الإنفاق في سبيل الله عند حكيم بن حزام وسعيد بن العاص رضي الله عنهما
الكاتب : الهيثم زعفان
هذا المقال يلامس الحياة الخيرية لصحابيين جليلين لهما مواقف نادرة في سجل الإنفاق، قل أن نجدها في مسيرة العمل الخيري، فأحدهما يعتبر أنه إذا أصبح ولم يجد ببابه صاحب حاجة فقد نزلت به مصيبة يسأل الله الأجر عليها، والآخر إذا قصده سائل وليس عنده شيء، قال: اكتب علي سجلاً بمسألتك إلى الميسرة.
نموذجان لهما أبعاد خاصة في النظرة العقدية للإنفاق، فالتوفيق إليه عندهما منحة وفرصة ذهبية للقرب من الله تعالى ينبغي ألا تضيع ولو بالإنفاق الآجل، وفقدان تلك الفرصة أو الحرمان منها في الأساس يعد مصيبة.
حكيم بن حزام وسعيد بن العاص رضي الله عنهما صحابيان قرشيان جليلان، حبب إليهما فعل الخيرات، فانفقا في سبيل الله، بجود وسخاء.
صحابيان لهما مواقف نادرة في سجل الإنفاق، قل أن نجدها في مسيرة العمل الخيري، ولا عجب فهما من الصحابة رضوان الله عليهم، ذلك الجيل الفريد الذي رباه ووضع أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمرء يعجب كثيراً وهو يتابع الحياة الخيرية لهذين الصحابيين، وذلك عندما نجد أحدهما يعتبر أنه إذا أصبح ولم يجد ببابه صاحب حاجة فقد نزلت به مصيبة يسأل الله الأجر عليها. ونجد الآخر إذا قصده سائل وليس عنده شيء، قال: اكتب علي سجلاً بمسألتك إلى الميسرة. ما هذه الروح العالية في النظر للإنفاق في سبيل الله، التي اتسع عندها مفهوم المصيبة ليشمل عدم التوفيق للإنفاق ولو ليوم واحد، وتلك الأخرى التي استحت أن ترد سائلاً، وهي لا تملك وكتبت حاجة السائل كدين، رغم أن الحرج الشرعي مرفوع عنها. إن هذه الأنفس ما فعلت ذلك إلا بعلمها اليقيني بعظم الثواب الرباني العائد من هذا الإنفاق المبارك. ذلك الإنفاق الذي سنحاول تلمس بعض أطيافه عند هذين الصحابيين الجليلين من خلال هذا المقال.
أولاً : حكيم بن حزام رضي الله عنه
نسبه رضي الله عنه
هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، القرشي الأسدي، ابن أخو السيدة خديجة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
ولد في الكعبة، وذلك أن أمه دخلت الكعبة في نسوة من قريش وهي حامل، فأخذها الطلق، فولدت حكيماً بها.
وعاش مائة وعشرين سنة، ستين سنة في الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، وتوفي سنة أربع وخمسين أيام معاوية.
وكان صديق النبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث وكان يوده ويحبه بعد البعثة، ولكنه تأخر إسلامه حتى أسلم عام الفتح. وثبت في السيرة وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، وكان من المؤلفة، وشهد حنيناً وأعطى من غنائمها مائة بعير ثم حسن إسلامه.
إنفاق حكيم بن حزام رضي الله عنه في سبيل الله
كان حكيم بن حزام رضي الله عنه خيراً في الجاهلية منفقاً في الإسلام، ففي الصحيحين أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما سلف من خير. رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم: قلت: فو الله لا أدع شيئاً صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإسلام مثله. وكان قد أعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بعير، ثم أعتق في الإسلام مائة رقبة وحمل على مائة بعير.
