إن قواعد ومبادئ الاقتصاد الإسلامي المستمدة من القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة أو فقه الصحابة والفقهاء المسلمين الذين جاؤوا بعدهم، تحدد الأحكام والقواعد الشرعية التي تنظم كسب المال وإنفاقه، لذا فهي توجب أن يكون الكسب (الدخل) المتحقق للإنسان نتيجة الجهد المبذول في العمل حلالاً طيباً، قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا ” البقرة 168، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ” رواه مسلم؛ وأن يكون الإنفاق من هذا الدخل وفق الضوابط الشرعية التي تذم البخل قال تعالى: ” وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ” الليل 8- 10، وتذم الشح قال تعالى: ” وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ” النساء 128، وتنهى عن الإسراف قال تعالى: ” وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ” الأعراف 31، وتنهى عن التبذير قال تعالى: ” وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ” الإسراء 26-27.
فإذا أمسك الشخص بعض ماله من كسبه الحلال الطيب بعد انفاقه منه وفق الضوابط الشرعية بقصد مواجهة احتمالات المستقبل فهذا هو الادخار.
وفي القرآن الكريم بيان تفصيلي لكيفية الادخـار لمواجهة الأزمات الاقتصادية في المستقبل قال تعالى على لسان نبيه يوسف عليه السلام: ” تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ” يوسف 47- 49. يقول ابن كثير: لقد أرشدهم يوسف عليه السلام إلى أهمية تلك السنين من الخصب ليـأكلوا من خيراتها ما يحتاجونه من غير إسـراف، ويدخروا ما تبقى في سنبله ولو كان قلـيلاً، مـن أجـل السنين السبع الشداد. وقال القرطبي: ” ماقدمتم لهن ” أي ما ادخرتم لأجلهن، وقوله: ” مما تحصنون ” أي تدخرون، فإذا تعلق هـذا الحرص والحفظ بالموارد الغذائية فإن الأمر لا يخـرج من مدلول الادخار بـالتعبير الاقتصـادي المعاصر.
الفرق بين الادخار والاكتناز
لقد شاع في علم الاقتصاد التقليدي إطلاق لفظ الادخار على الاكتناز، والاكتناز على الادخار وكأنها ألفاظ مترادفة، والحقيقة أن الفرق بين اللفظين شاسع في الاقتصاد الإسلامي، وذلك لاختلاف الحكم الشرعي لكل من الادخار والاكتناز.
إباحة الادخار: الادخار يعنى الاحتفاظ ببعض المال الذي تم تأدية زكاته لوقت الحاجة، وهذا مباح بل قد يكون مستحب، فقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ” الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثيرٌ – أَوْ كبيرٌ – إنَّكَ إنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أغنِيَاءَ خيرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يتكفَّفُونَ النَّاسَ ” رواه مسلم. كما ثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ” أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهْوَ خَيْرٌ لَكَ ” رواه البخاري. وفي الحـديثين الشريفين توجيه واضح بعدم إنفاق كل المال حتى وإن كان في الصدقات إلى الله ما دام هناك من تجب عليـهم النفقة، وأنه يجب الإبقاء على شيء من المال للورثة حتى لا يتعرضوا للمسألة ويصبحوا عالة على غيرهم.
تحريم الاكتناز: الكنز في الأصل هو المال المدفون تحت الأرض من الذهب والفضة، قال تعالى: ” وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ” التوبة 344. وفي التفسير أيما مال لم تؤد زكاته ( الإنفاق الصدقي الإلزامي ) فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على ظهر الأرض غير مدفون. والاكتناز في الاقتصاد الإسلامي يعني تخلف أحد عناصر الموارد عن المساهمة في الاقتصاد وبقاؤه في صورة عاطلة، مما يؤدي إلى حدوث اختناقات في حركة عوامل الإنتاج، يترتب عليها توقف أو تباطؤ النشاط الاقتصادي، فالاكتناز يمثل إعاقة لهدف عمارة الأرض أو التنمية الاقتصادية للمجتمع بالمفهوم الحديث.
ضوابط الادخار في الاقتصاد الإسلامي
من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التى تتضمن معاني الادخار يمكننا استخلاص مجموعة من الضـوابط الخاصة بالادخار منها:
1- يجب ألا يؤدي الادخار إلى ضعف اليقين من أن الله هو الرزاق لأن هذا يضر بعقيدة المسلم، وأن يكون الادخار من باب الأخذ بالأسباب المأمور بها لمواجهة احتمالات المستقبل؛ مع الاعتقاد الجازم بأن الادخار لا يغني عن قدر الله شيئاً.
2- ألا يؤدي الادخار إلى البخل والشح، والبخل أن يبخل الإنسان على غيره لكنه قد يكون كريم على نفسه، أما الشح فأفظع وأشنع من البخل لأن الإنسان يبخل على نفسه وعلى غيره، والبخل والشح يقيدان الإنفاق وهو ما يسبب الكساد، وعدم الإنفاق مع القدرة إثم، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” كَفي بِالمرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يقُوتُ ” رواه أبو داود.
