أصبح التدريب في المؤسسات المالية الإسلامية من المواضيع الرئيسة التي تتصدر القائمة في المؤتمرات والملتقيات العلمية التي تقام في العديد من الدول العربية والإسلامية، وهو أمر مبرر بل ومطلوب؛ لما للتدريب من أهمية كبيرة وأثر واضح على نجاح المؤسسات المالية وتطوير العمل المصرفي الإسلامي بصفة عامة. ولا يخفى أن الحاجة للتدريب لا تقتصر على الموظفين المُعَيّنين حديثاً؛ بل يجب أن يكون التدريب عمليةً مستمرةً للارتقاء بمهارات الموظفين ونقل الخبرات من التطبيقات المماثلة والبناء عليها، وتجنب إعادة اختراع العجلة التي تُهدَر معها الكثير من الأوقات والطاقات والأموال.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن كثيراً من المصارف الإسلامية تَعُدُّ ميزانية التدريب خاصةً بالسنوات السّمان دون غيرها، فلا تخصص موازنة للتدريب إلا عند وجود أرباح، ولو قررت إدارة المؤسسة تخفيض بعض المصاريف لأي سبب كان، فإن أول الحلول تكمن في إلغاء مخصصات التدريب، والمراقب لمسيرة التدريب والتأهيل المستمر في البنوك الإسلامية يميز بوضوح مدى ما يعاني منه هذا الجانب من إهمال، وعدم وضعه ضمن قائمة الأولويات التي يجب أن تهتم بها إدارات البنوك.
والسؤال الذي يطرح نفسه في ظل الجهود التدريبية القائمة هو: هل التدريب الموجود حالياً يسير في الاتجاه الصحيح؟
التدريب والتأهيل الذي يقدم حالياً نوعان: الأول: غير مفيد وغير مجد؛ فهو لا يلامس الواقع، ولا يتطرق للمشكلات الحقيقية التي تظهر أثناء تنفيذ الأعمال في المؤسسات، ولا يتناول حالات عملية تطبيقية أثناء التدريب، ويقتصر على مفاهيم نظرية، يُضاف إليها جرعة كبيرة من الأحكام الفقهية التي تطرح خلال البرنامج التدريبي، ويعود بعدها المتدربون إلى عملهم كما خرجوا، والنوع الثاني: هو النوع المرجو والمنشود، والمعول عليه في تطوير الكوادر الواعدة في الصناعة المالية الإسلامية يجمع سمات رئيسة منها: أولاً: مدرب ذو كفاءة عالية يجمع بين الخبرة النظرية والممارسة العملية والاستمرارية في التواصل مع الواقع والإطلاع على كل جديد، فضلا عن امتلاك مهارات متميزة في التقديم والعرض وإيصال المعلومة. وثانياً: مادة علمية تشمل الجانبين النظري والعملي مع ضرورة تطويرها بشكل مستمر يواكب تطور الصناعة المالية الإسلامية وأدواتها، وثالثاً: حالات عملية تقدم وتناقش في البرنامج التدريبي ويفرغ لها وقتٌ كافٍ. تلك السمات الثلاث هي الشروط المسبقة التي يجب على كل إدارة ناجحة أن تبحث عنها في أي مشروع تدريبي تخطط له إذا كان نفع المؤسسة وتطويرها وتطوير كوادرها هو الغاية، أما إذا دخلت المصالح الجانبية والعلاقات الشخصية في الموضوع فلا ينظر حينها للأنفع ولا للأصلح، وإنما تراع تلك المصالح الضيقة، فتُرسِل الإدارة بعض العاملين لبرامج تدريبية ولو كانت لا تمت لاختصاصاتهم ومساراتهم الوظيفية بأي صلة، ولا ينظر لا إلى الجدوى من الحضور ولا إلى النفع المرجو من إنفاق تلك الأموال، ويصبح التدريب وقتها ممارسة غير أخلاقية من القائمين على المؤسسة تتلف من خلالها أموال المساهمين لصالح أصحاب المصالح. ومما يزيد الطين بِلّة ويزيد واقع التدريب سوءاً طرح البرامج المهنية والإعلان عنها دون أي شروط مسبقة توضع للتسجيل والدخول إليها، ومن ذلك أن تقوم جهة دولية من الجهات الراعية للمؤسسات المالية الإسلامية والتي نفخر بوجودها حقيقةً بمنح زمالة مهنية لمجرد حضور دورة لأربعة أو خمسة أيام فقط، وبدون شروط مسبقة للمتقدمين، وهو ما لم يحصل بتاريخ الزمالات المهنية في العالم، فيحضر محام مثلاً دورةً في المحاسبة الإسلامية لأربعة أيام أوخمسة ويأخذ بعدها زمالة المحاسب القانوني الإسلامي!