وقد أخرج الطبراني عن أبي حازم قال: ما كان بالمدينة أحد سمعنا به كان أكثر حملاً في سبيل الله من حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: لقد قدم أعرابيان المدينة يسألان من يحمل في سبيل الله فدُلا على حكيم بن حِزام فأتياه في أهله، فسألهما؛ ما يريدان؟ فأخبراه ما يريدان. فقال لهما: لا تعجلا حتى أخرج إليكما، وكان حكيم يلبس ثياباً يُؤتى بها من مصر كأنها الشِباك ثمنها أربعة دراهم، ويأخذ عصا في يده، ويخرج معه غلامان له؛ وكلما مرَّ بكُناسة أو قُمامة فرأى فيها خرقة تصلح في جَهَاز الإِبل التي يُحمل عليها في سبيل الله أخذها بطرف عصاه فنفضها ثم قال لغلاميه: أمسكا بسلعتكما في جَهازكما. فقال الأعرابيان أحدهما لصاحبه وهو يصنع ذلك: ويحك أنجُ بنا، فو الله ما عند هذا إلا لَقْط القِشَع. فقال له صاحبه: ويحك لا تعجل حتى ننظر. فخرج بهما إلى السوق فنظر إلى ناقتين سمينتين ، فابتاعهما وابتاع جَهازهما، ثم قال لغلاميه: رُمَّا بهذه الخرق ما ينبغي له المرمَّة من جَهازكما، ثم أوقرهما طعاماً وبُرَّاً وودكاً، وأعطاهما نفقة ثم أعطاهما الناقتين. قال: يقول أحدهما لصاحبه: والله ما رأيت من لاقط قِشَع خيراً من اليوم.
يقول مصعب بن ثابت “بلغني والله أن حكيم بن حزام حضر يوم عرفة ومعه مئة رقبة ومئة بدنة ومئة بقرة ومئة شاة فقال الكل لله”.
وقيل أنه رضي الله عنه حج في الإسلام، ومعه مائة بدنة قد جللها بالحبرة أهداها، ووقف بمائة وصيف بعرفة في أعناقهم أطواق الفضة منقوش فيها: عتقاء الله عن حكيم بن حزام وأهدى ألف شاة، وكان جواداً.
يقول حكيم رضي الله عنه عن نفسه: ” كنت تاجراً أخرج إلى اليمن وآتي الشام، فكنت أربح أرباحاً كثيرة فأعود على فقراء قومي، وابتعت بسوق عكاظ زيد بن حارثة لعمتي بست مئة درهم فلما تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته زيداً فأعتقه” ويضيف أيضاً عن نفسه رضي الله عنه ” ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة، إلا علمت أنها من المصائب التي أسأل الله الأجر عليها” فلننظر إلى عظم حبه لفعل الخيرات رضي الله عنه حتى أنه ليعتبر عدم طرق صاحب الحاجة لبيته كل صباح من المصائب التي يرجوا أجر الله عليها، فأين هذا النموذج الخير في زماننا الآن؟.
وقفه رضي الله عنه داراً له في سبيل الله والمساكين والرقاب
وأخرج الطبراني عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه باع داراً له من معاوية رضي الله عنه بستين ألفاً. فقالوا: غبنك والله معاوية، فقال: والله ما أخذتها في الجاهلية إلا بزقِّ خمر، أشهدكم أنها في سبيل الله، والمساكين، والرقاب؛ فأيُّنا المغبون. وفي رواية: بمائة ألف. قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين أحدهما حسن. وفي رواية أن ابن الزبير رضي الله عنهما قال له بعت مكرمة قريش، فقال ذهبت المكارم يا ابن أخي إلا التقوى، إني اشتريت بها داراً في الجنة، أشهدكم أني قد جعلتها لله.
حاله مع الدين
قال الوليد بن مسلم حدثنا شعبة قال “لما توفي الزبير لقي حكيم عبد الله بن الزبير فقال كم ترك أخي من الدين قال ألف ألف، قال علي خمس مئة ألف” وعن مصعب بن عبد الله عن أبيه قال ابن الزبير قتل أبي وترك ديناً كثيراً فأتيت حكيم بن حزام أستعين برأيه فوجدته يبيع بعيراً.
