تسعير الصكوك وانعكاسات عوائد الخزانة

 

جعلوني أدفع أكثر

نحزن كثيراً عندما نرى المستثمرين الأجانب يفرضون شروطاً قاسية على بلد مسلم يحاول الاقتراض. ونحزن أكثر عندما نراهم يستغلون حاجة «البلاد والعباد»! عندها يذعن ذلك البلد المسلم ويدفع علاوة إصدار (Premium) «محترمة» للمستثمرين. هذه «العلاوة» تدفع من خزينة الأم’.

هذا ما حصل في الأسبوع الماضي لإندونيسيا عندما أصدرت صكوكها، مبتعدة عن إغراءات السندات الربوية. قد لا يعرف القارىء غير المتخصص في أمور أسواق المال أن الأسواق الناشئة تعيش أزمة مغادرة الأموال الساخنة بلادها. وكل ذلك بسبب إمكانية قيام مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي بالانسحاب التدريجي القريب من برنامجه في التسهيل الكمي. الدول الإسلامية المتضررة من ذلك هي إندونيسيا وتركيا.

القصة المحزنة

ملخص القصة الإندونيسية هي ما يلي: عندما خرجت العملة الدولارية من البلاد (مع مغادرة المستثمرين الأجانب)، قام البنك المركزي باستخدام احتياطاته الدولارية لدعم العملة المحلية. هذا الاستنزاف قلص احتياطات العملة الدولارية إلى 73 مليار دولار (بعد أن كان 93 ملياراً بنهاية أغسطس). رأى «عالية القوم» هناك أن كسر حاجز الـ70 ملياراً يعني مزيداً من الأضرار للاقتصاد الوطني. فهذا الحاجز هو نفسي بالدرجة الأولى وسوف يؤثر على ثقة المستثمر الأجنبي. عندها قرروا التوكل على الله وإصدار صكوك بقيمة 1.5 مليار دولار. \وكان ثمن تعزيز الاحتياطات الأجنبية باهظا للدولة المسلمة. حيث اضطرت لدفع ربح سنوي يصل 6.1 نقطة أساس. مع العلم أنها قبل سنة كانت تدفع 3.3%. أي أن تكلفة التمويل قد قفزت إلى ما يقارب الضعف!

أعجبني تصريح أحد مدراء الأصول عندما تحدث فأوجز: «عندما تهاجر الأموال الساخنة، تنحسر مياه البحار عن الشاطئ وتعرف من هو المكشوف».

الفرصة الأخيرة

أسواق الدين «تغلي» الآن. فهناك «زحمة» على الإصدارات قبل أن يعلن هذا الأسبوع مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي تقليص برنامح بعشرات المليارات خاص بشراء السندات. وإذا فعل ذلك، فتكلفة الإقراض ستكون مرتفعة أكثر من الوقت الحالي! ففي ظرف 10 أيام فقط من بداية سبتمبر، تم إصدار ما قيمته 90 مليار دولار، وذلك وفقا للبيانات المالية القادمة من تومسون رويترز. لقد قامت البنوك الاستثمارية بتحفيز الشركات والحكومات على هذه الإصدارات بحجة تكلفة الاقتراض تعد منخفضة ورخيصة في نفس الوقت! طبعا البنوك الاستثمارية تلعب على «الحبلين».

بمعنى أنهم «يُجملون» عملية الإصدار للحكومات ويقولون لهم بأن يستعدوا لدفع علاوات إضافية على هذه «العجلة» في الإصدار. عندها يتحدثون مع عملائهم من المستثمرين ويقولون لهم أن عليهم أن يطلبوا علاوة أعلى نظير حاجة «العباد والبلاد» للسيولة!!

البنوك الاستثمارية لعبت هذا السيناريو مع إندونيسيا ولكن مستشاري وزارة المالية كانوا من أصحاب «العزيمة والتمرس» عندما يتعلق الأمر بتسعير الصكوك.

تخيلوا قامت البنوك الاستثمارية بتسعير العائد على الصكوك بـ 6.3%. ولكن يقظة مستشاري وزارة المالية ساهمت في تقليص هذا الرقم إلى 6.1%. ولكن إذا نجت إندونيسيا من «مصيدة» المصارف الاستثمارية التي تفضل في العادة مصالح المستثمرين، فمن يقف بجانب بلداننا الإسلامية؟ لا أرى فقط إلا مجموعة بنك التنمية الإسلامي كأهل لهذه المسؤولية. الفترة المقبلة ستكون عصيبة على دولنا المسلمة، ولا سيما بعد انحسار أيام التمويل الرخيص من أسواق المال.

