتمويل الاستثمار.
وبالرغم من أن هدف الاستثمار في الاقتصاد الإسلامي لا يختلف كثيراً عن هدف الاستثمار في الاقتصاد التقليدي من حيث استخدام المدخرات في مختلف قطاعات الاقتصاد الإنتاجية من أجل زيادة التكوين الرأسمالي على المدى الطويل بغرض تنمية المال؛ إلا أن شرط مراعاة الأحكام الشرعية للاستثمار في الاقتصاد الإسلامي يجعل وسائل تمويل الاستثمار في الاقتصاد الإسلامي مختلفة بالكلية عن وسيلة تمويل الاستثمار في الاقتصاد التقليدي.
فبينما تمويل الاستثمار في الاقتصاد التقليدي يعتمد على سعر الفائدة (الربا) كمؤشر ومحدد للاستثمار، فانخفاض سعر الفائدة يؤدي لزيادة الطلب على الاستثمار، وارتفاع سعر الفائدة يثبط الطلب على الاستثمار ويدفع بالادخار ليتحول إلى الاكتناز، فإن الاقتصاد الإسلامي الذي يحرم الربا وينهى عن الاكتناز، يعتمد على المشاركة في العائد / الربح المتوقع للمشروع كمحدد يدفع المدخرات إلى الاستثمار، فيزداد الاستثمار بازدياده، ويستمر النشاط الاستثماري ما دام معدل العائد أكبر من معدل الزكاة 2.5% أو يساويه أو سالب معدل الزكاة في بعض الحالات، مما يجعل إجمالي الاستثمار في الاقتصاد الإسلامي أكبر مما هو عليه في الاقتصاد التقليدي.
وبينما يستخدم الاقتصاد التقليدي عقد الإقراض بفائدة كأسلوب وحيد للتمويل، نجد أن الاقتصاد الإسلامي يمتلك العديد من العقود الشرعية للمعاملات المالية التي تقدم أساليب متنوعة من التمويل تلبي جميع المتطلبات لمختلف القطاعات الاستثمارية وغير الاستثمارية، فهناك أساليب تقوم على المعاوضات وتهدف إلى الحصول على العائد وأساسها تحقيق العدالة بين الطرفين كالمشاركة، والمضاربة، والاستصناع، والمزارعة، والمساقاة، والإجارة، والوكالة، والمرابحة، والسلم، والجعالة، … وغيرها من العقود غير المسماة طالما أنها لا تخالف أحكام الشرع؛ وهناك أساليب أخرى تقوم على الإحسان وتستهدف تنمية الجوانب الاجتماعية والإنسانية وأساسها التراحم والتسامح كالزكاة والصدقة والوقف والقرض الحسن.
مؤشرات كفاءة الاستثمار في الاقتصاد الإسلامي
يقصد بكفاءة الاستثمار الحصول على عوائد ناتجة عن الاستثمار أو تحقيق أهداف تنموية واجتماعية كتوفير الأمن والصحة والتعليم لأفراد المجتمع ومن مؤشرات كفاءة الاستثمار:
• تحقيق مقاصد الشريعة: هو أهم مؤشر يختص به الاقتصاد لإسلامي دون غيره من الاقتصادات التقليدية، فتحقيق التنمية الاجتماعية والبشرية يكون بتحقيق مقاصد الشريعة الخمس الضرورية: من حفظ الدين، والعقل، والنفس، والنسل، والمال عند مستوى الكفاية اللائق بالإنسان الذي كرمه الله على العالمين، بهدف إقامة مجتمع المتقين وتحقيق الغاية الأسمى وهي العبودية لله لقوله تعالى: ” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ” سورة الذاريات 56، فالاستثمار الكفء هو الذي تنحصر مجالاته في نطاق إنتاج الحلال الطيب من السلع والخدمات وفقاً لسلم الأولويات فيُبدأ بالاستثمار في الضروريات ثم الكماليات ثم التحسينيات.