ثانياً : سعيد بن العاص رضي الله عنه
نسبه
هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي، وكنيته أبو عبد الرحمن، وأبو عثمان والأشدق، صحابي صغير مات النبي صلى الله عليه وسلم وله تسع سنين أو نحوها. وهو أحد أشراف قريش وأجوادها، وفصحائها الممدّحين، عاش في الفترة ما بين 2 ـ 59 هجرية.
وقد ولي الكوفة لعثمان بن عفان ما يقارب خمس سنين، وغزا طبرستان فافتتحها، ولما وقعت فتنة الخلافة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما اعتزل الفتنة، وأقام بمكة.
وكان معاوية رضي الله عنه يقدمه من بين رجالات قريش، وولاه المدينة سنة 42 هـ لأكثر من مرة مناوبة مع مروان بن الحكم.
إنفاقه في سبيل الله رضي الله عنه
الإنفاق الممزوج بالوفاء
استسقى سعيد بن العاص رضي الله عنه ذات يوم من دار من دور المدينة فسقوه، وبعد ذلك قام صاحب الدار بعرض الدار للبيع وذلك لأربعة آلاف دينار كانت عليه، فعلم سعيد بن العاص رضي الله عنه بهذا البيع فقال إن صاحب الدار له علينا ذماماً، وأدى الأربعة آلاف دينار عنه. فنعم وفاء الرجل وعطاؤه وكشفه كربة المكروب.
الإنفاق بالآجل
ومن فرط حبه رضي الله عنه في الإنفاق في سبيل الله نجد ابن عيينة يقول عنه: كان سعيد بن العاص رضي الله عنه إذا قصده سائل وليس عنده شيء، قال: اكتب علي سجلاً بمسألتك إلى الميسرة. فهو لا يضيع فرصة الظفر بقضاء حاجة السائل ويعلقها للميسرة، وليس هذا لشئ إلا لمعرفته رضي الله عنه بقيمة تلك الفرصة ونفاستها.
إطعام الطعام والإنفاق على الناس
وكان رضي الله عنه يجمع إخوانه كل جمعة فيصنع لهم الطعام، ويرسل إليهم بالجوائز، ويبعث إلى عيالهم بالبر الكثير. وكان يبعث مولى له إلى المسجد بالكوفة في كل ليلة جمعة ومعه الصرر فيها الدنانير، فيضعها بين يدي المصلين، فكان قد كثر المصلون بالمسجد بالكوفة في كل ليلة جمعة.
وقد أطعم رضي الله عنه الناس في سنة مجدبة حتى أنفق ما في بيت المال وأدان، فعزله معاوية رضي الله عنه لذلك.
الجزاء من جنس العمل
توفي سعيد بن العاص رضي الله عنه سنة تسع وخمسين، ولما حضرته الوفاة قال لبنيه: أيكم يقبل وصيتي? قال ابنه الأكبر: أنا يا أبي، قال: إن فيها وفاء ديني، قال: وما دينك? قال: ثمانون ألف دينار. قال: وفيم أخذتها? قال: يا بني في كريم سددت خلته، وفي رجل جاءني ودمه ينزوي في وجهه من الحياء، فبدأته بحاجته قبل أن يسألنيها. والجزاء من جنس العمل فكما وقف سعيد رضي الله عنه مع ذوي الحاجات ولو بالاستدانة، قيد الله له عند الوفاة ابنه ليسد عنه دينه الناتج عن مروءته وحبه للإنفاق، نضر الله وجه سعيد بن العاص رضي الله عنه يوم القيامة جزاء فعله الحسن النادر.
نموذجان لهما أبعاد خاصة في النظرة العقدية للإنفاق، فالتوفيق إليه عندهما منحة وفرصة ذهبية للقرب من الله تعالى ينبغي ألا تضيع، وفقدان تلك الفرصة أو الحرمان منها في الأساس يعد مصيبة.
وهذا أمر لا تبلغه إلا نفس عالية مدربة على الإنفاق في سبيل الله، ومستشعرة للذته وحلاوته، فحرصت على تكرراه والتفنن في آلياته وقنواته. نسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين للإنفاق في سبيله ويرزقهم قبوله ويذيقهم حلاوته ولذته.
المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=17
أحدث التعليقات