، ويحضر مهندس كمبيوتر دورة في التدقيق الشرعي لأيام أيضا ويأخذ زمالة التدقيق الشرعي!، وقد وقفت على حالات عديدة كهذه قد حصلت بالفعل، وهذا يسيء إلى الشهادة بحد ذاتها ويجعلها غير ذات قيمة، ويفقدها أي تميز يمكن أن تضفيه إلى حاملها. وهذا من شأنه أن يشكل خطراً على مستقبل الشهادات المهنية في الصناعة المالية الإسلامية والصناعة نفسها، وعملاً بقانون جريشام (العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة)؛ فإن إصدار هذه الشهادات الرديئة من منظمة محترمة سيشكل عائقاً أمام أي شهادات تتمتع بالمهنية والجدية المرجوة، ولكن من حسن الحظ أن هذه الشهادات الرديئة لم تُعتَمد من أي جهة رسمية محلية كشرط لممارسة المهنة، ولم تجد القبول لدى الشريحة الأكبر من المؤسسات المالية الإسلامية، ولم تشكل جواز مرور لحامليها للعمل في سوق المصرفية الإسلامية؛ بل إن بعض المؤسسات أدركت مستوى الضعف وعدم المصداقية المهنية التي تحيط بهذه الشهادات إشرافاً وتنفيذاً، وبقيت هذه الشهادات عبارة عن أوراق مزخرفة ومزركشة بألوان جميلة ولا تعكس خلف هذا الجمال سوى مساحات خاوية من المعارف والخبرات.
ومما يجدر ذكره بأن الزمالات المهنية في كل أنحاء العالم تمنحها الجمعيات المهنية، ويشهد الواقع المهني بأن الهيئات المصدرة للمعايير لا تمارس هذا الدور وليس لها أذرع تدريبية بل إن ذلك لا يستقيم ولا يجوز طبقاً للتشريعات في عدد من الدول.
ومن أجل تدارك هذا الواقع المتهالك مهنياً على صعيد الشهادات فإنه من الممكن أن نفكر باتخاذ بعض الخطوات المسئولة كتأجيل طرح الزمالات المهنية في الصناعة المالية الإسلامية في مجالات التدقيق الشرعي والمراجعة المالية الإسلامية لحين استيفاء الشروط التشريعية والقانونية اللازمة والتي تسمح بخلق البيئة الملائمة لهذا الشهادات، ولا بأس بالبدء على مستوى محلي قبل التعميم على مستوى دولي، والاكتفاء بتصميم المسارات التدريبية الجادة وذات المصداقية المهنية في هذه المرحلة من الصناعة على أن تقوم بذلك الجهات الدولية المعنية بالتدريب، وأن تتفرغ الهيئات المصدرة للمعايير لمهامها الأساسية المهمة والكبيرة وهي استكمال المعايير ومراجعتها وتطويرها والارتقاء بمستواها المهني.
وإن أكثر ما يخشاه المتابعون أن تمثل هذه الزمالات بشكلها الحالي فقاعة من النوع المدمر لحامليها، وللأفراد المتاجرين فيها، وللهيئة المحترمة التي ترعاها دون إدراك لخطورة ما تقوم به.
وفي النهاية لابد من القول: التدريب سر النجاح وبابه العريض وهو حق للعاملين، وواجب على المؤسسة، وليس للمؤسسة أن تطلب من العاملين القيام بواجباتهم قبل أن تمنحهم حقوقهم، ولكن لابد من اختيار الباب الصحيح قبل الدخول؛ حتى نصل إلى التميز والريادة المرجوّة في مؤسساتنا المالية الإسلامية.
مهند الدكاش
المدير التنفيذي
رقابة للاستشارات المالية الإسلامية-بريطانيا
أحدث التعليقات