حكم شراء مدة الخدمة في نظام التقاعد والتأمين الاجتماعي وحكم الاستبدال
بقلم – الشيخ د.عبداللطيف آل محمود*: |
كثرت الأسئلة عن حكم شراء مدة الخدمة في نظام التقاعد والتأمين الاجتماعي ، وعن أثر شراء المدة بالتقسيط أو بالنقد في الحكم . وقد طلب بعض الإخوة الكرام أن أكتب في هذا الموضوع مبينا الحكم الذي وصلت إليه وأفتي به ، خاصة وأني قد تناولته في أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه بعنوان ( التأمين الاجتماعي في ضوء الشريعة الاسلامية ).
وقد سمعت بعض الفتاوى التي تحرم أو تشكك في حل شراء المدة ، فأحببت أن يكون مقالي هذا شارحا لبعض الأمور التي لها علاقة بالحكم الشرعي حول نظام التقاعد والتأمين الاجتماعي ببيان بعض القضايا التي لها أثر في الفتوى ، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وغياب بعض التصورات عن المفتي تجعل فتواه مخالفة للواقع المسؤول عنه ، فأقول وبالله التوفيق :
الذي توصلت إليه وأفتي به أن شراء مدة الخدمة في نظام التقاعد ونظام التأمين الاجتماعي جائز شرعا سواء كان شراء المدة بالنقد أو بالتقسيط. ومبنى هذا الرأي قائم على الأسس التالية:
أولا: تعتبر أموال التأمينات الاجتماعية التي تؤخذ من المؤمن عليهم ومن أصحاب العمل (سواء كان صاحب العمل الدولة أو أي منشأة خاصة) مالا موقوفا لمصلحة المؤمن عليهم ولمصلحة المستفيدين عنهم فقط، فيكون لهم حق الحصول على مردود التأمين الاجتماعي من معاش شهري أو تعويض أو مكافأة نهاية الخدمة أو تعويض الدفعة الواحدة أو غيرها من المزايا الممنوحة لهم حسب الشروط التي يبينها القانون.
ولتحقيق هذه الخصوصية (خصوصية الوقف على المؤمن عليهم وعلى المستحقين عنهم) فإن الأموال التي تجمع من الأقساط التي تؤخذ من المؤمن عليه و كذلك ما يدفعه صاحب العمل وكذلك مردود استثمارات هذه الأموال لا تخلط بالميزانية العامة للدولة بل يكون لها صندوق خاص تديره هيئة خاصة ، كما أن الاستفادة من هذا الصندوق مقصورة على المؤمن عليهم وعلى المستفيدين عنهم من بعدهم ، إذا تحققت شروط الاستفادة.
ثانيا : تكيّف العلاقة بين المؤمن عليهم بعضهم البعض من الناحية الشرعية بأنها علاقة تكافلية بين جميع المشتركين في نظام التأمين الاجتماعي السابقين منهم والحاليين واللاحقين ، وقد أجمع الفقهاء وكذلك المجامع الفقهية التي بحثت هذا الأمر المستجد على جواز التأمين التكافلي والتأمين التبادلي .
ثالثا : زيادة مدة الاشتراك في التأمين الاجتماعي بدفع مبالغ الاشتراك التي يدفعها المؤمن عليه والتي يدفعها صاحب العمل ليس فيه مانع شرعي ، إذ لا فارق بين تحصيل القسط بسبب العمل الفعلي أو العمل الاعتباري.
رابعا : لا مانع من زيادة مبلغ شراء المدة بالتقسيط عن المبلغ بالنقد ، فهو مثل زيادة قيمة البضاعة عند شرائها بالتقسيط بسعر أكثر من سعر شرائها بالنقد . فالتأمين الاجتماعي خدمة من الخدمات الحديثة التي يمكن بيعها ولا مانع أن تباع بالتقسيط أو بالأجل بأكثر من ثمن النقد. وقد قررت المجامع الفقهية اعتبار الخدمات سلعة من السلع التي يمكن بيعها ، ولهذه القرارات تطبيقات كثيرة في المعاملات المالية الإسلامية التي أقرها المجلس الفقهي لهيئة المراجعة والمحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية.
خامسا : ليس في الزيادة المدفوعة بين النقد والتقسيط شبهة ربا ، لأن الربا يحصل عندما يدفع المقترض مالا أكثر مما اقترضه من المقرض ، وشراء مدة الخدمة ليس قرضا يسترد المقرض ما أقرضه بزيادة ، بل هو هنا نظير شراء سلعة بأحد ثمنين ، ثمن للنقد وثمن للتقسيط ، وهو جائز شرعا .
سادسا : لا ترتبط مجموع مردودات التأمين الاجتماعي التي يحصل عليها المؤمن عليه والمستفيدون عنه من بعدهم بمجموع الأقساط التي دفعها المؤمن عليه أو دفعت عنه سواء في ذلك ما يدفعها أثناء عمله الفعلي أو عمله الاعتباري عند شراء المدة ، بل يرتبط بنسبة من آخر أجر للمؤمن عليه قبل تقاعده ، ويستمر حصوله وحصول المستحقين عنه على تلك المردودات إلى أن ينتهي سبب الاستحقاق .
