يظل العمل الخيري الإسلامي في الدرجة الثانية بعد العمل الخيري الإنساني العالمي، والمشكلة لا تكمن في العمل الخيري الإسلامي نفسه بقدر ما تكمن في تفعيل أو تسويق- إن صح التعبير- ذلك العمل عالميا، والمجاهدة في أن تظهر بصمات هذا العمل الرائد على مستوى دول وشعوب العالم بأسره..
ولا ننكر أنه أتت علينا سنوات عجاف بدأت بأحداث الحادي عشر من سبتمبر المعروفة لدى الجميع، أكلت ما قدمت سنون طويلة من الخير العميم قام به العمل الإسلامي في كل أرض طلعت أو غربت عليها شمس الدنيا تقريبا..
فقد كنا نفخر بان عملنا الخيري الإسلامي هو الرائد، وليس له وسيلة دنيئة مثل العمل الآخر الذي يسعى إلى إخراج الناس من دين الله إلى دين البشر وأهوائهم وشهواتهم ورذائلهم..
ومن مميزات العمل الخيري الإسلامي أنه كان يبتغي وجه الله الكريم، وبحق الإخوة الإيمانية أولا ثم الإخوة الإنسانية ثانيا، كان ينطلق، فهو يطعم الجائع والبائس الفقير، ويكسو العاري ويداوي المريض والجريح الكسير، ويؤوي من لا مأوى له؛ جراء حروب وكوراث وفيضانات وحرائق وزالزل وأعاصير، لا ليخرج الناس من النور إلى الظلمات- كما تفعل أعمال الإغاثات الاخرى- بل ليقول إن ديننا الحنيف يحترم إنسانية الإنسان ويفعل هذا كله من أجل تلك الانسانية.
واستمر العمل الخيري الإسلامي نظيف اليد، طاهر الظاهر والباطن، لايسعى إلى مايسعى إليه العمل الآخر من دناسة الهدف ووضاعة الغاية، بل يسعى إلى الخير من أجل الخير، ويكرم الإنسان -أيا كان جنسه أو لونه أو بلده أو دينه- لأنه في النهاية هو المكرم من قبل ربه وخالقه الذي قال عنه:( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).. سورة الإسراء.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل تقهقر العمل الخيري؟
الإجابة عن هذا السؤال هي: نعم، ثم نعم ثم نعم..
ويعقب السؤال السابق سؤا ل آخر: لماذا هذا التقهقر؟
وفي رأيي أن التقهقر لا ترجع أسبابه إلى العامل المادي أو التمويلي فقط؛ لأن هذا العامل كان فارقه كبيرا بين العملين الإسلامي وغير الإسلامي، وكانت الأموال المرصودة للثاني من حكومات وهيئات ومؤسسات عالمية تفوق ما رصد للأول أضعافا مضاعفة، لكن كان يستعاض عن ذلك كله أن العمل الخيري الإسلامي يقوم عليه أناس محتسبون، جعلوا وقتهم وجهدهم لله تعالى، فكانت أموالهم – وأن بدت عليها القلة- قياسا بما للعمل الثاني- تغطي حاجات العمل، وتساهم كثيرا في استكمال صنع الدائرة الأخوية الإنسانية التي أهم مرتكزاتها التراحم والتوادد ، منطلقة من وصية رب العالمين لنا في قرآنه الكريم( وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة). سورة البلد.
كان ذلك كله في الوقت الذي كان القائمون على العمل الخيري الآخر ينسفون نصف ما يرصد لهم من ميزانيات لأنفسهم وحاجاتهم ورواتبهم ونثرياتهم، وشهواتهم الأخرى.. وكان الهدف الأكبر عندهم هو التنصير وحسب، وما كانت كسرة الخبز أو قارورة الدواء أو ثوب الكساء المقدم إلا وسيلة للهدف الخبيث الذي يسعون لتحقيقه وجاءوا من أجله وعاشوا بين الأدغال والأحراش والصحارى و البراري البعيدة.
تقهقر العمل الخيري أيضا بسبب هذا الحدث المزعج الذي أقام الدنيا ولم يقعدها إلى الآن، وأعني به حادث الحادي عشر من سبتمبر الذي شوه الصورة الإسلامية الناصعة البياض، وأحالها في عقول وفكر الكثير إلى صورة حمراء ملطخة بالدماء؛ بعيدة كل البعد عن كل ما يدعو إليه دين الله تعالى من التسامح والود، وصيانة الأرواح وحفظ الدماء- وإن كانت غير مسلمة -إلا بحقها فقط.
تقهقر العمل الخيري الإسلامي بعد أن نجح مدبروا هذا الحادث المزعج- الحادي عشر من سبتمبر- في وقف امتداد العمل الخيري الإسلامي، بل ووقف مد العمل الدعوي الإسلامي كله في الغرب وفي أمريكا على وجه الخصوص، وإطلاق الشبهة المخيفة التي أصبحت شماعة لكل من يريد أن يتصدى لوقف مد العمل الخيري الإسلامي وهي شماعة الإرهاب ، وقد نجح القوم في ذلك تماما.. حتى بدا لكثير من القائمين على الأعمال الخيرية التخوف الشديد من رميهم بهذه التهمة، ولا أبالغ أن قلت إن كثيرا من هؤلاء صاروا متوجسين خيفة من الحديث عن العمل الخيري وما يقومون به لوسائل الإعلام خوفا وتحسبا أن تطولهم تلك الشبهة ولو من باب الظن البعيد.