• تحقيق الأرباح: على الرغم من أن معدل الربح المتوقع أو المحقق يعتبر من المؤشرات الأساسية المحددة للاستثمار والدالة على كفاءئه، لأنه كلما كانت توقعات الأرباح مرتفعة كلما زاد الطلب على الأموال للاستثمار، ومع هذا فإنه في الاقتصاد الإسلامي قد لا يؤخذ بمؤشر تعظيم الأرباح، ويتم الاستثمار عند مستويات ربح منخفضة طالما هناك عائد اجتماعي أو مصلحة عامة كبيرة، وذلك بسبب وجود الوازع الإيماني في نفوس المسلمين الذي يحفزهم على الاستثمار الخيري عند المستويات المنخفضة من الربح ابتغاء مرضاة الله وثوابه الأخروي.
فالأفق الزمني للنتائج وهو أحد الأسس الحاكمة للنظام الاقتصادي الإسلامي يظهر بجلاء أن الإيمان بيوم الحساب يؤثر في التصرفات الاقتصادية للإنسان لأنه يجعل نتائج تصرفاته تمتد لتشمل ما بعد الحياة فيكون على الإنسان المفاضلة بين المنفعة والتكلفة، ويختار القيمة الحالية التي تحقق أحسن نتيجة في الآخرة لأن الدنيا مهما طالت هي في النهاية مزرعة الآخرة قال تعالى: ” فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ” الفجر 15- 20.
• استغلال الطاقة الإنتاجية: إذا كانت الطاقة الإنتاجية الفعلية أقل من الطاقة الإنتاجية الممكنة فإن هذا يعني وجود طاقة إنتاجية عاطلة كان من الممكن استخدامها في زيادة الناتج القومي، وهو ما يدل على أن كفاءة الاستثمار منخفضة، أما إذا كانت الطاقة الإنتاجية الممكنة مستغلة بالكامل ولا يوجد طاقة إنتاجية عاطلة فإن هذا يعني أن الاستثمار يعمل بكفاءة عالية.
• الأثر على ميزان المدفوعات أو القدرة على سداد الديون: تعتبر الاستثمارات في القطاعات الاقتصادية ذات كفاءة عالية إذا كان لها تأثير موجب على ميزان المدفوعات، وعلى زيادة قدرة الدولة على سداد ديونها، فالاستثمار الكفء هو الذي يؤدي إلى ارتفاع مستوي إنتاجية السلع والخدمات القابلة للتصدير أو البديلة للواردات والتي تستخدم مستلزمات إنتاج محلية لا تحتاج للعملة الصعبة، وإن استُخدمت مستلزمات إنتاج مستوردة من الخارج بالعملة الصعبة فإن تكلفة استيراد مستلزمات الإنتاج تكون أقل من مقدار ما يتم توفيره من العملات الأجنبية المحققة نتيجة لانخفاض الواردات، والاستثمار غير الكفء هو الاستثمار في زيادة السلع الاستهلاكية غير الضرورية مما يحدث عجز في ميزان المدفوعات، ويقلل من قدرة الدولة على سداد ديونها.
• قوة العملة الوطنية: كلما ارتفعت قيمة العملة الوطنية في مواجهة العملات الصعبة كان ذلك مؤشراً على كفاءة الاستثمار، وعلى العكس من ذلك في حالة انخفاض قيمة العملة الوطنية في مواجهة العملات الصعبة فإنها تدل على عدم كفاءة الاستثمار.
هكذا يتضح أن النظام الاقتصادي الإسلامي بمذهبه الاقتصادي الاستخلافي، وأسسه الحاكمة، ومبادئه، وقيمه الأخلاقية، يمتلك رؤية خاصة ومتميزة لمفهوم عناصر النشاط الاقتصادي، هذه الرؤية المتميزة يصاحبها امتلاك أدوات عمل متميزة لها القدرة على معالجة المشاكل الاقتصادية الجزئية التي تظهر في مجالات: الإنتاج والاستهلاك والإدخار والاستثمار والتمويل، ولها القدرة أيضاً على معالجة المشاكل التي تظهر في الجانب الاجتماعي.
أحدث التعليقات