ثقافة الوقف العلمي – د.أحمد عبادة العربي
الوقف الإسلامي من أسمى الأنظمة الاقتصادية التي ساهمت ببناء المجتمعات الإسلامية على مر العصور.
وكان الوقف من أهم وسائل التقدم العلمي والفكري والثقافي للبلاد الإسلامية؛ حيث أسهم في بناء صروح العلم ونشرها عن طريق المساجد والكتاتيب والمدارس والمعاهد، وتخرج من هذه المؤسسات العلمية الموقوفة عدد من العلماء في شتى فروع المعرفة البشرية مثل: الخوارزمي، وجابر بن حيان، وابن سينا، والرازي، وابن الهيثم، ولم يصل هؤلاء إلى ما وصلوا إليه لولا الدعم المادي الذي توفر لهم من قبل الأوقاف.
كما أن الوقف اهتم برعاية طلاب العلم ومعلميهم، وسهل هجرتهم إلى مراكز الحضارة لطلب العلم؛ حيث أوقف عليهم بيوتاً، ومخصصات مالية، وغذاء، وكساء، ومواد كتابية، ليتمكنوا من التحصيل العلمي.
ولم يقف أثر الوقف في التعليم عند علم بحد ذاته؛ وإنما شمل كل موضوعات المعرفة البشرية تستوي في ذلك العلوم الشرعية والعلوم البحتة والتطبيقية والاجتماعية، خاصة الطب، والصيدلة، والفلك. ولقد ساهم الوقف بشكل ملحوظ في نشر العلم تعلماً وتعليماً وبحثاً، وكان وراء الإنجازات العلمية والحضارية عن طريق مرافق التعليم: (المساجد –المدارس – المكتبات – الجامعات) المختلفة. ويزخر العالم الإسلامي بعدد كبير من المدارس الوقفية مثل: المدرسة النظامية، والمدرسة المستنصرية، ومدرسة ابن الجوزي، والمدرسة السليمانية بمصر، ودار السلسلة، ومدرسة الملك المنصور عمر، ومدرسة الملك الأفضل، ومدرسة الملك المجاهد بمكة بالسعودية.
ولا يقتصر دور الوقف عند إنشاء المدارس؛ بل اهتم بإنشاء المكتبات وتزويدها بأمهات الكتب، ومن أشهر المكتبات الإسلامية الموقوفة: مكتبة الموصل، مكتبة بغداد بالعراق، ودار الحكمة بمصر.
المشكلات العلمية بالعالم العربي والإسلامي ودور الوقف في التغلب عليها
هناك عدة مشكلات تعاني منها المؤسسات العلمية والثقافية في العالم الإسلامي نوردها فيما يلي:
1. قلة عدد الكوادر العلمية القادرة على تعليم وتدريب وتأهيل أبناء المجتمع: وللتغلب على هذه المشكلة يمكن أن :
• الاهتمام بتوجيه الوقف نحو ابتعاث أعداد من الخريجين والمعلمين للحصول على درجات علمية أو لتنمية مهاراتهم التدريبية.
• إنشاء مراكز تدريب وتأهيل للخريجين لسد الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل.
• إنشاء معاهد أو كليات للمعلمين تهتم بتخريج كوادر علمية ماهرة قادرة على التعامل أو استخدام التكنولوجيات الحديثة في مجالات التدريس والتدريب.
• الاهتمام بالتعليم الفني والتقني، وإعداد مؤسساته بالأجهزة والمعامل التي تساعد على تأهيل أفراد المجتمع للعمل في المؤسسات الاقتصادية المختلفة.
2. خروج عدد من أفراد المجتمع – وخاصة الفقراء – من مراحل التعليم للعمل للإنفاق على أنفسهم أو على أسرهم في حالة عدم توفر دخل مادي مناسب: وللتغلب على ذلك لا بد من توجيه أموال الوقف للإنفاق على الطلاب غير القادرين وتوفير ما يلزمهم من مسكن ومأكل وملبس واحتياجات دراسية.
3. تقليص ميزانية المؤسسات التعليمية الدينية في بعض الدول الإسلامية، وصعوبة إنشاء مؤسسات جديدة تهتم بتعاليم الدين الإسلامي: ويمكن من خلال أموال الوقف الإنفاق على المؤسسات العلمية الإسلامية الدعوية من خلال تزويدها بالمعامل، والمكتبات، وصيانتها، والدعوة إلى إنشاء مؤسسات دعوية تهتم بإعداد كوادر دعوية للعمل في المناطق الإسلامية المنتشرة في أنحاء العالم.
4. قلة عدد المكتبات العامة وتقليص ميزانيتها:
عادة ما يحكم على عدد المكتبات العامة في المجتمع بناءً على عدد السكان، ومن خلال الدراسات الأكاديمية والمعايير الدولية في هذا المجال يتبيّن أن هناك قصوراً شديداً في عدد المكتبات العامة، ويصل العجز في المكتبات – في بعض الدول – إلى نسبة 90%، كما أن ميزانية المكتبات العامة التابعة لوزارات الثقافة في معظم الدول العربية يخصص لها ميزانيات ضئيلة في ظل غلاء أسعار مصادر المعلومات.
