الرقابة الشرعية أضحت بالفعل فناً علمياً له أصوله وآلياته وفنياته المتداخلة فيما بين مبادئ التدقيق المتعارف عليها والمتطلبات الشرعية، وهي في مُجمل مضامينها تنطلق بالضرورة من أصول القواعد والضوابط الشرعية. وكذلك تعتبر أساليب الرقابة الشرعية بمثابة المُحدِّد الرئيسي للإطار العام للخطط التنظيمية والآليات المُنتهجة في عملية التدقيق، وبما يُعزِّز من قدرة إدارة المؤسسة على اتخاذ القرارات الكفيلة بحماية أصولها ومجابهة مختلف المخاطر والتحديات.
ويعد جهاز الرقابة الشرعية أحد أهم الأجهزة في المؤسسات المالية التي تقدم خدمات إسلامية؛ ذلك أن دعوى المصرف أو أي مؤسسة مالية بأن خدماته متوافقة مع الشريعة الإسلامية لا تكون مقبولة إذا لم تكن مصدقة بالجهاز الرقابي لديه. ودفعاً للتلاعب في هذه القضية فإن من السياسة الشرعية منع أي مؤسسة مالية من تقديم خدمات إسلامية ما لم يكن لديها هيئة رقابة شرعية.وأنشطة الرقابة الشرعية هي بمثابة الروح من جسد المؤسسات المالية الإسلامية، وإزاء ذلك فهي بحاجة إلى تطوير نفسها وكيانها كي تقوى على مواكبة تطور المؤسسات المالية الإسلامية،فترشد عملها شرعيًا، وتراقب أعمالها المتشعبة المختلفة ميدانيًا، فما لم يكن جهاز الرقابة الشرعية ذو جودة عالية وعلى قدر من الكفاءة والقدرة والاستيعاب والتماسك والجدية ومن ثم فإن المؤسسات لن تؤدي الدور الذي يمثل الاقتصاد الإسلامي الصافي من الكدر، كما أنه إلى جانب حاجة هيئات الرقابة الشرعية إلى تطوير ذاتها، هي بحاجة أكبر إلى تطوير آليات عملها،، فيجب أن تتعدد آليات الرقابة والمتابعة وتتطور لتواكب الواقع والمستجدات، وهذا هو المدخل إلى الجودة الشرعية والتي هي مطلب شرعي.وبنا ء عليه فإن الجودة مطلب شرعي في كل عمل يقوم به الإنسان سواء في سلوكه أم في حياته العامة أو في معاملاته التجارية ونشاطه الاقتصادي. ولذلك فإن الأخذ بمعايير الجودة وتبني معايير عالية للأداء ومستويات مرتفعة للإنتاجية والحرص على إيجاد العلاقات الممتازة بين المؤسسة وعملائها أمر محمود ومطلب يدخل ضمن هدف الإتقان الذي هو من صميم الدين.
وقد عرفت هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية الرقابة الشرعية بأنها: “جهاز مستقل من الفقهاء المتخصصين في فقه المعاملات، ويجوز أن يكون أحد الأعضاء من غير الفقهاء على أن يكون من المتخصصين في مجال المؤسسات المالية الإسلامية وله إلمام بفقه المعاملات، ويعهد لهيئة الرقابة توجيه نشاطات المؤسسة ومراقبتها والإشراف عليها للتأكد من التزامها بأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، وتكون فتواها وقراراتها ملزمة للمؤسسة”. وجاء في معيار الضبط للمؤسسات المالية الإسلامية المعيار رقم (2) بأنها عبارة عن فحص مدى التزام المؤسسة بالشريعة في جميع أنشطتها، ويمثل الفحص العقود، والاتفاقيات، والسياسات، والمنتجات، والمعاملات، وعقود التأسيس، والنظم الأساسية،والقوائم المالية، والتقارير وخاصة تقارير المراجعة الداخلية وتقارير عمليات التفتيش التي يقوم بها البنك المركزي، والتعاميم…. الخ.
وخلاصة القول أن الرقابة الشرعية تعني: التأكد من مدى مطابقة أعمال المؤسسة المالية الإسلامية لأحكام الشريعة الإسلامية حسب الفتاوى الصادرة والقرارات المعتمدة من جهة الفتوى. وتهدف الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية بالدرجة الأولى إلى التأكد من أن الأنشطة التي تقوم بها المؤسسة لا تخالف الشريعة الإسلامية، ويتطلب تحقيق هذا الهدف أن تكون الشريعة ملزمة للمؤسسة.
