الانتماء وزيادة فاعلية العمل الخيري – د. وجدي شفيق عبد اللطيف
يعد مفهوم الانتماء من أكثر المفهومات انتشاراً في حياتنا اليومية؛ فلقد شهدت الآونة الأخيرة ترديداً لكلمة الانتماء في كثير من المقالات السياسية والبرامج والخطط الاقتصادية، وأيضاً في التشريعات والمعايير الاجتماعية التي تسنها الدول، وأرجعت جميعها كل ما يعانيه المجتمع من أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية إلى ضعف الانتماء.
فكل مجتمع يتكون من أفراد ينتمون إلى جماعات متعددة الأغراض، وتسهم هذه الجماعات العديدة بدورها الحيوي في تقدم المجتمع ونموه واستمرار الحياة الاجتماعية فيه. ولو أننا حاولنا أن نحصر أنواع الجماعات التي ننتمي إليها بحكم المولد لملأت تلك القائمة بضع صفحات. وفي كل يوم تكشف لنا بحوث علم الاجتماع إلى أي مدى تتأثر اتجاهاتنا السياسية، ودرجة التزامنا بأحكام الدين والقانون، وميولنا المهنية بتلك الانتماءات.
ويعد الانتماء معنى من المعاني الهامة التي يحاول كل مجتمع غرسها في نفوس أبنائه؛ حتى يشبوا غيورين على وطنهم، قادرين على حمايته؛ فالانتماء هو الحماية الصحية التي يكتسبها الفرد نتيجة تواجده داخل جماعة ينتمي إليها.
وقد أكدت دراسات عديدة في أدبيات التنمية أننا في حاجة إلى استثارة روح الانتماء من أجل التنمية؛ إذ إن أي قرار سياسي فوقي لن يكون له صدى ما لم يكن معبراً عن إرادة شعبية، فقد أصبحنا نشكو من السلبية، واللا مبالاة، والأنانية، والفساد، واستغلال النفوذ، فكيف إذن يمكن أن تنتشر روح البناء في هذا المناخ، بدون الانتماء إلى المجتمع.
وبالرغم من أهمية هذه القضية، فإن عدد الدراسات التي حاولت أن تتطرق إلى الحديث عن الانتماء بشكل مباشر هو عدد قليل للغاية، وحتى هذا العدد القليل من الدراسات يقع معظمه في نطاق علم النفس، مما جعل دراسة الانتماء قاصرة على النظر إليه كظاهرة نفسية، وكحاجة سيكولوجية، دون النظر إليه كظاهرة اجتماعية شأن غيرها من الظواهر في المجتمع تتأثر وتؤثر في غيرها من الظواهر، الأمر الذي جعل دراسة الانتماء في نطاق علم الاجتماع أمراً ملحاً.
ويعني الجانب الاجتماعي للانتماء أن الكيان الاجتماعي الأكبر الذي يحتوي الأفراد يقدم لهم فرص الأمن والأمان، ويحترم حقوقهم وحرياتهم، ويمنحهم المسؤولية بالتدريج؛ لكي يثبتوا ذواتهم، وليسهموا في بناء حاضرهم ومستقبلهم. فالانتماء هو قضية اجتماعية عامة، أكثر من كونه قضية ذاتية خاصة؛ فهو علاقة بين الجماعة ككائن كلي، وأفرادها كمكونات جزئية لها، يدرك بمقتضاها الأفراد استنادهم إلى الكيان الاجتماعي الأكبر، مما يوفر لديهم دافعاً للبذل والعطاء لما تعودوه من الجماعة من نفع مادي ومعنوي مستمر.
كما يعد الانتماء من أهم الحاجات الأساسية التي بدونها لا يمكن أن تكون هناك جماعة أو مجتمع؛ فالرغبة في الانتماء هي التي تجعل المجتمع ممكناً.
الانتماء والمفهومات الأخرى:
هناك عدد من المفهومات التي تتقاطع مع مفهوم الانتماء مثل: الولاء، والهوية. وهناك مفهومات تتناقض معه مثل الاغتراب.
ويعرف الولاء على أنه الشعور بالارتباط بشيء ما خارج الذات، مثل جماعة ما، أو نظام ما، أو سبب ما، أو فكرة ما. فالولاء هو حب وإخلاص شديدين يوجههما الفرد إلى موضوع معين كالوطن، أو المذهب الديني، أو السياسي، أو نحو زعيم، أو حزب بذاته، بحيث يضحي الفرد بحياته ذاتها، بل وبحياة أسرته ـ أيضاً ـ لصالح موضوع بذاته، أو دفاعه عنه، أو الدعوة إليه؛ فالولاء عاطفة تلقائية، وقناعة ذاتية.
