في المقالتين السابقتين تم بيان أن النظام الاقتصادي الإسلامي يتميز باعتماده على المذهب الاقتصادي الاستخلافي، وليس على المذهب الاقتصادي الفردي أو الجماعي أو المختلط بينهما، وأن النظام الاقتصادي الإسلامي وهو يوازن بين تحقيق مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع يقوم بذلك باعتبار أن المصلحتين الخاصة والعامة وسيلتين لعمارة الأرض لتحقيق الغاية الأسمى وهي عبادة الله.
كما أوضحنا أن المذهب الاستخلافي له مجموعة من الأسس التي تعبر عن فلسفة المذهب وتمثل الإطار الحاكم للنظام الاقتصادي الإسلامي التطبيقي، وهي تختلف تماماً عن فلسفات الأنظمة الاقتصادية الأخرى وهذه الأسس هي: تكريم الإنسان، والمساواة بين الناس، والتسخير والتذليل، والتكليف بالعمل، والإحسان والرقابة الدائمة، والأفق الزمني للنتائج.
ومن خلال الأسس الفلسفية للمذهب الاقتصادي الاستخلافي تم استخلاص مجموعة مبادئ تمثل أطر ومحددات يجب أن تعمل وسائل أو أدوات ” آليات ” النظام الاقتصادي الإسلامي التنفيذية على الالتزام بها دوماً عند التطبيق وهذه المبادئ هي: حرية التملك، والحرية الاقتصادية، والوسطية، والعدالة، والتكامل والترابط.
وتبين أنه لكي يحقق الاقتصاد الإسلامي النتائج المرجوة منه في واقع الحياة الاقتصادية فإنه يجب الالتزام عند التطبيق بأسس ومبادئ النظام الاقتصادي الإسلامي بصورة كاملة لقوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً ” البقرة 208.
في هذه المقالة نتناول القيم الأخلاقية للاقتصاد الإسلامي والتي تعتبر من أهم سمات النظام الاقتصادي الإسلامي التي ينفرد بها عن غيره من الأنظمة الأخرى، ثم نبين أثر المذهب الاستخلافي، والأسس والمبادئ، والقيم الأخلاقية على نظرة النظام الاقتصادي الإسلامي للمشكلة الاقتصادية، وتميزه في التعامل معها.
القيم الأخلاقية للنظام الاقتصادي الإسلامي
حسن الخلق هو الوجه الحضاري للإسلام على مر العصور، ويكفي أن الناس كانوا يدخلون في دين الله أفواجا لما يرون من حسن معاملة المسلمين وجميل أخلاقهم وأسوتهم وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أثنى عليه الله سبحانه وتعالى بحسن الخلق في قوله عز وجل : ” وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ” القلم 4. وترسيخ الأخلاق في المجتمع هي رسالة الإسلام الأساسية، قال رسول الله صلى الله عليه: ” إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ” رواه البخاري.
النظام الاقتصادي الإسلامي يحمل ذات القيم الأخلاقية لرسالة الإسلام، فهو نظاماً هادفاً يتبنى مجموعة القيم الأخلاقية التي لها تأثيرها على مختلف جوانب النشاط الاقتصادي ومنها:
1- الصدق: أساس مكارم الأخلاق والبعد عن النفاق، وهو أمر من الله لعباده المؤمنين قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ” التوبة 119. ولأهمية الصدق في المعاملات وجه النبي صلى الله عليه وسلم الناس إليه، ليجمعوا المال الحلال في الدنيا ويفوزوا بالجنة في الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ” رواه الترمذي.
2- الأمانة: أمرها عظيم وهي ضد الخيانة وبرفعها أي: إذهابها بحيث يكون الأمين معدوما أو شبه المعدوم تشارف الدنيا على الزوال، فقد سأل رجلاً النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: ” إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ” قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ” إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ” رواه البخاري، بمعنى: أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم فينبغي لهم تولية أهل الدين في مناصب الولاية والقضاء والإفتاء، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها.
