ذرية بعضها من بعض
الكاتب : الهيثم زعفان
من اللفتات الطيبة في السيرة البذلية للصحابة الكرام، أن يكون الصحابي الابن سائراًً على نفس درب أبيه الصحابي في البذل والجود والعطف على المساكين، فنجد العلماء ينسبون للأبناء صفة الجود والبذل مقرونين بآبائهم الفضلاء.
ومن هنا فإن هذا المقال يسلط الضوء على نموذجين من الصحابة، لأبوين وابنين أسخياء في بذلهم وعطائهم وهم العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه عبيد الله بن العباس، وكذا جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم أجمعين.
الباحث عن أعمال الصحابة الخيرية في كتب التاريخ والتراجم والسير، ينعم بمتعة الاستئناس بالسلوك البذلي لهؤلاء الأفذاذ، ففي قصصهم شحذ للهمم على الاقتداء بهم في البذل والعطاء. ونهجهم الإنفاقي يشكل منهاجاً تربوياً يعين على تنشئة جيل من الأبناء يتعبد بفعل الخيرات. ومن اللفتات الطيبة في السيرة البذلية للصحابة الكرام، أن يكون الصحابي الابن سائراً على نفس درب أبيه الصحابي في البذل والجود والعطف على المساكين، فنجد العلماء ينسبون للأبناء صفة الجود والبذل مقرونين بآبائهم الفضلاء. ومن هنا فإن هذا المقال يسلط الضوء على نموذجين من الصحابة، لأبوين وابنين أسخياء في بذلهم وعطائهم وهم العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه عبيد الله بن العباس، وكذا جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم أجمعين. ففي ذكرهم فائدة وتنبيه لأهمية توريث الآباء لقيمة الإنفاق الخيري. وذلك حتى يكون العمل الخيري ممتداً في الذرية، ويصاحب العائلة الشهرة بالخيرية، ليتحقق فيهم قول الله تعالى ” ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ”
آل عمران الآية 34.
أولاً : العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وولده عبيد الله رضي الله عنهما
العباس هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى مغيرة عن أبي رزين قال قيل للعباس أنت أكبر أو النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال هو أكبر وأنا ولدت قبله، – تأمل أدب وتواضع الصحابة الكرام- و العباس رضي الله عنه ضاع وهو صغير فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير فهي أول من كساه ذلك، ورغم الجاهلية إلا أنه كان في أمه وفيه خير، فقد كان إليه في الجاهلية السقاية والعمارة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظمه ويكرمه بعد إسلامه، وكان رضي الله عنه وصولاً لأرحام قريش، محسناً إليهم، ذا رأي سديد وعقل غزير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم له: “هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفاً، وأوصلها، وقال: هذا بقية آبائي”.
يقول عنه الزبير بن بكار كان للعباس ثوب لعاري بني هاشم، وجفنة لجائعهم، ومنظرة لجاهلهم، وكان يمنع الجار ويبذل المال ويعطي في النوائب.
وقد أعتق العباس رضي الله عنه سبعين عبداً.
وله قصة شهيرة في عام الرمادة، يقول الزبير بن بكار حدثنا ساعدة بن عبيد الله عن داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال استسقى عمر رضي الله عن عام الرمادة بالعباس فقال اللهم هذا عم نبيك نتوجه إليك به فاسقنا فما برحوا حتى سقاهم الله.
ومن أبناء العباس الذين حُبب إليهم فعل الخيرات وشابه أباه في بذله وعطائه،
عبيد الله بن العباس رضي الله عنهما والذي قال عنه بن سعد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه. وكان عظيم الكرم والجود، يضرب به المثل في السخاء، واستعمله علي بن أبي طالب على اليمن. يقول الزبير كان عبيد الله بن العباس رضي الله عنهما سخياً جواداً وكان ينحر ويذبح ويطعم في موضع المجزرة بالسوق بمكة.
فقد كان رضي الله عنه ينحر كل يوم جزوراً، فنهاه أخوه عبد الله، فلم ينته. ونحر كل يوم جزورين، وكان هو وأخوه عبد الله، رضي الله عنهما، إذا قدما المدينة أوسعهم عبد الله علماً، وأوسعهم عبيد الله طعاماً..
