أسس وتطبيقات العمل الخيري عند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه 1/2
الكاتب : الهيثم زعفان
رحم الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مجدد الأمة، والحاكم العادل الذي شهدت الأرض في عهده عدلاً وبركة لم تشهده بعده.
في سيرته العطرة نماذج خيرية عديدة تدلل على صفاء الرجل وعظمته، وفي إدارته الشرعية للأحوال الاجتماعية للمسلمين نبراساً لكل حاكم ينشد الرفاهية الاجتماعية للرعية التي يحكمها.
والمتأمل للإدارة الاجتماعية في حياة الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، يجد أن هناك مسلمات عقدية يقينية رسخت في وجدانه رضي الله عنه وعليها وبها بنيت الأسس العامة لإدارته الاجتماعية لأحوال واحتياجات المسلمين.
كما أن في تطبيقاته العملية للبذل والعطاء وفعل الخيرات سواء بصفته الشخصية أو بصفته الرسمية تدليل وتعظيم لمعني العبودية والتجرد لله سبحانه وتعالى أثناء عمل الخير، وبالتالي فإن في الواقع البذلي لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تربية عملية للحاكم والمحكوم.
وبدورنا البحثي سنحاول على مدار مقالين مختصرين أن نلامس أسس وقواعد العمل الخيري عند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكذلك شذرات من تطبيقاته العملية في العمل الخيري.
نسبه رضي الله عنه:
هو عمر بن عبد العزيز ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب.
أمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ولد سنة ثلاث وستين من الهجرة.
فلسفته رضي الله عنه في البذل والإنفاق:
كان لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فلسفة خاصة في البذل والإنفاق،
فلسفة تستمد نبعها من الشريعة الإسلامية والعقيدة الصافية، وتظهر جلياً من خلال كلماته المأثورة رضي الله عنه، فعن جزيم أبو محمد بن العابد، أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: “ما أعطيت أحداً مالاً وأنا أستقله، وإني لأستحي من الله عز وجل أن أسأل الجنة لأخ من أخواني، وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنة بيدك، كنت بها أبخل” فهذه هي فلسفة البذل والعطاء عنده رضي الله عنه فهو يقدر العطية ويعرف قدر العاطي.
المال الحلال شرط العطاء عند عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه
حرص عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على أن يكون إطعام المسلمين وإشباع احتياجاتهم من المال الحال الحلال، وذلك لعلمه اليقيني بالحجاب الذي يصنعه المال الحرام بين العبد وربه، وعلى هذا الأساس العقدي ينبغي أن تكون كافة الأموال السائرة في دائرة العمل الخيري الإسلامي فالله طيب لا يقبل إلا طيبا فعن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } ( المؤمنون : 51 )، وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ( البقرة : 172 ) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذّي بالحرام، فأنّى يُستجاب له ؟ ) رواه مسلم.
ويظهر هذا الأساس عند عمر بن عبد العزيز في مواقف عديدة فعن نصر بن عدي قال: كتب ميمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يستعفيه من الخراج، فكتب إليه عمر رضي الله عنه:
” يا ابن مهران إني لم أكلفك بغياً في حكمك ولا في جبايتك، فاجب ما جبيت من الحلال ولا تجمع للمسلمين إلا الحلال الطيب”
إحياؤه لسنة العطاء
من الأمور التي أحياها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في سياسته الاجتماعية سنة العطاء الإسلامي، والتي كانت موجودة في عهد الخلفاء الراشدين حتى عهد معاوية رضي الله عنهم ثم بغي عليها بعد ذلك، واقتصر العطاء على بعض المقربين من الأمراء، فضلاً عن مضاعفة مرتبات بني أمية. لكن لما تولى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخلافة أمر بعودة تلك السنة، حيث قال رضي الله عنه:
” إنه لا يحل لكم أن تأخذوا لموتاكم فارفعوهم إلينا واكتبوا لنا كل منفوس نفرض له”.
وفي رواية أخرجها ابن سعد من خبر أبي بكر بن حزم قال: “كنا نخرج ديوان أهل السجون فيخرجون إلى أعطياتهم بكتاب عمر بن عبد العزيز، وكتب إليّ: من كان غائباً قريب الغيبة فأعط أهل ديوانه، ومن كان منقطع الغيبة، فأعزل عطاه إلى أن يقدم أو يأتي نعيه، أو يوكل عندك بوكالة ببينة على حياته فادفعه إلى وكيله”. وقد شمل العطاء جميع المسلمين في الدول الإسلامية.
الحفاظ على أموال المسلمين
أموال المسلمين بصفة عامة أمانة في أعناق من يستأمنهم الله عليها.
وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه شديد الحساسية والورع نحو كل ذرة تخص المسلمين، ولو سار كل راع على نفس وتيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في الحفاظ على أموال المسلمين سينصلح بإذن الله حال الأمة الإسلامية وسيعمها الرخاء والازدهار بإذن ربها.
وعن هذا الأساس العقدي في الحساسية والورع نحو أموال المسلمين عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، سمعت جدي: أبا شعيب عبد الله بن مسلم، عن أبيه قال دخلت على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وعنده كاتب يكتب قال: وشمعة تزدهر، وهو ينظر في أمور المسلمين، قال: فخرج الرجل، فأطفئت الشمعة وجئ بسراج إلى عمر فدنوت منه فرأيت عليه قميصاً فيه رقعة قد طيق ما بين كتفيه، قال فنظر في أمري”.