وتتعدد أشكال الرقابة الشرعية وتختلف من بلد لآخر، بل وحتى من مصرف لآخر، وذلك بسبب حداثة تجربة المصارف الإسلامية عموماً، والرقابة الشرعية على الخصوص،وتبعاً لدرجة قناعة الإدارات والمسؤولين في المصارف بأهميتها وبدورها، ولذلك نجد أن منهم من اكتفى بمراقب شرعي يعول عليه بكل النواحي الشرعية، ومنهم من يصرح بحاجته إلى جهاز شرعي متكامل للقيام بهذا الغرض.
وتتحدد مهام هيئة الرقابة الشرعية في نوعين من المهام:
الأولى: مهام معنوية تتمثل في اطمئنان العملاء إلى مشروعية كافة الأعمال التى تقدمها المؤسسات المالية الإسلامية، وتحرص البنوك على تعيين المشتهرين من أهل العلم والحائزين على الثقة لدى جمهور الناس لزيادة الاطمئنان لديهم.
الثانية: مهام عملية متمثلة في أمور ثلاثة:
الأول: مهمة الإفتاء الشرعي فيما يعرض عليها من عقود وأعمال أو وضع عقود أخرى أو إعادة صياغتها، وتعتبر هذه المهمة هي جوهر عمل الهيئة وأصل وجودها، وتقوم الهيئة بنشر فتاويها تلك للجمهور.
الثاني: مهمة استشارية إذ تقوم بدور المستشار الشرعي قبل ممارسة أي عمل.
الثالث: مهمة إدارية إذ تطالب بتقديم تقارير دورية لكل من مجلس الإدارة وللجمعية العمومية لتأكيد مطابقة الأعمال للشريعة الإسلامية لكل من الجهتين.
الرابع: مهمة رقابية فعليها التدقيق في كل الأعمال، وإعطاء التعليمات التصحيحية بالنسبة لما لا يتطابق معها.
وتعتبر أنشطة الرقابة الشرعية على درجة عالية من الجودة إذا كانت تؤدي إلى تحقيق الأهداف التي أنشأت من أجلها وتلبى رغبات قطاع معين من العملاء.فالمتعاملون في السوق الإسلامي یتخیرون الجهات الأعلى تصنیفاً من الجانب الشرعي حتى یتجنبوا المؤسسات ضعیفة الكفاءة الشرعیة من ناحیة التطبیق، وبالتالي یحفظوا أموالهم وأموال المستثمرین من الوقوع في أي معاملة بها شبهة الخطأ.
ومن وجهة نظر تقنية فإن الجودة هي عبارة عن مجموعة من شروط ومواصفات تحدد مدى ملائمة الهيئة الشرعية لكي تقوم بأداء الوظيفة المطلوبة منها. فالمواصفات تعتبر المحدد الأساسي لجودة أنشطة الرقابة الشرعية بحيث تعبر عن الخصائص المطلوبة في الرقابة الشرعية لكي تؤدي الغرض التي أنشأت من أجله والمرجو منها.
ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بوجود متطلبات معينة ومتابعة تحقيقها والتدخل لإصلاح أي انحراف أو حدوث عيوب في أنشطة الرقابة الشرعية. ومنه تُعرَّف ضبط جودة الرقابة الشرعية بأنها مجموعة الأنشطة والجهود التي يبذلها جميع العاملين والتي تسمح بتحقيق المستويات القياسية للجودة. فليس المقصود من ضبط الجودة تحقيق رغبات جميع العملاء وأصحاب المصالح، بل وفائها بمتطلبات الشرع وطمأنة العملاء من شرعية المعاملات والمنتجات وأن تكون الهيئة بدرجة الجودة المطلوبة حتى تؤدي وظيفتها على الوجه الأكمل.
ويجدر القول بأن نقاط التدخل لضبط جودة أنشطة الرقابة الشرعية تشمل؛ المواصفات: وهذا بتحديد الخواص المهمة لأعضاء وانشطة الرقابة الشرعية الملبية للهدف التي أنشأت من اجله.
التصميم: وهذا بتصميم الأطر التي تسمح بمزاولة أنشطة الرقابة الشرعية واعضائها بممارسة عملها حسب المواصفات. فكل إضافات (تحسينات) قد تكون مضيعة للوقت والمال.
مرحلة النشاط: وهى قيام الرقابة الشرعية بدورها حسب المواصفات.
التفتيش عن الجودة: للتأكد من مطابقة أنشطة الرقابة الشرعية مع المواصفات وتصحيح المشاكل.
مراجعة المواصفات: وهذا يقصد به مواكبة التطور في رغبات العملاء من جهة والمنتجات والأدوات المالية الحديثة ومدى شرعيتها.
