شهد القطاع المصرفي الموريتاني في الآونة الأخيرة الكثير من الإهتزازات البنيوية والتموقعات الإستراتيجية بفعل دخول لاعبين جدد وظهور ما يمكن اعتباره “طفرة ” فيما يسمى البنوك الإسلامية.
يجدر التذكير بأن المقصود هنا بالبنوك الإسلامية هي المصارف التي تعلن احترامها لمبادئ الشريعة في مجال المعاملات وتبتعد عن الربا أخذا أو عطاءًً. وتلتزم بأن ْ توفر لزبائنها خذمات مصرفية وصيغاً تمويلية خالية تماما من الشبهات أوالمحرمات الشرعية ويكون ذلك بشهادة مختصين في الرقابة الشرعية.
عمليا ً يمكن القول بأن هناك اتفاقا ً بين المختصين على مضمون التعريف أعلاه لمفهوم البنوك الإسلامية إلا أن تطبيق هذا المفهوم على الأرض في موريتانيا خصوصاً مازال يعاني من الغموض شيء من سوء الإستخدام نتيجة لعدم تدخل السلطات المختصة لإعطاء تعريف جامع مانع وأيضا ً بسب عدم الإلتزام بآليات واضحة للرقابة الشرعية في الواقع العملي. إلا أن الغموض المفاهيمي وغياب الإطار القانوني لم يمنعا من حصول طفرة في مؤسسات المالية الإسلامية لاسيما المصارف فقد ارتفع عدد المؤسسات المالية الإسلامية (مصارف-شركات تأمين تكافلي) من اثنتين فقط إلى ثماني مؤسسات في ظرف أقل من خمس سنوات، بالإضافة إلى عشرات النوافذ والوكالات في مجمل المصارف وشركات التأمين التقليدية، وقد تمكنت هذه المؤسسات الجديدة من حجز مكانة معتبرة لها في السوق المحلية. تاريخيا، يعود أول ظهور لمصطلح البنوك الاسلامية في موريتانيا إلى شهر سبتمبر من عام 1985 بإنشاء بنك البركة الموريتاني الاسلامي المعروف اختصارًا ب باميسْ من طرف مستثمرين سعوديين وبعض الخواص المحليين ولكن هذا البنك ما لبث أن ْ واجه العديد من المصاعب والمشكلات التسييرية أدت إلى انسحاب المستمرين الأجانب وحصول فتور ملحوظ في الحماس الداخلي للمصرفية الإسلامية تجلى في عدم افتتاح أية مصارف إسلامية أخرى خلال ال25 سنة الموالية لعام الإفتتاح رغم ظروف الإنفتاح الإقتصادي والتوسع الذي شهده النظام المصرفي الموريتاني. ومع مطلع الألفية بدأت من جديد محاولات خجولة لإدخال خدمات ومنتجات المالية الإسلامية في السوق المصرفي من خلال من خلال افتتاح نوافذ متخصصة(guichets spécialisés )وهي التجربة التي بدأت في بعض البنوك المحلية سنة 2000 وبلغت ذروتها في نهاية نفس العقد مع قيام بعض البنوك بتدشين شبكة وكالات متخصصة في المعاملات الإسلامية. لكن الحدث الأبرز بعد هدوء طويل في هذا القطاع كان بحصول مؤسسة تمويل إفريقيا( Africa Tamweel Holding ) على رخصة لفتح مصرف إسلامي في موريتانيا في شهر سبتمبر من عام 2011، لتليها في العام الموالي والأعوام الأربعة الأخيرة طفرة غير مسبوقة في “تراخيص “البنوك الإسلامية حتى وصل عددها إلى ثمانية8 أي أكثر من نصف البنوك العاملة حاليا في السوق المحلي. وقد قام البنك المركزي مؤخراً بسحب رخصة عمل بنكين إسلاميين لأسباب مختلفة يجمع بينها ضعف الأداء التسييري وهشاشة الملاءة المالية. هذا ورغم تباين وتشعب الأسباب التي أدت إلى سحب الترخيص من البنك الإسلامي الموريتاني والمرخص بِاسم Maurisbankإلا أن إفلاسه يعيد إلى الواجهة تساؤلات عديدة حول مكامِن الضعف والغموض الذي تعاني منه صناعة المصرفية الإسلامية في موريتانيا. ولا شك أن حظوظ هذه الصناعة المصرفية في النجاح المؤسسي ستبقى ضعيفة جداً طالما لا يوجد إطار قانوني منظم لها ولمعاملاتها ولآليات الرقابة عليها. إن كل المصارف العاملة اليوم في موريتانيا تحت مسمى ( بنوك إسلامية) إنما