التعبد بفعل الخيرات عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
الكاتب : الهيثم زعفان
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما صحابي جليل، حُبِبَ إليه فعل الخيرات، فوجد متعته في العطف والإحسان على الفقراء والمساكين وعتق الرقاب، واتخذ من ذلك عبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى.
والمتأمل لسيرته الخيرية يلحظ كيف أن فعل الخيرات عبادة عملية تحتاج إلى تهذيب النفس، وتدريبها على المجاهدة لبذل المحبوب إليها في سبيل تحصيل طاعة الله سبحانه وتعالي. وهذه المقالة المختصرة ستحاول تقديم ذلك النموذج العملي التربوي لهذا الصحابي الخير، والذي قد يفيد كثيراً في تنشئة الأبناء وتعويدهم على إنفاق وبذل ما يحبون حتى ولو كان بهم خصاصة. ليخرج لنا بإذن الله تعالى جيلاً معطاءً يشعر بالفقير والمسكين شعوره بنفسه، وهذا ما نحسب أنه تحقق في حياة بن عمر رضي الله عنهما وأسكنهما الفردوس الأعلى.
نسبه رضي الله عنه
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوى، ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولد سنة ثلاث من البعثة النبوية، وهو ممن بايع تحت الشجرة. وفي الشعب للبيهقي عن أبي سلمه بن عبد الرحمن قال: مات بن عمر وهو مثل عمر في الفضل. رضي الله عنهما ورحمهما.
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وحبه لإطعام الطعام
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مشهوراً عنه حب إطعام الفقراء والمساكين، وكان حريصاً أشد الحرص على أن يطعمهم مما يحب، ومن أفضل الطعام الموجود عنده، وفي ذلك امتثال لقوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) الإنسان آية 8. وكان إذا سُئل في ذلك يجيب بالتوجيه الرباني في قوله تعالى(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ) آل عمران الآية 92. وكان رضي الله عنه لا يرد سائلاً فعن أفلح بن كثير قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما “لا يرد سائلاً”.
لذا كان رضي الله عنه حريصاً على إطعام المساكين أكثر من حرصه علي نفسه، فعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يجمع أهل بيته على جفنة كل ليلةٍ، قال: فربما سمع بنداء مسكين، فيقوم إليه بنصيبه من اللحم والخبز، فإلى أن يدفعه إليه ويرجع يكونوا قد فرغوا مما في الجفنة، فإن كان أدرك فيها شيئاً فقد أدرك فيها، ثم يصبح صائماً.
وكذلك كان حاله مع اليتامى، فعن الحسن أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا تغدي أو تعشى دعا من حوله من اليتامى، فتغدى ذات يوم فأرسل إلى يتيم فلم يجده، وكانت له سويقة “مشروب” محلاة يشربها بعد غدائه، فجاء اليتيم وقد فرغوا من الغداء وبيده السويقة يشربها فناولها إياه وقال: خذها فما أراك غبنت.
وكان بن عمر رضي الله عنهما لا يشبع من طعام حتى يجد له آكلاً.
فعن معمر عن الزهري عن حمزة بن عبد الله قال لو أن طعاماً كثيراً كان عند أبي ما شبع منه بعد أن يجد له آكلاً، وقد عاده يوماً ابن مطيع فرآه قد نحل جسمه فكلمه فقال إنه ليأتي علي ثمان سنين ما أشبع فيها شبعة واحدة أو قال إلا شبعة، فالآن تريد أن أشبع حين لم يبق من عمري إلا القليل.
وقد أشفق بعضاً ممن حوله على ذلك وأنه يفوته الطعام بتقديمه الفقراء والمساكين على نفسه، فعاتبوا امرأته، فتصرفت له فأبطل التصرف.
فعن ميمون بن مهران أن امرأة ابن عمر عوتبت فيه فقيل لها: أما بلطفين بهذا الشيخ ؟! فقالت: فما أصنع به ؟! لا نصنع له طعاماً إلا دعا عليه من يأكله، فأرسلت إلى قومٍ من المساكين كانوا يجلسون بطريقهِ إذا خرج من المسجد فأطعمتهم وقالت لهم: لا تجلسوا بطريقه، ثم جاء إلى بيته. فقال: أرسلوا إلى فلان وإلى فلان، وكانت امرأته أرسلت إليهم بطعام وقالت: إن دعاكم فلا تأتوه، فلم يأتوا، فقال ابن عمر: أردتم أن لا أتعشى الليلة، فلم يتعشى تلك الليلة.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما في كرمه حريصاً على الفقير أكثر من حرصه على إكرام الغني وله حجته الشرعية البليغة في ذلك، فعن معن قال: كان ابن عمر إذا صنع طعاماً فمرَّ به رجل له هيئة لم يدعه ودعاه بنوه أو بنو أخيه، وإذا مرَّ إنسان مسكين دعاه هو ولم يدعوه هم. وقال: “يدعون من لا يشتهيه ولا يدعون من يشتهيه”. وكذلك حال الأمم إذا ضعف الدين وقل اليقين فيهتمون بالغني ويهملون الفقير، فليت الناس يراجعون أنفسهم في ضوء هذه التربية النورانية.
