يا أصحاب القفاف والزنابيل: الفقراء الفقراء !! – محمد خضر الشريف
دموعهم السَّاحة على خدودهم, وأصواتهم المبحوحة وهي تخاطبك, تشكو حالهم قبل نطق ألسنتهم, تستحثك على البكاء, وتستفز فيك إنسانيتك, ونخوتك, وتسل من نفسك سخيمة البخل..
إنهم من بني جلدتنا وإخوة لنا عضهم الفقر, وأعوزتهم الحاجة الماسة, وأكثرهم كما وصف ربنا الكريم: { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف, تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}.. وبعضهم يصرخ من الألم ويخرجه الفقر من التعفف إلى التسول العلني وعلى استحياء أيضا, وهم معذورون فـ «الجوع كافر»,كما يقولون, وكما قال سلفنا الصالح:« لو كان الفقر رجلا لقتلته».. تبكيني مآسيهم, وتؤرقني رثاثة أحوالهم, وربما سألني الواحد منهم حاجته وهو يظن في الخير, وأنا لا أملك له ولا لنفسي نفعا ولا ضرا, فأطيب خاطره وأتمثل بيني وبين نفسي بقول الشاعر الحكيم:
ولربما منع الكريم وما به بخل ولكن سوء حظ الطالب
ولو كان الأمر بيدي والمال بين يدي, لفعلت كما تمنى ان يفعل المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال:« لو كان عندي مثل أحد ذهبا لما مر علي ثلاث حتى أقول به بيدي هكذا وهكذا.. وهو يشير صلى الله عليه وسلم بيديه وكأنه يغرف من المال بهما ينفقه على الناس.. لكن ليسامحني هؤلاء جميعا فبيني وبين المال شبه عداوة أحبها وإن كرهها الناس!!
أكثر هؤلاء لا يجدون قوت اليوم, نعم قوت اليوم الواحد الذي هو في الحقيقة الدنيا كلها في نظره هو, والمفروض ان يكون كذلك في نظر الناس جميعا..وقد قال صلى الله عليه وسلم :« من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».
إذن القضية قضية القوت، وقوت اليوم على وجه الخصوص, أي أن المسلم الحق لا يفكر في مسألة الرزق قدر تفكيره في رزق اليوم واليوم فقط, فلا يشغل باله بالغد المجهول الذي لايدري هل سيعيشه ام لا؟
ومشكلة البشر كل البشر- مسلمهم قبل كافرهم- حساب الغد ورزق الغد، ومتي يأتي رزق الغد؟ وكيف نتحصل عليه؟ وبأية وسيلة بالحلال أوبالحرام؟ لا يعني.. المهم أنه يأتي بأي طريق ومن أي طريق.. وينسى هؤلاء جميعا ان الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له, وهو الذي يقبض ويبسط وإليه مرجعنا جميعا, ولكن الناس لا يعلمون، وإذا علموا لم يفقهوا، وإذا فقهوا لم يعملوا بما علموا وبما فقهوا..
غير أن الصادقين لهم مع ربهم دلال, والدلال منصب من الثقة به سبحانه وتعالى, ولا تكون الثقة إلا بإيمان صادق بالله وهذا الإيمان الصادق بالله هو الذي يجعل مسالة الرزق ليست مسألة فيها نظر, بل هي مسألة حقيقية صادقة واقعية مفروغ منها..
من هذا ما قاله الإمام القرشي الذي طبق علمه أطباق الأرض، وأعني به الإمام الشافعي -يرحمه الله- حين قال هذا المعنى شعرا لفتاه « سعيد»:
إذا أصبحت عندي قوت يومي فخلِّ الهم عني ياسعيدُ
ولا تخطر هموم غـــد ببالـــي فإن غدا له رزق جـديــدُ
أسـلـم إن أراد اللــه أمـــــــرا وأترك ما أريد لما يريــــدُ
وهكذا الصالحون.. يعتبرون الدنيا معبرة للآخرة لأنهم آمنوا بقول من خلق الدنيا والآخرة:{ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}..
وقد قال أحد الأثرياء الذي لا يرجون لله وقارا لأحد المتوكلين على الله -مثلي ممن لا يملكون ذهبا ولا فضة- من يحضر لك طعامك وشرابك.؟ قال : الله.. قال : كيف ذلك يعني يدلي عليك قفة من السماء فيها رزقك؟
فرد الرجل الفقير المؤدب مع ربه.. ياهذا .. العالم كلها قفافه!!
فضحك الرجل كثيرا مستهزئا بثقة الرجل في ربه.. ثم عنَّ له أن يصنع مع الرجل الفقير حيلة ماكرة أو لنقل بلغة العصر “مقلبا” فقال له: أريدك أن تأتي إلى بيتي لمساعدتي في أمر مهم. فقال الرجل بحسن النية: على الرحب والسعة. وانطلقا.. فلما دخلا البيت, قال الثري: انزل إلى هذا البئر ( وهو بئر طاوٍ)؛ لتحضر لي منه حاجة سقطت مني، ثم ربطه بالحبل ودلاه إليه، فلما نزل إلى القاع ترك الرجل الحبل من يديه فسقط صاحبنا فيه, وقال المغرور للفقير مستهزئا منه ومن ربه عز وجل: ياهذا دع صاحب «القفاف» ينزل إليك قفته!!
انصرف صاحب البيت إلى مشوار خارج البيت, فلما خرج اشتهت زوجته طعاما لذيذا يعمل من العسل والسمن والحلوى, فأرسلت الجارية فاشترت الطعام وأعدته لها بشكل يغري النفس, وما إن وضع الطعام على السفرة, حتى طرق صاحب البيت الباب, فذهلت المرأة وجارتها واحتارتا أين يخبئان الطعام منه- فهو بخيل لو علم به لأقام الدنيا وما أقعدها-فاقترحت الجارية أن تنزل السفرة بحبل في البئر, وقد كان, وصاحبنا- الواثق بربه- جالس يذكر الله ويستغفره, في قعر البئر, فإذا بقفة فيها هذا الطعام الشهي, تنزل عليه من السماء، فبسمل-أي سمى الله- وأكل وحمد الله دون أن يدري شيئا عما حدث..
دخل الرجل البيت وأول ما ذهب ذهب إلى البئر مخاطبا الرجل القابع فيها: ياهذا هل أنزلت إليك القفة؟ فضحك صاحبنا وهو يقول: نعم والله لقد نزلت وأكلت منها وشكرت الله كثيرا..
جن جنون الرجل: وذهب إلى الجارية يستنطقها الخبر, ومن أطعم هذا وكيف تطعمونه بدون إذني؟ وثار عليها وهاج وماج وهددها, فلم تجد بدا إلا أن تخبره خبر الطعام الشهي, وأنهما خشياه، فلم يجدا حلا إلا أن يخبئئا الطعام في البئر، ولم يعلما بوجود أحد فيها.. فبكى الرجل وأخرج صاحبنا وهو يعتذر ويقبل يديه ورأسه وقد أخذ درسا كبيرا وعظيما في الثقة بالله تعالى .
يا أصحاب القفاف والزنابيل والحواصل والخزانات: الفقراء الفقراء والمعوزين المحتاجين, جففوا عنهم دموعهم, وخففوا عنهم مآسيهم, وفروا لهم قوت يومهم حتى يشعروا أنهم قد حازوا الدنيا بحذافيرها, ولا تنسوهم سيما في الأيام الفضيلة وفي الأشهر الكريمة التي تتجلى فيها نفحات الله الكريم على عباده، واعلموا أن الله يجزي المتصدقين..
المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=46
أحدث التعليقات