أما الهوية فتعرف بأنها الجوانب المتكاملة من الأدوار الاجتماعية، والإدراك الذاتي لشخص ما، والتي تشكل إجابة على السؤال التالي: من أكون؟
وتنطوي الهوية ـ في الأساس ـ على معانٍ رمزية، وروحية، وحضارية جماعية، تعطي الفرد الإحساس بالانتماء إلى جسم أكبر، وتخلق لديه الولاء والاعتزاز بهذا الجسم الأكبر.
كما تعني الهوية مكانة الفرد الاجتماعية، ولها شقان: مكون شخصي ناتج عن الخصائص الوراثية مثل الشخصية، والسمات العقلية والجسمية، ومكون اجتماعي ناتج عن عضوية الجماعات البارزة مثل: الجنس، والسلالة، والطبقة، والوطن.
وبذلك يلاحظ التداخل والتشابك بين مفهومات الولاء والهوية والانتماء، وعدم إمكانية الفصل بينهم إلا لأغراض الدراسة والتحليل، فبدون الولاء يكون الانتماء شكلاً فارغاً بلا مضمون، وتصبح العلاقات الاجتماعية جافة ضعيفة الفاعلية، سطحية الأثر. والانتماء ـ كما نعتقد ـ هو ذلك النوع الذي يغذيه الولاء ويقويه، والذي لا يقتصر على مجرد عضوية الجماعة.
أشكال الانتماء:
للانتماء عدة أشكال تتدرج من الصغر إلى الكبر، وهي كالتالي:
1- الانتماء الأسري:
يتأثر الانتماء الأسري بمجموعة مترابطة من العوامل، أهمها: التحول من النمط الأسري الممتد إلى الأسرة النواة، والذي أدى بدوره إلى فقدان الأسرة لكثير من عناصر وحدتها ومركزها الرئيسي في حياة الإنسان، وفقدانها للكثير من وظائفها التي كانت تقوم بها في الماضي، الأمر الذي أدى إلى إشباع أعضاء الأسرة معظم حاجاتهم خارج نطاقها، وسيطرة القيم الفردية، حيث أصبح على الفرد ـ في ظل الحياة الحديثة ـ أن يواجه مصيره، ويخطط لحياته ومستقبله بطريقة فردية، والظروف الاقتصادية للأسرة، وتشتت القرابة جغرافياً.
كما أشارت العديد من الدراسات الإمبيريقية التي تناولت العلاقة بين القرابة والمجتمع الحضري إلى أن مفهوم الأسرة النووية المنعزلة مفهوم مضلل وغير دقيق للأسرة الحضرية الحديثة، ويعد المفهوم الأكثر ملاءمة لوصف هذه العلاقة هو الأسرة الممتدة المعدلة، والذي يتمثل في اتحاد عدة أسر نووية في حالة من الاعتماد المتبادل، مع الاحتفاظ بدرجة من استقلالية كل أسرة.
2- الانتماء لمجتمع الجيرة:
يتوقف الانتماء لمجتمع الجيرة على مجموعة من العوامل المترابطة، ومن أهمها: خصائص السكان، ومشاركتهم في مواجهة الحاجات والمشكلات المشتركة، ووجود علاقات أخرى مثل: القرابة، والصداقة، وزمالة العمل بين الجيران، ووسائل الاتصال الإلكترونية التي أدت إلى اختفاء الروابط الأولية بين الجيران. وتعد هذه العوامل أكثر وضوحاً في المجتمع الحضري عن المجتمع الريفي بصفة عامة، وفي المناطق الحديثة في المدن بصفة خاصة، حيث ما زالت المناطق المتخلفة تتميز ببعض العلاقات الأولية والانتماء لمجتمع الجيرة.
3- الانتماء الوطني:
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن أزمة الانتماء الوطني التي يشعر بها كل الناس، ويدركها المواطن العادي، والمثقف، وتحس بها الجماهير والنخبة. وقد تجلت هذه الأزمة بوضوح في مشكلات الفساد، والرشوة، واستغلال النفوذ، ونهب المال العام. وقد نتجت هذه الأزمة نتيجة تضافر مجموعة متكاملة من العوامل المتمثلة في العوامل الاقتصادية، حيث يؤدي سوء الدخل إلى خلق مناخ تتوالد فيه جرائم التغريب التي تنخر في جسم الانتماء الوطني. والعوامل السياسية، والتي تتمثل في أزمة الديمقراطية. والعوامل الاجتماعية، مثل: زيادة حدة المشكلات الاجتماعية، والتغير في النسق القيمي، هذا فضلاً عن العوامل الخارجية التي تتمثل في سيادة موجة التغريب الثقافي والتبعية الثقافية.