والأمانة تعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق الله عز وجل على عباده، من صلاة وزكاة وصيام وحج، وكفارات ونذور، وغير ذلك، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع والكيل والوزن وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك مما أمر الله عز وجل بأدائها، قال تعالى: ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ” النساء 58. فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ” رواه مسلم. الجلحاء: التي بدون قرون.
3- التلطف: البر والرفق واللين، و” اللطيف ” من أسماء الله الحسنى، وعلى الإنسان أن يقتبس من صفات الكمال والجمال الربانية وهو يتعامل مع الناس، قال تعالى: ” فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ” الكهف 19، المعنى: وليترفق في شرائه ما يشتري.
4- الإيثار: خلق راقي يقدم فيه الإنسان لغيره العطاء وهو في فقر وحاجة لما يعطيه، ومن يقاوم بخل نفسه ويؤثر غيره عليها يكون من المفلحين في الدنيا والآخرة،قال تعالى: ” وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ” سورة الحشر 9.
5- التسامح: والتساهل في الشراء والبيع، وعند الطلب للحقوق، وعند الإقالة أي: فسخ ما بين المتبايعين، هذا كله وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ” رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى ” رواه البخاري.
6- حسن الوفاء: مبدأ عام في جميع التزامات الإنسان كاملة غير منقوصة وخاصة في المعاملات، والوفاء بالحق يجب أن يكون مصحوباً بالدعاء والشكر على المعروف لصاحب الدين، فعن عبدالله ابن ربيعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف منه حين غزا حنيناً ثلاثين – أو أربعين – ألفاً فلما قدم قضاها إياه، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ” بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الوفاء والحمد ” رواه ابن ماجة.
7- الفضل والإحسان: يحرص كثيراً من الناس أن تكون تعاملاتهم بالحق والعدل، وهذا هو الحد الأدنى من الواجب في التعاملات، وينسون أن التعامل بالفضل والإحسان درجة تفوق الحق والعدل. قال تعالى: ” وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ” البقرة 237، لذلك يذكر الله الناس بالفضل ويطلب منهم ألا يهملوه بل ويستعملوه بينهم.
8- كظم الغيظ والعفو: كظم الغيظ خلق مطلوب التحلي به، فلا يجب إعمال الغضب ورد الإساءة بمثلها، وإنما الواجب الارتقاء بالنفس إلى خلق العفو المصاحب لخلق كظم الغيظ، ثم السمو بالنفس إلى درجة مكافئة الإساءة بالإحسان، قال تعالى: ” الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ” آل عمران 134.
9- إمهال المعسر: إمهال المعسر وإقالة عثرته وعلى الأخص إذا كان شريفاً في معاملاته المالية ومستقيماً في سلوكه، قال تعالى: ” وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ” البقرة 280.
10- التكافل: بين أفراد المجتمع فيما بينهم، فيكون ضعفائهم في كفالة أقويائهم، وفقرائهم في كفالة أغنيائهم، وهو من التعاون والأخوة المحمودة التي يرتب لها الإسلام حقوقاً على أفراد المجتمع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ” رواه مسلم.
النظام الاقتصادي الإسلامي والمشكلة الاقتصادية
تفرُد النظام الاقتصادي الإسلامي عن غيره من الأنطمة الاقتصادية الوضعية في المذهب والأسس والمبادئ والقيم الأخلاقية جعل له نظرة مغايرة لمفهوم المشكلة الاقتصادية.
فبينما تعتبر الأنظمة الاقتصادية الوضعية أن جوهر المشكلة الاقتصادية هو ” الندرة ” بمعنى أن الموارد الاقتصادية المتاحة محدودة وأن الرغبات الإنسانية غير محدودة. نجد أن النظام الاقتصادي الإسلامي يدحض فرضية الندرة ويقدم حقيقة ” الوفرة “، أي أن الموارد الاقتصادية متوفرة في الطبيعة بالقدر الذي يكفي حاجة الناس جميعاً.
الاقتصاد الإسلامي وهو يقدم حقيقة وفرة الموارد الاقتصادية في الطبيعة يستند على الأسس الفلسفية للمذهب الاستخلافي، ويستمد معرفته عن الطبيعة وما فيها من الموارد من الآيات القرآنية المنزلة من رب الكون وموجده ومالكه، والتي تؤكد على توفر الموارد الاقتصادية التي سخرها الله للإنسان المستخلف ليقوم بواجبه في عمارة الكون.
ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ” وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ” سورة هود 6، وقوله تعالى: ” وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ” سورة فصلت 10، وقوله تعالى: ” وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ” سورة الفرقان 2، يقول الطبري: ” وخلق كل شئ ” بمعنى: أن الأشياء كلها خلقه وملكه، وعلى المماليك إخلاص العبادة له وحده، وقوله: ” فقدره تقديرا ” بمعنى: فسوى كل ما خلق وهيأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت. وقوله تعالى: ” وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ” الحجر أية 19، وقوله تعالى: ” اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ” إبراهيم 32-34 ، جاء في تفسير الطبري: ” وآتاكم من كل ما سألتموه ” بمعنى: وآتاكم من كل الذي سألتموه والذي لم تسألوه.
الاقتصاد الإسلامي يكشف عن أسباب الندرة
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: إذا كانت الموارد الاقتصادية والأقوات التي سخرها الله للناس في الطبيعة مخلوقة بقدر معلوم وميزان عادل، وأنها متوفرة بالقدر الذي يكفي حاجة الناس جميعاً، فما هي أسباب المشكلة الاقتصادية ” الندرة ” في الأنظمة الاقتصادية؟. الاقتصاد الإسلامي يكشف أن السبب وراء الندرة هو تصرفات الإنسان المادية والإيمانية تجاه الموارد.
فمن الناحية المادية: يتسبب الإنسان في ندرة الموارد بالتقاعس عن البحث لاكتشاف موارد الطبيعة، أو بالإهمال عن استثمارها في المجالات الصحيحة التي تلبي الحاجات، أو استثمارها بطريقة غير سليمة فيها إسراف في الاستخدام، أو استثمارها في أمور غير مشروعة وهو ما يعد إهداراً لها، أو بالظلم في توزيعها بين الناس.
ومن الناحية الإيمانية: فإن الإنسان بارتكابه الذنوب والمعاصي يتسبب في الندرة كعقوبة له من الله على المعاصي تصديقاً لقوله تعالى: ” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ” الروم 41. يقول ابن كثير: يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه، ومجازاة على صنيعهم، لعلهم يرجعون عن المعاصي.
وفي المقابل فإن إخلاص التوحيد لله والتوبة عن المعاصي والاستغفار يؤدي لزيادة الموارد وإدراك خيري الدنيا والآخرة لقوله تعالى: ” وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ” الأعراف 96، وقوله تعالى: ” فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ” نوح 10-12. يلاحظ في الآيات السابقة أن وفرة الرزق والخيرات دالة للاستغفار، حيث يعد الله سبحانه وتعالى أهل القرى بالرزق الطيب عندما يخرجون من الذنوب بالاستغفار وسلوك طريق الإيمان والتقوى.
تميز النظام الاقتصادي الإسلامي في التعامل مع مشكلة الندرة
جميع الأنظمة الاقتصادية لديها سلم للأولويات لترتيب الرغبات وتوجيه الموارد الاقتصادية نحو الأهم فيها ثم المهم ثم الأقل أهمية وهكذا، وعن طريق سلم أولويات الرغبات تحدد الأنظمة الاقتصادية ماذا تنتج؟ وكيف تنتج؟ ولمن تنتج؟ والتميز بين الأنظمة الاقتصادية يكون في الطريقة المستخدمة في ترتيب سلم الأولويات.
فبينما النظام الرأسمالي يستخدم آلية السوق ” تفاعل قوى العرض والطلب ” التي يؤدي فيها نظام الأسعار الحر إلى تحديد سعر لكل مورد اقتصادي يعكس الندرة النسبية له، وبذلك يكون الثمن فقط هو الذي يعبر عن الرغبات الحقيقية للأفراد، ويؤدي إلى التوزيع الأمثل للموارد الاقتصادية على مجالات الإنتاج، ويوجه الموارد إلى الرغبات التي تعظم الربح للمنتج وإن كانت متدنية في سلم الأولويات، ويمنع الموارد عن كل رغبة لا تدعمها قوة شرائية بل ويلغيها من سلم الأولويات وإن كانت متقدمة فيه.