وعن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كانت له الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأها، ثم أسرج عليه سراجه. وهكذا تحري حاكم المسلمين يمتد لضوء شمعة المسلمين، لأنه لو أشعلها في الحوائج الخاصة لن يجد الحجة التي سيواجه بها ربه إذا سأله عنها يوم الحساب يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وأمر الشمعة ليس منفرداً فقد كان الورع في أموال المسلمين أساس عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وديدن لكل تصرفاته، وعلى قدر سخاؤه وكرمه في أعطيته للمسلمين وأصحاب الحاجات كان حرصه على أموالهم، فعن يحيى بن أبي غنية عن حفص بن عمر بن أبي الزبير قال كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى أبي بكر بن حزم “أن أدق قلمك وقارب بين أسطرك فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به”. رحمك الله يا أمير المؤمنين.
وعلي الرغم من الاختيارات الدقيقة لعمال أمير المؤمنين المتحرى فيها الدين والأمانة، فإن ذلك لم يمنعه من اتهام أحدهم بالتقصير إذا ضاع شئ من أموال المسلمين خطأً، فعن يحي بن حسان عن نعيم بن ميسرة النحوي،عن عنبسة بن غصن قال: كان وهب بن منبه على بيت مال اليمن، قال: فكتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:” إني فقدت من بيت مال المسلمين ديناراً” قال: فكتب إليه:” إني لا أتهم دينك ولا أمانتك، ولكن اتهم تضييعك وتفريطك، وأنا حجيج المسلمين في أموالهم، ولأخسهم عليك أن تحلف. والسلام “
وهناك قصة حدثت في بيت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تضيف إلى ما سبق من علو حسه وورعه المرهف نحو أموال المسلمين؛ فعن رياح بن عبيدة قال: كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يعجبه أن يتأدم بالعسل فطلب من أهله يوماً عسلاً فلم يكن عنده، فأتوه بعد ذلك بعسل فأكل منه فأعجبه فقال لأهله: من أين لكم هذا قالت امرأته: بعثت مولاي بدينارين على بغل البريد فاشتراه لي من بعلبك، فقال: أقسمت عليك لما أتيتني به، فأتته بعكة فيها عسل، فباعها بثمن يزيد ورد عليها رأس المال، وألقى بقيته في بيت مال المسلمين وقال: نصبت دواب المسلمين في شهوة عمر”.
وفي رواية أخري” أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أمر الرجل الذي اشتراه بأن ينطلق بالعسل إلى السوق، وقال له بعه واردد إلينا رأس مالنا وانظر إلى الفضل واجعله في بيت مال المسلمين علف دواب البريد، ولو ينفع المسلمين قيئي لتقيأت”.
الأولويات في الصدقات عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
الأولويات واضحة في السياسة الاجتماعية لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فالأكباد الجائعة عنده مقدمة على أي شئ حتى البيت الحرام، فعن ميسر بن أبي الفرات، قال: كتبت الحجبة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يأمر للبيت الحرام بكسوة كما كان يفعل من كان قبله، فكتب إليهم: إني رأيت أن أجعل ذلك في أكباد جائعة فإنه أولى بذلك من البيت” ..
إغناؤه المحتاجين عن المسألة
عبرت سياسة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن نهج يصبو إلى إغناء كافة المحتاجين عن المسألة، فعن يحي بن حمزة، عن زيد بن وافد، أن ابن جحذم حدثه أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعثه على صدقات بني تغلب، وكان عهد إليهم أن يقبضها ثم يردها على فقرائهم، قال فكتب:
” آتي الحي وادعوهم بأموالهم، فاقبض ما كان فيهم ثم أدعو فقرائهم واقسمها فيهم، حتى أنه ليصيب الرجل الفريضتين أو الثلاث، فما أفارق الحي وفيهم فقير، ثم آتي الحي الآخر فاصنع بهم كذلك فما انصرف إليه بدرهم “
كما حرص عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على مباشرة أحوال المساكين والفقراء بنفسه وهذا أساس آخر في سياسته الاجتماعية عماده المتابعة والرحمة بأحوال المسلمين، فقد قدم على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعض أهل المدينة فجعل يسألهم عن أهل المدينة: فقال: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه يا أمير المؤمنين، قال: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه وأغناهم الله. قال: وكان من أولئك المساكين من يبيع الخبط( وهو نوع من أوراق الشجر تأكله الإبل) للمسافرين، فالتمس ذلك منهم بعد، فقالوا: قد أغنانا الله عن بيعه بما يعطينا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه”.
وهكذا فعل العطاء الإسلامي بفقراء المسلمين الذين يعملون في مهن هامشية وصعبة. وما أكثر الفقراء الذين يعملون في مثل هذه المهن الآن من بيع علب الكبريت والمناديل الورقية وغير ذلك من مآسي وأحوال يندى لها الجبين.
السرعة في العطاء لفقراء المسلمين
اهتم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بأن يصل حق الفقراء سريعاً وبفاعلية دون تأخير أو تسويف وذلك فور وصول الاستحقاقات إلى بيت مال المسلمين، يبن ذلك ما رواه أشهب عن مالك قوله: لما ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخلافة كتب إليه بعض ولاته:
” أن الناس لما سمعوا بولايتك، تسارعوا إلى أداء الزكاة، زكاة الفطر، فقد اجتمع من ذلك شئ كثير، ولم أحب أن أحدث فيها شيئاً حتى تكتب إلى برأيك”
فكتب إليه عمر: ” لعمري، ما وجدوني وإياك على ما ظنوا، وما حبسك إياها إلى اليوم، فأخرجها حين تنظر في كتابي”.
وهكذا كان سمت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في كتاباته لعماله بسرعة إنجاز الأمر وعدم تسويفه.
المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=22
أحدث التعليقات