وقد كان بن عمر رضي الله عنهما حريصاً دوماً على الإنفاق مما يحب فعن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا اشتد عجبه بشيءٍ من ماله قربه لربه عز وجل. وعن سعيد بن أبي هلال أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نزل الجحفة وهو شاكٍ، فقال: إني لأشتهي حيتاناً، فالتمسوا له فلم يجدوا إلا حوتاً واحداً، فأخذته امرأته صفيةُ بنت أبي عبيد، فصنعته ثم قربته إليه فأتى مسكين حين وقف عليه فقال له ابن عمر: خذه. فقال أهله: سبحان الله! قد عنيتنا ومعنا زاد نعطيه. فقال: إن عبد الله يحبه.
كما روى البيهقي عن الأعمش وغيره عن نافع قال مرض ابن عمر فاشتهى عنباً فأرسلت امرأته بدرهم فاشترت به عنقوداً، فاتبع الرسول سائل فلما دخل قال السائل: السائل، فقال ابن عمر أعطوه إياه ثم بعثت بدرهم آخر قال فاتبعه السائل فلما دخل قال السائل: السائل، فقال ابن عمر أعطوه إياه فأعطوه، وأرسلت صفية إلى السائل تقول والله لئن عدت لا تصيب مني خيراً ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به.
وهكذا يكون حال من رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عطفهم وحبهم للفقراء، ورحمتهم بهم وتقربهم إلى الله من خلالهم.
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وشهرته في عتق الرقاب
ضرب بن عمر رضي الله عنهما أروع الأمثلة في عتق الرقاب حيث كثر عتقائه ونال شهرة عظيمة في ذلك، فبإسناد صحيح روى عمر بن محمد العمري عن نافع قال ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد. وفي كل حالة عتق له رضي الله عنه قصة تربوية مبهرة، تعلم الأمة كيف تكون معايير التقييم، وكيف ينظر أرباب الأعمال في أحوال عمالهم، وكيف تكون الرحمة بهم. قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: مر بن عمر براع فقال هل من جزرة، قال ليس هاهنا ربها، قال تقول له إن الذئب أكلها قال الراعي: فاتق الله! فاشترى بن عمر الراعي والغنم وأعتقه ووهبها له. وهذه الرواية أيضاً عند البيهقي من طريق زيد بن أسلم.
وقصة أخرى رويت من طريق عبد الله بن أبي عثمان قال: أعتق عبد الله بن عمر جارية له يقال لها رمثه كان يحبها وقال في ذلك سمعت الله تعالى يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.
وأخرج السراج في تاريخه وأبو نعيم من طريقه بسند صحيح عن ميمون بن مهران قال: مر أصحاب نجدة الحرورى بإبل لابن عمر فاستاقوها، فجاء الراعي فقال يا أبا عبد الرحمن احتسب الإبل وأخبره الخبر، قال فكيف تركوك قال انفلت منهم لأنك أحب إلي منهم، فاستحلفه فحلف، فقال إني أحتسبك معها فأعتقه، فقيل له بعد ذلك هل لك في ناقتك الفلانية تباع في السوق فأراد أن يذهب إليها، ثم قال قد كنت احتسبت الإبل فلأي معنى أطلب الناقة.
قال نافع: وكان رقيقهُ رضي الله عنه قد عرفوا أنه إذا اشتد عجبه بشيءٍ من ماله قربه لربه عز وجل، فربما شمر أحدهم فيلزم المسجد، فإذا رآه ابن عمر رضي الله عنهما على تلك الحالة الحسنة أعتقه. فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن والله ما بهم إلا أن يخدعوك، فيرد ابن عمر بعبارته الشهيرة: “فمن خدعنا بالله عز وجل انخدعنا له” .
وقال ابن شهاب عن سالم ما لعن ابن عمر خادماً له إلا مرة فأعتقه.
وعن عمر بن محمد بن زيد عن أبيه أن ابن عمر كاتب غلاماً له بأربعين ألفاً فخرج إلى الكوفة فكان يعمل على حمر له حتى أدى خمسة عشر ألفاً فجاءه إنسان فقال أمجنون أنت! أنت هاهنا تعذب نفسك وابن عمر يشتري الرقيق يميناً وشمالاً ثم يعتقهم، ارجع إليه فقل عجزت فجاء إليه بصحيفة فقال يا أبا عبد الرحمن قد عجزت وهذه صحيفتي فامحها، فقال لا ولكن امحها أنت إن شئت، فمحاها ففاضت عينا عبد الله وقال اذهب فأنت حر، قال أصلحك الله أحسن إلى ابني، قال هما حران، قال أصلحك الله أحسن إلى أمي ولدي قال هما حرتان. رواه ابن وهب عنه. وهكذا حال بن عمر في مواقفه مع العتق ما وصل إلينا منها، ونحسب أنه كذلك أيضاً فيما لم يصل إلينا.