لذا يمكن الاهتمام بإنشاء مكتبات عامة، ووقفها على المدارس أو الجامعات، أو الإشراف الخاص عليها.
5. قلة عدد الكتب المنشورة في العالم الإسلامي مقارنة بالعالم الغربي:
يلاحظ من خلال تقارير المؤسسات الدولية – وخاصة المنبثقة عن الأمم المتحدة – أن إنتاج الدول العربية من الكتب والأبحاث العلمية قليل جداً يصل إلى حد الندرة نتيجة إلى عدة عوامل منها: قلة العائد المادي للمؤلفين، والسرقات الأدبية والمادية، وعدم احترام قوانين حقوق التأليف، وعدم ميول أفراد المجتمعات العربية إلى القراءة وشراء الكتب، والحالة الاقتصادية لهذه المجتمعات.
ولذلك يمكن الاهتمام بتمويل مراكز الدراسات والبحث، وتشجيع الباحثين والمؤلفين على التأليف والابتكار والنشر من خلال عقد المؤتمرات والندوات ذات الاشتراك المجاني، بالإضافة إلى مكافأة البحوث المميزة، ورصد جوائز للتأليف في قطاعات علمية مختلفة يكون المجتمع بحاجة إليها.
6. قلة عدد الكتب المترجمة من و إلى اللغة العربية:
تعاني المكتبة العربية من قلة عدد الكتب المترجمة إلى اللغة العربية وخاصة في العلوم الطبية والتكنولوجية والاقتصادية، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها: ندرة الكوادر العلمية القادرة على ترجمة مصادر المعلومات العلمية الأجنبية، بالإضافة إلى قلة العائد المادي الذي يحصل عليه المترجمون، وعدم اهتمام دور النشر والتوزيع بنشر الكتب المترجمة.
وللتغلب على ذلك، يمكن وضع خطة لترجمة عدد من الكتب الأجنبية إلى اللغة العربية، بهدف إثراء المجتمع العربي بأحدث ما وصلت إليه الحضارات الأخرى.
بالإضافة إلى ترجمة الكتب العربية – وخاصة الإسلامية منها – إلى لغات أخرى عالمية، للوصول إلى مجتمعات هذه اللغات والتواصل معهم، وتوضيح صورة الإسلام الذي يحاول الغرب تشويهها.
سبل تفعيل دور الوقف العلمي
لا يحظى الوقف على المؤسسات التعليمية بالعناية كما يحظى الوقف على الفقراء والمساكين والمساجد والمستشفيات ودور الرعاية وجهات البر الأخرى. ولتشجيع ثقافة الوقف العلمي بين المجتمعات الإسلامية يمكن أن نسلك الطرق التالية:
• بيان المنافع المترتبة على الوقف العلمي، من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، والدروس والمحاضرات الدينية، أو بأية وسيلة أخرى كالتذكير بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث على عمل الخير والإنفاق على طلبة العلم والمؤسسات التعليمية.
• استصدار فتاوى شرعية من كبار العلماء بجواز الوقف على المؤسسات التعليمية وطلبة العلم ووسائل تشجيع إجراء البحوث العلمية وإثراء حركة الترجمة؛ لأن غالبية المسلمين يعتمدون على الفتاوى الشرعية في تصرفاتهم، وخاصة ما يتعلق بالإنفاق في سبيل الله والوقف.
• تشجيع الدراسات والبحوث التي تهتم بالوقف العلمي والتي تبيّن تاريخ الوقف العلمي، والنماذج البارزة، وأثره الإيجابي على الفرد و المجتمع.
• إقامة الندوات والمؤتمرات التي تسهم في تفعيل الوقف العلمي، وتوعية المجتمع بأهميته وترسيخ مفاهيمه.
• توضيح المجالات العلمية التي يمكن أن يساهم فيها الوقف: من خلال دراسات أولويات البحث العلمي، وتطوير التعليم، وكذلك أولويات التوزيع الجغرافي لإنشاء مؤسسات تعليمية وقفية.
• التعريف بالمؤسسات العلمية الإسلامية، وبيان دورها فلي المجتمع، وكيفية الوقف عليها.
• توعية الواقفين بأهمية الاستثمار في التعليم، وأثر ذلك على مؤسساتهم الاقتصادية فيما بعد.
خاتمة
وفي النهاية أود أن أشير إلى أن سبب تطور المجتمعات وتقدمها يرجع إلى وجود نظام تعليمي جيد قادر على توفير كوادر علمية في كافة التخصصات، مما يساعد على النمو الاجتماعي والاقتصادي وكذلك السياسي للمجتمعات. وفي ظل الاقتصاد المتهاوي لكثير من الدول الإسلامية فإن الإنفاق على التعليم يأتي في مستويات متأخرة إلى حد ما. ولذلك يجب على المؤسسات الاقتصادية ورجال الأعمال والتجار المشاركة في تطوير التعليم في هذه الدول من خلال الوقف على مؤسسات التعليم الدعوي والفني والتقني مما يعود بالنفع على مؤسساتهم وعلى المجتمع بصفة عامة.
المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=41
أحدث التعليقات