3- أن يكون الادخار بعد إشباع الحاجات الضرورية، وتحقيق مستوى المعيشة الحسن للناس بحيث يضـمن لهم كفايتهم، فلا يجوز أن يجوع الناس ويجهدون لرفع مستوى الادخار؛ لهذا يعتمد المنهج الاقتصادي الإسلامي في دراسة الادخار على ربط الأجور عند مستوى الكفاية، يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: ” تقدير العطاء مرتبط بالكفاية “، وبذلك يتميز المنهج الاقتصادي الإسلامي عن الاتجاهات الحديثة في الاقتصاد التقليدي التي تركز فـي دراسة الادخار، على ربط الأجور عند مستوى الكفاف.
4- ألا يتحول الادخار إلى احتكار وحبس للسلع التي يحتاج إليها أفراد المجتمع لحين غلاء أسعارها لتحقيق مكاسب كبيرة نتيجة الانتظار الزمني، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه لأنه يكون بفعله هذا قد برئ من الله، وقد برئ الله منه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه ” رواه أحمد. وقال صلى الله عليه وسلم: ” من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة ” رواه أحمد. والاقتصاد الإسلامي يتبع الفقه في تحريم الاحتكار لما فيه من استغلال لحاجة أفراد المجتمع إلى السلع، وخاصة الضروري منها كالطعام، والاحتكار يؤذي أفراد المجتمع مرتين أحدهما بإنقاص الإنتاج والثانية برفع السعر.
الدور الاقتصادي والتنموي للادخار
إذا كان للادخار دور مهم في تهيئة درجة من الحماية والأمان ضد التقلبات الاقتصادية في المستقبل بالنسبة للأفراد، إلا أن دور الادخار بالنسبة للدولة هو الأهم لمساهمته بدرجة كبيرة في تحقيق الأهداف الاقتصادية والتنموية للدولة، وذلك عن طريق:
- الادخار يحد من الإِنفاق الاستهلاكي للأفراد وهو ما يسمح بتوجيه المزيد من السلع للتصدير الأمر الذي يوفر للدولة النقد الأجنبي اللازم لمشروعات التنمية، كما أن الادخار يقلص الطلب على السلع المستوردة فيقل خروج النقد الأجنبي من الجهاز المصرفي.
- يوفر الادخار للدولة التمويل المحلي المطلوب لتنفيذ مشروعات التنمية من دون الحاجة إلى زيادة الضرائب على المواطنين، ومن دون اللجوء إلى الاقتراض من الخارج.
- الادخار يمتص الزيادة في الدخول التي تصاحب الإِنفاق على خطط التنمية، وبذلك يحد من الضغوط التضخمية التي تؤدي إلى غلاء أسعار السلع والخدمات.
- توجيه المدخرات إلى الاستثمار يؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة تقلل من حجم البطالة.
- الادخار يحد من الإستهلاك الترفي والإسراف والبذخ، وهو ما يساعد في تحقيق الاستقرار الاجتماعي في الدولة.
لقد أيقنت معظم الدول أهمية الادخار في تحقيق التنمية الاقتصادية لتحسين مستوى معيشة الأفراد؛ وتثبيت دعائم الاستقرار الاجتماعي؛ والاستقلال السياسي، لذا عملت هذه الدول بمختلف مذاهبها الاقتصادية على تنمية الوعي الادخاري بين أفرادها بكافة الوسائل، لجذب مدخراتهم وتجميعها واستخدامها في تمويل مشروعات تنموية جديدة، توجد مزيد من فرص العمل للعاطلين، وترفع من دخول الأفراد، وتوفر السلع والخدمات بأسعار أفضل.
هذا وإن كان الاقتصاد التقليدي يتفق مع الاقتصاد الإسلامي في أن الهدف الأساسي من الادخار هو استثمار الأموال لتحقيق التنمية الاقتصادية إلا أنهما مختلفان في الوسيلة، فبينما سعر الفائدة (الربا) في الاقتصاد التقليدي هو العامل المؤثر في جذب المدخرات وتجميعها واستثمارها، نجد أن الاقتصاد الإسلامي يعتمد على تأثير الوازع الإيماني في النفوس في الحث على الادخار، قال تعالى: ” وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ” الفرقان 67، ويستخدم المشاركة في الربح أداة لجذب المدخرات واستثمارها، وهكذا يلبي الاقتصاد الإسلامي الميل الفطري لحب الإنسان للمال ورغبته في الاحتفاظ به وزيادته، ويقدم الوسيلة المشروعة التي تمنح العائد العادل على المدخرات المستخدمة في التنمية الاقتصادية.
د. عبد الفتاح محمد صلاح
مؤسس ومشرف موقع الاقتصاد العادل
المصدر
أحدث التعليقات