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والإنفاق في سبيل الله
كان بن عمر رضي الله عنهما حريصاً على إنفاق أمواله في سبيل الله، ونحسب أنه كباقي الصحابة المحبب إليهم الإنفاق في الخفاء، وكما كانت لهم نفقاتهم السرية كانت لهم أيضاً نفقاتهم الخيرية المعلنة لتقتدي بهم الأمة ويتأسي بهم الأغنياء في إنفاقهم الخيري، وكذلك كان بن عمر رضي الله عنهما. يخبر أيوب بن وائل الراسبي أن ابن عمر رضي الله عنهما جاءه يوماً بأربعة آلاف درهم وقطيفة…وفي اليوم التالي، رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفاً نسيئة “أي دينا”… فذهب ابن وائل إلى أهل بيته وسألهم أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة آلاف، وقطيفة؟ قالوا: بلى، قال: فإني قد رأيته اليوم بالسوق يشتري علفاً لراحلته ولا يجد معه ثمنه..قالوا: إنه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعها، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره، فخرج.. ثم عاد وليست معه، فسألناه عنها؛ فقال: إنه وهبها لفقير. فخرج ابن وائل يضرب كفاً بكف، حتى أتى السوق فصاح في الناس:” يا معشر التجار..ما تصنعون بالدنيا، وهذا بن عمر يأتيه أربعة آلاف درهم فيوزعها، ثم يصبح فيستدين علفاً لراحلته”.
وعن نافع قال: باع ابن عمر رضي الله عنهما أرضاً له بمائتي ناقةٍ، فحمل على مئةٍ منها في سبيل الله، واشترط على أصحابها أن لا يبيعوا حتى يجاوزوا بها وادي القرى.
وعن نافع أيضاً عن ابن عمر: أنه كان لا يعجبه شيء من ماله إلا أخرج منه لله عز وجل، قال: وكان ربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفاً – قال: وأعطاه ابن عامر مرتين ثلاثين ألفاً، فقال: يا نافع إني أخاف أن تفتنني دراهم ابن عامر، أذهب فأنت حر. وكان لابد من اللحم شهراً إلا مسافراً أو في رمضان، قال: وكان يمكث الشهر لا يذوق فيه مُزعة لحمٍ. فسبحان الله! ينفق هذا الإنفاق ويهذب نفسه هذا التهذيب الزهدي.
وعن أيوب عن نافع قال بعث معاوية إلى ابن عمر بمائة ألف فما حال عليه الحول وعنده منها شيء.
ومع كل هذا الإنفاق منه رضي الله عنه إلا أنه لم يعظم إنفاقه في نفسه، بل كان يرى نفسه دوماً مقصراً وكذلك حال المتعبد بإنفاقه يخشي دوماً من عدم القبول ويجتهد في إنفاقه رجاء القبول من الله سبحانه وتعالى، وعلى ذلك ينبغي أن يكون سلوك المنفق في سبيل الله، فعن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه قال جاء سائل إلى ابن عمر فقال لابنه أعطه ديناراً فلما انصرف، قال له ابنه تقبل الله منك يا أبتاه، فقال لو علمت أن الله يقبل مني سجدة واحدة وصدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت، أتدري ممن يتقبل الله؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رحمك الله يا بن عمر وأسكنك الجنة مع المتقين.
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والوقف الخيري
لم يغب عن بال بن عمر الصدقة الجارية التي تمتد ثمرتها إليه بعد مماته، فيحصل الجزاء وهو في قبره، فنجده يحبس داره لذوي الحاجات من آل بيته وذريته.
قال الإمام البخاري رحمه الله: “وجعل ابن عمر نصيبه من دار عمر، سكنى لذوي الحاجات من آل عمر”. وروى بن سعد في طبقاته “أن ابن عمر جعل نصيبه من دار عمر سكنى لذوي الحاجات من آل عبد الله بن عمر … وتصـدق بداره محبوسة لا تباع ولا توهب “.
وهكذا نجد بن عمر ما ترك باباً من أبواب العمل الخيري إلا وطرقه ووضع عليه بصمته، بحب ولهفة وشوق، لا لسبب بعد توفيق الله عز وجل، إلا لفقهه رضي الله عنه بعبادة الإنفاق في سبيل الله، وأنها من المقربات إلى الله سبحانه وتعالى، فرحم الله بن عمر وجعلنا نسير على دربه، ومن قبله درب معلمه ومعلم البشرية محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحدث التعليقات