4- الانتماء القومي العربي:
للانتماء القومي العربي عدة مقومات، تتمثل في: وحدة اللغة، والتاريخ المشترك، والدين، ووحدة الإقليم، والتعاون الاقتصادي. وهو يواجه في الوقت الحالي عدداً من التناقضات التي تؤدي إلى ضعفه وانهياره.
الانتماء والعمل الخيري:
لا شك أن الأشكال السابقة من الانتماء توضح أن الإنسان مخلوق انتمائي بطبيعته وسجيته الفطرية، ومن هذا المنطلق نجد أن الإنسان محاط بشبكة من الانتماءات المتعددة مثل: الانتماء الأسري أو القبلي، أو الانتماء المذهبي أو الطائفي، أو الانتماء المهني أو الحرفي. ولا ضير في تلك الانتماءات، شريطة أن تتسم تلك الانتماءات بالعقلانية والتوازن، وألا تتعارض ـ بأية حال من الأحوال ـ مع الانتماء الوطني من جهة، والانتماء الحضاري من جهة أخرى. وتأسيساً على هذا الإدراك والفهم لمفهوم الانتماء يصبح الانتماء للمؤسسات الخيرية تعزيزاً للوحدة الوطنية، وترسيخاً للهوية الحضارية الإسلامية. وفي هذا المقام لا بد من التذكير بأن الانتماء للمؤسسات الخيرية لا ينبغي أن يكون مجرد شعارات، بل ينبغي أن يكون انتماء صادقاً، تحكمه الروابط والمصالح المشتركة، وتوجهه المصلحة الوطنية العليا.
كما تكتسب مؤسسات العمل الخيري دورها الحيوي في مجالات تعزيز وتفعيل الانتماء، وذلك من طبيعة تكوينها على المستوى الشعبي غير الرسمي، واعتمادها الرئيسي على الدعم المادي من قبل الأفراد والجماعات أو المؤسسات الحكومية والأهلية، على صورة رسوم أو اشتراكات أو هبات أو تبرعات، الأمر الذي يكسبها الحرية والاستقلالية في اتخاذ القرارات، والقيام بالمبادرات والأنشطة التي تحقق الأهداف والتطلعات المرجوة منها؛ استجابة لمتطلبات واحتياجات المجتمع برمته أحياناً، أو بعض شرائحه من المنتمين إليها أحياناً أخرى، وفي إطار المصلحة الوطنية العامة، وفي ضوء الثوابت الدينية والمجتمعية.
كما تُعد مسألة الانتماء من أهم القضايا والمسائل في العمل الجماعي الذي تقوم عليه الجمعيات الخيرية؛ حيث إنه يعتبر صمام الأمان لديمومة العمل، بل نجاحه. والانتماء ليس شيئا ظاهرياً مادياً يمكن قياسه، بل هو أمر عاطفي يجعل العنصر أو الفرد في ميل دائم لهذا العمل، ومن هذا الأساس ينطلق في همه للعمل وتفكيره فيه، وفرحه بالإنجاز، وحرصه على الوحدة والتعاون….، وأشياء كثيرة يصعب حصرها.
وبالإضافة إلى ذلك نجد أنه في ظل انتماء الفرد للمؤسسات الخيرية يقل تفكير المرء الفردي ونظره لنفسه وذاته، ويتحول تفكيره إلى تفكير جمعي مشترك مع أفراد الجماعة؛ فتجده يقدم عملاً أو مهمة متعلقة بالجماعة على بعض أولوياته الضرورية؛ لأن مصلحة الجماعة في نظره أهم، وتجد منه توحداً ملحوظاً في الموقف تجاه حدث ما، ورد الفعل كذلك؛ لأن تفكيره الفردي يضعف، ويكون مقتنعا بفكر الجماعة، ويعني ذلك أن أفكار المرء وسلوكياته مرهونة بانتمائه إلى حد كبير، وكذلك انتماؤه يؤثر على أفكاره وسلوكياته، فكلما زاد انتمائه الوطني والقومي مال إلى المشاركة في الأعمال الخيرية، وضعف ـ في نفس الوقت ـ تفضيله للمصالح الشخصية الضيقة.
وما سبق يوضح أن بث روح الانتماء يعد أحد المجالات الحيوية لعمل الجمعيات الخيرية، بما سوف يترتب على ذلك من آثار متمثلة في زيادة التبرعات العينية والمادية، وزيادة نسب التطوع في الأعمال الخيرية.
المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=54
أحدث التعليقات