نالت ْ رخصة العمل على أساس أنها بنوك فقط دون اعتبار رسمي لخصوصيتها وهذا ما نتج عنه الغياب التام للهيئات الإشرافية القادرة على ضبط معاملات هذه البنوك الإسلامية وضمان التطبيق الحقيقي لكل مالتزمتْ به من مطابقة لمقتضيات الشرع والأخلاق الحميدة في مجالات المال والأعمال والتمويل والإدخار. في هذا السياق لا يخفى ما تشهده الصناعة المصرفية الإسلامية من أهمية على الصعيد الدولي ولهذا من الملاحظ أن دولاًً كثيرة أصدرت تشريعات خاصة بهذه الصناعة نذكر من بين تلك الدول على سبيل المثال لا الحصر دولة الإمارات العربية وسوريا و لبنان والبحرين وتونس والمملكة المغربية التي أصدرت في العام الماضي قانونا خاصاً بالبنوك الإسلامية تحت بند البنوك التشاركية. لقد أبــْـدتْ السلطات المورتانية أكثر من مرة نيتها في إصدار قانون خاص بالمؤسسات المالية الإسلامية حتى أنها جعلت حين اكتتاب الدفعة الأخيرة من المراقبين المصرفيين ضرورة توفُّرهم على إلمام بالبنوك الإسلامية. لكن؛ بغض النظر عن بوادر استعداد أو تهيؤ السلطات الموريتانية لضبط وحوكمة هذه البنوك الإسلامية شرعيا وفنياًً، فإن الأمر في المقام الأول يبقى مسئولية في عاتق القائمين على هذه المؤسسات الذين يتعين عليهم إقامة هيئات شرعية فعالة تكون قادرة على القيام بدورها الرقابي باستقلالية وبكل مهنية حيث يجب أن يتوفر أعضاء الهيئات الشرعية ليس فقط على مستوى معرفي بفقه المعاملات وإنما أيضاً بالقدرة على التحليل القانوني والتشخيص والفهم السليم لطبيعة العقود والمعاملات المصرفية والمالية التي تعرض عليهم، ومن بعد ذلك القيام بإصدار تقارير دورية منتظمة عن مستوى المطابقة الشرعية في المعاملات بكل شفافية واحترام للمناهج والنظم المعمول بها في هذا المجال. إنه بسبب غياب الإطار القانوني الملزم اعتادت البنوك الإسلامية في موريتانيا الإكتفاء باللجوء إلى مشايخ أو شخصيات معروفة مشهود لها بالعلم للحصول على فتوى تفيد نظرياًً شرعية معاملاتها دون أن تكون ملزمة للقيام برقابة حقيقية على تنفيذ مقتضى تلك الفتوى في الواقع العملي بل حتى إن تحقيق المناط في تلك الفتوى قد يعتريه بعض النقص بسبب الالتفاف أحياناً على بعض العبارات أو الألفاظ أو بسبب عدم فهم بعض المشايخ للمضامين الإقتصادية والمالية الواجب أخذها بالإعتبار لاكتمال التصور قبل تنزيل الحكم الشرعي. كل هذه الأمور جعلت وظيفة الرقابة الشرعية المستقلة والمهنية شبه غائبة في بلادنا بينما وصلت مهنة الرقابة والتدقيق الشرعي في العالم إلى مستوى متقدم من التنظيم من خلال معايير المؤسسات الإشرافية الدولية مثل مجلس الخدمات المالية بماليزيا وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية. إن استمرار مثل هذه الوضعية يعرض هذه المؤسسات للخطر بل قد يجعلها تختفي فالاستخدام الصوري للمعاملات الإسلامية يضر بصورة المصرفية الإسلامية ويهدد مستقبلها. ذلك لأن غياب الإطار القانوني وتأخير جهود البنك المركزي على صعيد وضع آليات للرقابة الشرعية قد يجعل مفهوم البنوك الإسلامية معرّضاًً للإدعاءات والتلاعب التسويقي مما قد يؤدي الى نسف الثقة والمصداقية في تلك البنوك ومشروعيتها هذا مع العلم أن غياب المطابقة الشرعية بشكل مهني وشفاف كان أحد أهم الأسباب التي أدت “إفلاس” بنوك إسلامية في بلادنا والعالم.
– الأستاذ محمد بشير ولد ساس، أستاذ القانون الإسلامي بجامعة ستراسبورغ
– خالد ولد أحمدو، باحث في المالية الإسلامية، مدير مركز المشورة للدراسات
أحدث التعليقات