ويمكن القول بأن الضبط المتكامل للجودة في أنشطة الرقابة الشرعية هو عبارة عن نظام شامل ومتكامل بواسطته يمكن تجميع عمل الوحدات المختلفة داخل الرقابة الشرعية والتي تعمل في مجالات الفتوى والتدقيق والمراجعة وغيرها من أنشطة الرقابة الشرعية وتحسينها لضمان شرعية المعاملات وتحديثها وبأقل التكاليف.
وتوكيد الجودة الشرعية يقصد منه جميع الأنشطة والإجراءات التخطيطية والتنظيمية اللازمة لإكساب الثقة الكافية بأن المعاملات شرعية والمنتجات المستحدثة تفي بمتطلبات العملاء الذين يرغبون في الاطمئنان على عدم وجود شبهات محرمة في المنتجات المستحدثة. ويشمل توكيد الجودة الشرعية أيضا التحقق من أن الجودة الفعلية هي الجودة المطلوبة. ويتضمن هذا التقييم المستمر للجودة ولفاعليتها.. مفهوم توكيد الجودة أشمل وأوسع من ضبط الجودة الذي يهتم بالمواصفات والإنتاج والفحص ومتابعة شرعية المعاملات.
وخلاصة القول بأن درجة جودة أنشطة الرقابة الشرعية تتحدد بالعوامل التالية:
1- درجة استقلالية الهيئة الشرعية (الاستقلال الفكري والاستقلال التنظيمي ) وموضوعيتها، ذلك لأن غياب استقلالية الهيئة سيثير الشكوك للمتعاملين بالمصارف الإسلامية وهذا قد يؤدي إلى الشك في نسبة حل وحرمة المعاملات. فلا بد أن تكون مستقلة في المظهر والواقع ولا يمكنها أداء واجبها بشكل فعال إذا كانت معتمدة على طرف أخر لأداء واجبها بل لا بد من استقلالية تامة. أيضا يجب ألا تشمل عضويتها أي موظف في المؤسسة المالية بحيث يتم الاطمئنان إلى استقلالية قراراتها وتقاريرها وضمان عدم وجود تضارب في المصالح.وأن يتم تعيينها والاستغناء عن خدماتها من قبل الجمعية العمومية للمؤسسة المالية.
2- إلزامية قرارات الهيئة الشرعية فيجب النص في قرار تعيين الهيئة الشرعية على إلزامية قراراتها.
3- اختيار أعضاء الهيئة الشرعية وفق معايير مهنية واضحة مثل المؤهل العلمي المناسب والدراية بالصناعة المصرفية وألا يتبنى اجتهادا يخالف فيه الأصل الذي قامت عليه الصناعة، الأمر الذى يحقق تجانس الفتوى. ولذا فمن المهم جدا القيام بالدراسة المفصلة والدقيقة في اختيار أعضاء الهيئة، حتى يكون الأعضاء مكملين لبعضهم البعض من حيث الخبرة والمعرفة والتأهيل ليضمن فعالية الهيئة للمؤسسات المالية وللحفاظ على سلامتها. وإضافة إلى الكفاءة العلمية، يجب أن يكون هؤلاء العلماء من أصحاب السمعة الطيبة ومتمسكون بالصفات الأخلاقية الرفيعة ولا يوجد في سجلهم أي سوابق جنائية ومتصفون بالصفات النبيلة مثل الجدارة بالثقة والأمانة والمسؤولية والإخلاص والتقوى والصدق ومراقبة الله تعالى دوما.
4- انضباط الفتوى بحيث تقوم على وجود التأصيل الشرعي المبني على الدليل، وألا تكون مبنية على رأي فقهي شاذ وعدم مخالفتها للفتاوى الصادرة عن المجامع الفقهية (ان وجدت).
5- نزاهة واستقلالية الرقابة الشرعية الداخلية فلا يمكن الحكم على المنتج الذي تقدمه هذه المؤسسة أو تلك بأنه متوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية إلا بوجود هذه الرقابة الشرعية حيث المخالفات الكثيرة للشريعة الإسلامية التي تعاني منها منتجات الصيرفة الإسلامية تحدث في مرحلة التطبيق وكلما كانت الرقابة الشرعية الداخلية مستقلة وذات صلاحيات قوية في المؤسسة المالية دل ذلك على الجودة الشرعية. وقد قررت هيئة المحاسبة والمراجعة ضرورة وجود الرقابة الشرعية الداخلية في المؤسسة وأن تكون جهاز مستقل تقدم تقريرها إلى الجمعية العمومية عن مدى مطابقة المؤسسة لأحكام الشريعة والتزام المؤسسة بالفتاوى الصادرة من هيئة الرقابة المخصصة بها ووجود نظام رقابة شرعية شاملة وكافية في المؤسسة.
أحدث التعليقات