وله قصة مبهرة تدلل على عظم إنفاقه وعطاءه أوردها ابن الأثير في كتابه أسد الغابة في معرفة الصحابة يقول رحمه الله بعد أن أورد الإسناد ” أن عبيد الله بن العباس خرج في سفر له، ومعه مولى له، حتى إذا كان في الطريق، رفع لهما بيت أعرابي، قال: فقال لمولاه: لو أنا مضينا فنزلنا بهذا البيت وبتنا به?! قال: فمضى، “قال”: وكان عبيد الله رجلاً جميلاً جهيراً، فلما رآه الأعرابي أعظمه وقال لامرأته: لقد نزل بنا رجل شريف! وأنزله الأعرابي، ثم إن الإعرابي أتى امرأته فقال: هل من عشاء لضيفنا هذا? فقالت: لا، إلا هذه السويمة التي حياة ابنتك من لبنها: قال: لابد من ذبحها! قالت: أفتقتل ابنتك? قال: وإن! قال: ثم إنه أخذ الشاة والشفرة وجعل يقول:
يا جارتي لا توقظي البنيه إن توقظيها تنتحب عليه
وتنزع الشفرة من يديه
ثم ذبح الشاة، وهيأ منها طعاماً، ثم أتى به عبيد الله ومولاه، فعشاهما وعبيد الله يسمع كلام الأعرابي لامرأته ومحاورتهما، فلما أصبح عبيد الله قال لمولاه: هل معك شيء? قال: نعم خمسمائة دينار فضلت من نفقتنا. قال: ادفعها إلى الأعرابي. قال: سبحان الله! أتعطيه خمسمائة دينار وإنما ذبح لك شاة ثمنها خمسة دراهم? قال: ويحك! والله لهو أسخى منا وأجود، إنما أعطيناه بعض ما نملك، وجاد هو علينا وآثرنا على مهجة نفسه وولده. قال: فبلغ ذلك معاوية، فقال: لله درّ عبيد الله! من أي بيضة خرج? ومن أي عش درج?.
وقد توفي أيام يزيد بن معاوية. وكان موته بالمدينة، فرحم الله الأب والابن.
ثانياً : جعفر بن أبي طالب أبو المساكين وابنه عبد الله بن جعفر بحر الجود رضي الله عنهما
جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أخو علي بن أبي طالب، كنّاه الرسول صلى الله عليه وسلم بـ أبي المساكين..
كان أبو هريرة يقول إنه أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم وفي البخاري عنه قال كان جعفر خير الناس للمساكين وقال خالد الحذاء عن عكرمة سمعت أبا هريرة يقول ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب رواه الترمذي والنسائي وإسناده صحيح وروى البغوي من طريق المقبري عن أبي هريرة قال كان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم ويخدمونه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه أبا المساكين وقال له النبي صلى الله عليه وسلم أشبهت خلقي وخلقي رواه البخاري ومسلم من طريق حديث البراء.
عاش بضعا وثلاثين سنة -رضي الله عنه، وكان في حياته جواداً كريماً على الفقراء والمساكين فلما مات ذهب المساكين جميعهم يبكون أباهم.
قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ” رأيت جعفراً له جناحان في الجنة”. ومن أبنائه الذين ساروا على دربه في الإنفاق والبذل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، وهو أول مولود ولد في الإسلام بأرض الحبشة، وقدم مع أبيه المدينة، وبع أن استشهد أبوه يوم مؤتة كفله النبي -صلى الله عليه وسلم- ونشأ في حجره. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعبد الله عشر سنين.
وكان عبد الله كريماً جواداً حليماً، فكما كان أبوه يسمى “أبا المساكين” كان عبد الله يسمى “بحر الجود” وقال بن حبان كان يقال له “قطب السخاء”.
وقد حظي بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير ففي الحديث مر النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن جعفر وهو يلعب بالتراب فقال: اللهم بارك له في تجارته. وأخرج الدارقطني في الأفراد من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: جلب رجل من التجار سكراً إلى المدينة فكسد عليه، فبلغ عبد الله بن جعفر فأمر قهرمانه أن يشتريه ويُنهِبَهُ الناس .
وأخرج بن أبي الدنيا والخرائطي بسند حسن إلى محمد بن سيرين أن “دهقانا” من أهل السواد كلم عبد الله بن جعفر في أن يكلم علياً في حاجة، فكلمه فيها فقضاها، فبعث إليه الدهقان أربعين ألفاً، فقالوا أرسل بها الدهقان “فردها” عبد الله بن جعفر وقال إنا لا نبيع معروفاً.
وأخرج الطبري والبيهقي في الشعب من طريق بن إسحاق المالكي قال: وجه يزيد بن معاوية إلى عبد الله إلى عبد الله بن جعفر مالاً جليلاً هدية ففرقه بن جعفر في أهل المدينة ولم يدخل منزله منه شيئاً. وفي ذلك يقول عبيد الله بن قيس الرقيات:
وما كنت إلا كالأغر بن جعفر رأى المال لا يبقي فأبقى له ذكرا
وعن الأصمعي; أن امرأة أتت بدجاجة مسموطة، فقالت لابن جعفر: بأبي أنت! هذه الدجاجة كانت مثل بنتي، فآليت أن لا أدفنها إلا في أكرم موضع أقدر عليه; ولا والله ما في الأرض أكرم من بطنك. قال: خذوها منها، واحملوا إليها، فذكر أنواعا من العطاء، حتى قالت: بأبي أنت! إن الله لا يحب المسرفين.
رحم الله جعفر وابنه عبد الله، علموا أن اكتناز المال فناء له، وبقائه مرهون بإنفاقه في سبيل الله، فأنفقوا فخلد الله ذكرهما وطيب سيرتهما.
نسأل الله أن يكون هذين النموذجين العطرين للعباس وابنه، وجعفر وابنه رضي الله عنهم حافزاً للأسر المسلمة لتوارث الخيرية في ذريتها.
المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=11
أحدث التعليقات