وعلى سبيل المثال فإن العامل الذي يصاب بإصابة عمل تؤدي إلى وفاته أو عجزه عجزا تاما يحصل على المعاش التقاعدي طيلة حياته مهما بلغ من العمر حتى وإن لم يعمل سوى شهر واحد ولم يقتطع منه سوى قسط واحد من راتبه ، بل قد يجرى للمستحقين عنه من بعده مردود ذلك التأمين ، ومثل ذلك من يحصل على معاش التقاعد عند بلوغه سن التقاعد إذ يستمر صرف المعاش له مهما بلغ من العمر.
وفي المقابل قد لا يستفيد المؤمن عليه الا القليل بل قد لا يستفيد عنه أحد بعده لعدم وجود المستفيدين عنه ، مثل المؤمن عليه إذا توفي قبل التقاعد وهو غير متزوج وليس له أولاد أو من يعيلهم ، فجميع الأقساط التي دفعها ودفعت عنه تصبح جزء من الأموال الموقوفة لصالح بقية المؤمن عليهم المشتركين في الصندوق ، وكل ذلك يؤكد أن التأمين الاجتماعي قائم على أساس التكافل وليس على أساس المعاوضة ، ولذلك تنقطع ملكية المؤمن عليه للأقساط التي دفعها أو دفعت عنه بمجرد استحقاقها عليه .
وزيادة لفائدة القارىء أبين ثلاثة أمور في نظام التقاعد والتأمين الاجتماعي :
أولها : إن المقصود والهدف من نظام التقاعد والتأمين الاجتماعي يتمثل في :
١ – تحقيق الأمن المالي للمشترك فيهما (المؤمن عليه) مدة حياته عند حدوث ما يمنعه من الاستمرار في العمل بسبب بلوغه سن التقاعد ، أو الاستغناء عن خدماته ، أو إصابة العمل ، أو العجز عن العمل ، أو غير ذالك من الحالات التي يبينها القانون.
٢ – تحقيق الأمن المالي للمستحقين عن المؤمن عليه من بعده مدة حياتهم من الزوجة والأولاد (الذكور والإناث) والوالدين (أو غيرهم حسب اختلاف الأنظمة) الذين يعتمدون عادة على المؤمن عليه في الانفاق عليهم إذا توافرت شروط الاستحقاق التي ينص عليها القانون.
٣ – سد باب من أبواب الفقر أو التخفيف من حدَّته عن المؤمن عليه وعن المستحقين عنه ، فقد عانى الكثيرون من العمال قبل تطبيق أنظمة التقاعد والتأمين الاجتماعي في كل أنحاء العالم من الفقر والجوع والمسكنة قبل العمل به بعد تركهم العمل واستنفاد مدخراتهم.
ثانيها : تدخلت الدولة وفرضت نظام التقاعد والتأمين الاجتماعي على العاملين في الدولة أو العاملين في المؤسسات الخاصة لتحقيق مصلحة المجموعة الكبيرة من المواطنين الذين يؤجرون طاقاتهم وقدراتهم للحصول على الرواتب الشهرية . إن هذه المجموعة تمثل المكون الأكبر من المواطنين ، ولا يمثل أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة الذين يستغنون بأموالهم عن العمل المأجور سوى نسبة قليلة جداً في أي مجتمع من المجتمعات.
ثالثها : تتعدد أسماء أنظمة التقاعد في الدول التي تطبقها ولكنها جميعا معتبرة من التأمين الاجتماعي فلا أثر لاختلاف الأسماء إذا كان المسمى واحداً.
أما استبدال المعاش يعني أن يطلب صاحب المعاش (المحال على التقاعد) الحصول على مبلغ نقدي مقدما (يتعارف عليه الناس بالقرض) عن جزء من مبلغ معاشه على أن يعيد سداد ذلك المبلغ خلال فترة يحددها القانون (٥ أو ١٠ أو ١٥ سنة) ، كما يحدد القانون الحد الأعلى لما يمكن استبداله كربع الراتب أو ثلثه مثلاً .
فعلى سبيل المثال إذا طالب صاحب معاش قدره مئتا (٢٠٠) دينار شهريا أن يستبدل خمسين (٥٠) ديناراً على أن يسددها خلال خمس (٥) سنوات (ستون ٦٠ شهراً) ، فإن طلبه هذا يعني أنه يريد الحصول على الخمسين (٥٠) ديناراً مقدماً عن فترة السنوات الخمس ، على أن يحسم من معاشه خمسون ديناراً كل شهر لمدة ٦٠ شهراً) فهيئة التقاعد والتأمين الاجتماعي تقدم له هذا القرض بضمان المعاش الذي يحصل عليه وذلك بالاقتطاع من المنبع .
والذي اطلعت عليه من أنظمة التقاعد والتأمين الاجتماعي لا تساوي بين المبلغ الذي يستلمه طالب الاستبدال والمبلغ الذي يسدده ، فدائما يكون المبلغ الذي يحصل عليه أقل من المبلغ الذي يسدده ، ويختلف هذا الفرق بحسب سن المستبدل أحيانا .