النظام الاشتراكي لا يعترف بآلية السوق كأداة صالحة لترتيب سلم الأولويات وتوجيه الموارد الاقتصادية المحدودة نحو الاستخدام الأمثل الذي يحقق الرغبات، ويرى أن ترتيب الأولويات يتم بواسطة التخطيط المركزي، ولأن عنصر العمل هو المنتج الحقيقي في ظل الفكر الماركسي أضحى للطبقة العاملة ” البلوروتاريا ” الكلمة الأولى في ترتيب سلم الأولويات، ولأن عنصر العمل ” العامل ” ليس له ملكية فردية في الفكر الماركسي، فإن الذي يعبر عن رغبات قوى الشعب العاملة هي الحكومة باعتبارها نائبة عنهم في ملكيتهم الجماعية لكل الموارد.
النظام الاقتصادي الإسلامي بما يمتلك من رؤية مغايرة لـمفهوم مشكلة الندرة رتب المباح من الرغبات غير المحدودة في سلم الأولويات، وفقاً لمقاصد الشريعة في جلب المنافع ودفع المضار على ثلاث درجات: ضرورية: إذا لم تراع اختل نظام الحياة وهي تتعلق بحفظ: الدين والعقل والنفـس والنسل والمال. حاجية: وجودها يرفع عن الخلق المشقة ويزيل عنهم وجوه الحرج مثل رخص العبادات. تحسينية: وهي الأمور التي تجمل بها الحياة وتكمل، وإذا فقـدت لا يختل نظام الحياة ولا يحصل بفقدها مشقة ولا حرج مثل مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كأخذ الزينة والتطيب وغيرها، ولا يتم الانتقال من درجة إلى أخرى إلا بعد إشباع رغبات الدرجة التي تسبقها.
النظام الاقتصادي الإسلامي وهو يتعامل مع مشكلة الندرة لا يقصر اهتمامه على جانب الموارد كما في الأنظمة الاقتصادية الوضعية، بل تخطى ذلك إلى الجانب الآخر من المشكلة الاقتصادية وهو جانب الرغبات فعمل فيها بالتهذيب والتقويم. فحث أفراد المجتمع على الاقتصاد في استخدام الموارد، قال تعالى: ” وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ” الأعراف 31، وتوفير الأموال لصرفها فيما ينبغي أن تصرف فيه، قال تعالى: ” وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ” الفرقان 67، وحث على الحفاظ على الأصول الرأسمالية للمجتمع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من باع دارا أو عقارا فلم يجعل ثمنه في مثله كان قمنا أن لا يبارك فيه ” رواه ابن ماجة. وشجع على إحياء الأرض الموات بأن ملكها لمن أحياها حتى ولو كان كافراً لما في ذلك من صيانة للموارد الاقتصادية وعدم إهدارها، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” من أحيى أرضاً ميته فهي له وليس لعرق ظالم حق ” رواه أبو داود، ومعنى: ” ليس لعرق ظالم حق ” هو أن يغرس الرجل في غير أرضه بغير إذن صاحبها فيؤمر بقلعه إلا أن يرضى صاحب الأرض بتركه.
هكذا يتبين أن النظام الاقتصادي الإسلامي بمذهبه الاقتصادي الاستخلافي، وأسسه الفلسفية ومبادئه وقيمه الأخلاقية، يمتلك رؤية خاصة ومتميزة لمفهوم المشكلة الاقتصادية ” الندرة “، هذه الرؤية المتميزة يصاحبها إمتلاك أدوات عمل متميزة، لها القدرة على معالجة المشاكل الاقتصادية الجزئية التي تظهر في مجالات الإنتاج والإستهلاك والإدخار والاستثمار والتمويل وكذلك مشاكل الجانب الاجتماعي.
نستكمل إن شاء الله تعالى في مقالة قادمة أدوات العمل في النظام الاقتصاد الإسلامي.
عبد الفتاح محمد صلاح
مؤسس موقع الاقتصاد العادل
أحدث التعليقات