تسعير الصكوك وانعكاسات عوائد الخزانة 

مع قرار البنك المركزي الأمريكي بتأجيل برنامج «التيسير الكمي النقدي»، تنطبق عبارة «جعلوني أدفع أكثر» بالتمام والكمال على إندونيسيا. بمعنى آخر، فلو انتظر هذا البلد المسلم 9 أيام لكان قد دفع أقل للمستثمرين الذين اشتروا تلك الصكوك السيادية (لمعرفة الخلفية، راجع إلى الزاوية السابقة والمنشور بعدد 14964). لا أدري من نلوم على ذلك الإسراف المالي «اجتهاد خاطئ في التقدير» والذي حصل لخزينة الأمة (هذا الاجتهاد سيكلف الخزينة بضعة ملايين من الدولارات). هل نلوم البنوك الاستثمارية المرتبة لعملية الإصدار وذلك بعد أن صوروا لذلك البلد المسلم أن الولايات المتحدة ستمضي قُدما وتوافق على تخفيض مشترياتها من السندات (البالغ قيمتها 85 مليار دولار شهريا) وعليه سترتفع عوائد سندات الخزانة؟ لتكون عواقب ذلك ارتفاع تكلفة الاقتراض على الجانب الإندونيسي أكثر فأكثر؟ (للذين لا يعرفون العلاقة بين سندات عوائد الخزانة الأمريكية والصكوك، فإن بعض المصدرين يلجأون لعوائد الخزانة من أجل أن تساعدهم في تسعير السندات الإسلامية).
من المفترض للبنوك المرتبة لعملية الإصدار أن تأخذ جانب الوسط بين المستثمرين والحكومة. بمعنى ألا تنقل وجهة نظر واحدة. ففي تلك الفترة ما قبل الإصدار كنت لا أرى إلا الإعلام غير المتخصص (في الأمور المالية) والذي كان يصور الأمر كما لو أن المركزي الأمريكي سيمضي قُدما في قراره. ومن أجل إثبات ما ذكر أعلاه، تصفحت أرشيف الأخبار الاقتصادية القادمة من وكالة بلومبرج العالمية. ووجدتهم قد نشروا نتائج استطلاع للرأي يوضح أن 35% من الذين شملهم المسح يرون أن الفدرالي الأمريكي سيقوم بتأجيل قراره إلى أكتوبر أو ديسمبر من السنة الحالية. وفي الوقت ذاته توقع 38% أن يبدأ المركزي بتخفيض مشترياته من السندات في اجتماع سبتمبر (والذي سبق وأن انعقد). هل يا ترى كان مستشارو الوزارة على علم بـ»نبض» السوق أم قامت البنوك، ذات النزعة التجارية» بتغييب تلك المعلومة عنهم؟ ألا يوجد جهة حيادية تدافع عن «حياض» دولنا الإسلامية عندما يتعلق الأمر بتسعير الصكوك وترتيب عمليات الإصدار؟

استكمالا للزاوية التثقيفية السابقة، يبقى السؤال مطروحا لشركاتنا وحكومات العالم الإسلامي:» هل انتهى عصر التمويل الرخيص؟».
بمعنى آخر لو أردت إصدار صكوك دولارية، فهل أصدرها الآن أو انتظر للسنة القادمة؟ وماهي ياترى انعكاسات ذلك القرار في زيادة تكلفة الاقتراض من عدمه؟
الإجابة المختصرة تكمن في حقيقة أن تكلفة اقتراض الصكوك أصبح مصيرها معلق بالبنك المركزي الأمريكي.
فلو قرر تخفيض مشترياته من السندات (البالغ قيمتها 85 مليار دولار شهريا)، سيؤدي ذلك إلى ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأمريكية و التي تستخدم في تسعير الصكوك.وكل الذي نستطيع قوله الآن هو أن فرصة التمويل «الرخيص» من الأسواق العالمية لا تزال متوفرة وذلك حتى اجتماع الفدرالي الأمريكي و المرتقب في ديسمبر. طبعا الفدرالي الأمريكي يحاول مجارات المستثمرين بتخميناتهم وذلك بالقول بأن برنامج الشراء ليس في «مسار محدد سلفا». فقد أخطأ الفدرالي الأمريكي عندما قال في اجتماع يونيو الماضي أنه يتوقع أن يقلص برنامج الشراء قبل نهاية هذا العام. وكانت نتيجة ذلك زعزعة اقتصاديات الدول الناشئة (كما رأينا مع اندونيسيا) عبر تشجيع تدفق رساميل متقلبة مع السياسة النقدية الأمريكية. إلا أن هناك بعض القرائن التي ربط بها الفدرالي الأمريكي إيقاف برنامج شراء سندات الرهن العقاري. ولكن مشكلة»لعبة التكهنات» هذه أنها تُلعب أمام عقلية لا يستهان بها وهي عقلية «بن برنانكي»، رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي. إحدى هذه القرائن هي كسر معدلات الباحثين عن عمل حاجز الـ7% (والتي هي في الوقت الحالي أعلى من هذا الرقم). ولكن برنانكلي فطن لذلك وقال في بيان له إن معدلاً للباحثين عن العمل عند 7% ليس «رقما سحريا» قد يتحكم في تحديد موعد إنهاء مجلس الاحتياطي لبرنامج للتحفيز النقدي.
فمنذ أن كشف الفدرالي الأمريكي في يونيو عن نيته بتخفيض شراء السندات، قفزت عوائد سندات الخزانة (الخاصة بعشر سنوات) 100 نقطة أساس. هذه الأرقام تترجم إلى 1%. وهذه النسبة تترجم إلى فائدة بنسبة 1% للذين يقترضون لمدة 10 سنوات. وهذا الرقم يترجم إلى ملايين الدولارات كإضافة تدفعها الدول الناشئة التي ترغب بإصدار صكوك أو سندات ! 

تويتر: @MKhnifer

مراقب ومدقق شرعي معتمد من (AAOIFI) ومتخصص في هيكلة الصكوك وخبير مالية إسلامية لصالح مؤسسات دولية متعددة الأطراف.

http://www.al-jazirah.com/writers/20132112.html#2014start

http://sa.linkedin.com/pub/mohammed-khnifer-msc-mba-csaa-cifp/12/910/669/