والسببب في أن المستبدل يحصل على أقل مما يجب عليه سداده أن هيئات التقاعد والتأمين الاجتماعي تنظر إلى أن هذه المبالغ هي جزء من مستحقات المؤمن عليهم والمستحقين عنهم ، ولا بد من استثمارها لتنمية صندوق التأمين ، وتقديم الاستبدال على سبيل القرض الحسن يؤثر على مستقبل الصندوق للأجيال التالية مما يستدعي زيادة الأقساط على جميع المؤمن عليهم ، ولذلك فإنها تقرر أخذ الزيادة على المستبدل تعويضاً عن استثمار المبلغ الذي أخذه وتعويضاً عن احتمال وفاته قبل سداد جميع مبلغ القرض.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن قوانين التأمين الاجتماعي والتقاعد (التي اطلعت عليها) تسقط بقية القرض إذا توفي المستبدل قبل سداده جميع ما يجب عليه سداده ، ويعامل المستحقون عنه في توزيع معاشه عليهم كأنه لم يستبدل أي مبلغ من المعاش. فمن كان معاشه التقاعدي مئتا (٢٠٠) دينار واستبدل منه خمسين (٥٠) ديناراً لا يطالب المستحقون عنه بسداد المبلغ المتبقي عليه ، ويقسم معاش تقاعده بينهم كاملاً كأنه لم يستبدل شيئا منه، فلا يطالبون بسداد ما تبقى من ذلك الدين ولايحسم منهم شيئا مما يستحقونه من المعاش عن المؤمن عليه.
يخضع الحكم الشرعي في هذه المعاملة على تكييفها ، فهل هي من قبيل القرض الحسن (أي أن يسدد ذات القدر الذي حصل عليه ٥٠ ديناراً * ٦٠ شهراً = ٣٠٠٠ دينار) أم هي من قبيل القرض الربوي (أي أن يسدد أكثر مما حصل عليه بأن يسدد ٣٠٠٠ دينار ويحصل على أقل من ذلك)؟
فإن كان المبلغ الذي يحصل عليه من الاستبدال من قبيل القرض الحسن فلا شك في جوازه من الناحية الشرعية بلا خلاف بين الفقهاء.
أما إذا كان المستبدل يسدد أكثر مما يحصل عليه وهو المعمول به في نظام الاستبدال في البحرين والكويت ومصر فقد اختلف الفقهاء في حكمه .
فمن الفقهاء من رأى أن هذه معاملة ربوية لأنها مبادلة نقد بنقد غير متساويين وتدخل في قاعدة (كل قرض جر نفعا فهو ربا) ، وبالتالي فلا يجوز الاستبدال لدخوله في حديث : ( لعن الله في الربا آكله ومؤكله وكاتبه وشاهده وقال : هم سواء. ) وهذا ما ترجح عندي في دراستي عن التأمين الاجتماعي في ضوء الشريعة الإسلامية (عام ١٩٨٤).
ومن الفقهاء من رأى جوازه ، على اعتبار أن هذه المعاملة وإن كانت في ظاهرها ربوية إلا أنها واقعة بين الدولة وبين المواطن كما جاء في بعض الفتاوى التي صدرت من هيئة الفتوى بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ، وقد أخبرني صاحب الفضيلة الأخ الشيخ خالد المذكور قبل شهرين أن الهيئة الجديدة للفتوى بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت رجعت عن الفتوى السابقة وتفتي بعدم الجواز.
كثير من الإداريين في هيئات التقاعد والتأمين الاجتماعي يكيفون هذه الزيادة بأنها رسوم إدارية ، وهذا التكييف غير مقبول لأن نسبة الزيادة التي تؤخذ (حوالي ٣٪) أكثر من أن تكون تكلفة للرسوم الإدارية فيما يظهر لي ، وللرسوم الإدارية ضوابط تأخذ بها هيئات الرقابة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية .
أستشعر أن هذا الموضوع بحاجة إلى بحث ودراسة لإيجاد مخرج شرعي حيث الحاجة ماسة لبعض أصحاب المعاشات للاستبدال خاصة أصحاب المعاشات القليلة التي لا تفي بحاجاتهم .
ومن سنين عديدة تزيد عن خمس عشرة (١٥) سنة اجتمعت بمعية أخي الشيخ نظام يعقوبي مع بعض المسؤولين في ادارة التقاعد للبحث في هذا الموضوع والنظر الشرعي في الاستبدال مع الأخذ في الاعتبار جانبا مهما وهو إسقاط ما تبقى على المستبدل من الدين عند وفاته قبل سداد ما عليه من الدين ، وطلبنا منهم إحصائيات معينة لإعانتنا على الدراسة والوصول إلى حلّ شرعي للاستبدال يبعده عن الربا المحرم ، غير أننا لم نزود بتلك المعلومات، ومع ذلك فإنني مستعد للبحث ودراسة الموضوع إذا توفرت المعلومات المطلوبة ، والله الموفق.
* أستاذ الدراسات الإسلامية المشارك سابقا – جامعة البحرين
أحدث التعليقات