تقهقر العمل الخيري الإسلامي ؛ لان جل الحكومات الإسلامية أصابها داء الخوف من تلك “الشبهة الطاعون”، او “الشبهة الإيدز”- بلغة العصر-فخاف من خاف على اسمه أولا، وعلى حكومته ثانيا، فبدأ العمل- وبسرعة- على تجفيف المنابع الخيرية، والحد من انتشار الأعمال الخيرية الإسلامية خارجيا وقصرها على الداخل فقط، وكان هذا سبب رئيس في تقهقر العمل الخيري الإسلامي وتوقف مده من كل مكان تقريبا من بلدان العالم، إلى بعض القرى والهجر التي يكفيها أهلها ما تريد داخليا، وتُرك مسلمو الأرض البائسون المعذبون المحتاجون الملهوفون لكسرة الخبر وقارورة العلاج وثوب الكساء، تركوا يمدون أيديهم للعون، ولا مسلم مجيب أو معين..في الوقت الذي لم يقبض التنصير يده عن تحقيق مآربه، بل بسطها كل البسط..
وبالطبع كان هذا كله يصب في مصلحة العمل الآخر الذي خلت له الساحة تماما من منافس قوي انتصر عليه في أراض كثيرة ، فعاد يسرح ويمرح دون أن يكشف لؤمه ودناسته أحد، أو يتصدى لفضحه وخزي عمله أحد، لأنه لم يوجد أحد يتهمه بشبهة الإرهاب كما اتهم العمل ا لخيري الإسلامي. وأصبح ينطبق عليه قول القائل:( خلا لكِ الجو فافرخي وبيضي)!!
وأما تفعيل عملنا الخيري الإسلامي عالميا فيكون بأمور منها:
أولا: طرح هذا الخوف القائل من تلك الشبهة التي أصابتنا في مقتل وهي شبهة الإرهاب، وصرنا نتحاشاها ونفر منها فرارنا من المجذوم ومريض الإيدز.
ثانيا: العمل على تحسين صورة الإسلام والمسلمين في الخارج بالتركيز على العمل الدعوي الخالص والصادق بأناس يحملون همه، ويؤثرونه على غيره من الهموم.
ثالثا: محاولة فتح تلك الجمعيات والمؤسسات الإسلامية الخيرية التي أوقفت في السابق بعد مراجعة أنظمتها وتصحيح الصورة السيئة التي شوهتها حتى تستطيع أن تقوم من جديد وتؤدي دورها الإسلامي الإنساني الخيري الرائد بصدق وشفافية وإخلاص.
رابعا: أن تقوم الحكومات الإسلامية -متمثلة في وزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية- بتفعيل هذا ا لعمل الخيري والتعاون مع الأفراد والمؤسسات التي كان لها باع كبير في العمل الخيري ونجحت في السابق لقيام عمل خيري رائد يسير على منوال الصدق والصراحة وقوة الانطلاق ووضوح الهد.
وبهذا يتم لنا تفويت الفرصة أمام المناوئين الذين يصدون العمل الخيري الإسلامي عن الانطلاق والامتداد.
خامسا: تصحيح النوايا واعتبار العمل الخيري الإسلامي جزءا لا يتجزأ من أصول ديننا الحنيف فيكون دفاعنا عنه وعن نشاطاته العديدة في كل محفل وكل مكان داخليا وخارجيا انطلاقا من قول ربنا الكريم( وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) سورة الحج.
وفي النهاية يجب أن نعلم أنه لن يقوم بتصحيح الصورة إلا نحن، ولن ننتظر حتى يقوم أهل التنصير من المناوئين والحاقدين والصادين عن سبل الخير أن يصححوا صورتنا وينشروا ديننا ويفرحوا بنشاطاتنا الخيرية.
وقديما قال الشافعي يرحمه الله:
ماحك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك
وإذا قصــــدت لحـاجـــة فاقصد لمعترف لفضلك
ولا أعتقد أن القوم سيعرفون فضلنا إلا بعد أن نقوم على أمرنا بأنفسنا، ونضع بصمتنا واضحة على كل أعمالنا الخيرية في كل أرجاء العالم في مشارق الدنيا ومغاربها، يعضدنا في ذلك تاريخ 14 قرنا من الزمان في العمل الخيري الإسلامي، وتجارب ثرية كانت- ولاتزال- تضيء لنا الطريق وترسم لنا الخارطة في العطاء، وتحثنا على أن نكون دائما اليد العليا، وليست اليد السفلى، وألا نهن أو نحزن، لأننا الأعلون ؛ إن كنا مؤمنين بحق وصدق ويقين بما نعتقده ونحيا ونموت من أجله وهو دعوة ربنا تبارك وتعالى( وافعلوا الخير لعلكم تفلحون)..
المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=1
أحدث التعليقات