في وقت يتسم بسرعة التغير، يُعتبر القطاع الخاص المحرك الرئيسي لإيجاد الوظائف وفرص العمل ومصدر قرابة 9 من بين كل 10 وظائف بالعالم كله. وتمثل الصين النموذج الأكثر إثارة للإعجاب في التوسع في إيجاد الوظائف وفرص العمل من خلال نمو القطاع الخاص. ففي عام 1981 ، كان عدد موظفي القطاع الخاص يبلغ 2.3 مليون عامل، في حين كان عدد العاملين بالمؤسسات المملوكة للدولة يبلغ 80 مليوناً. وبعدها بعشرين عاماً فقط كان عدد العاملين بالقطاع الخاص في حدود 74.7 مليون شخص، متجاوزاً لأول مرة عدد العاملين بالشركات المملوكة للدولة الذي انخفض إلى 74.6 مليون عامل.وعلى النقيض من المتوسط العالمي، تمثل الدولة في بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جهة العمل الأولى، وهو وضع يمكن إرجاعه إلى عوامل الاقتصاد السياسي لحقبة ما بعد الاستقلال، وفي بعض الحالات إلى وفرة العائدات النفطية. فقد ظلت لفترة طويلة وظائف القطاع العام تُعطى للشباب من خريجي الكليات. ولكن مع انكماش الحيز المالي المتاح اللازم لاستمرار التوسع في التوظيف بالقطاع العام، أصبح الاصطفاف في طوابير التوظف بالقطاع العام أكثر شيوعا،ً وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور الاقتصاد غير الرسمي، وتخفيض المؤهلات التعليمية، وظهور أشكال من الإقصاء الاجتماعي. ولا تزال هناك قوة عمل شابة جيدة التعليم إلى حد ما عاطلة عن العمل. ويمكن القول بأن خلق الملايين من فرص العمل الجديدة والأكثر إنتاجية،، كان القوة المحركة الرئيسية وراء انخفاض نسبة السكان في العالم النامي الذين يعيشون على أقل من 1.25 دولار أمريكي للفرد في اليوم )على أساس تعادل القوى الشرائية( من 52 في المائة في عام 1981 إلى 22 في المائة في عام 2008 ، ليهبط بذلك عددهم من 1.94 مليار نسمة إلى 1.29 مليار نسمة. ولا شك في أن عدم توافر مصادر التمويل وتنوعها يعد من اهم المعوقات لتوسع أنشطة الأعمال بكافة البلدان أيا كانت المرحلة الإنمائية التي تمربها.
وينظر للتمويل الأصغر على أنه طوق نجاة للدول النامية؛ إذ يمكنه أن يسهم في حل مشكلات انتشار البطالة، ومساعدة الفقراء ومحدودي الدخل على الاعتماد على أنفسهم ذاتيا في توفير احتياجاتهم المعيشية.وعلى مستوى العالم العربي يبلغ عمر هذه الصناعة عشر سنوات فقط، وعدد المؤسسات العاملة في الإقراض الأصغر 100 مؤسسة فقط، استفادت من مشاريعها 3.5 مليون أسرة فقيرة، 60% منها تحت خط الفقر، وقد قدر تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية العربية للعام 2009 أن من يعيشون في حالة الفقر بـ 65 مليون شخص. أما عدد المسلمين في العالم فيصل إلى 2.1 مليار نسمة، لا يقل عدد الفقراء عن نصفهم.ضاع الفقر وليس كلها، فالفقراء تعوزهم الفرص المناسبة، وهم معرضون للمرض والكوارث الطبيعية، وتؤثر فيهم أكثر من غيرهم.
والتمويل الأصغر يشير إلى مجموعة من المعاملات المالية التي تتسم بالصغر من حيث المبلغ.. من الممكن أن تكون هذه المعاملات حسابات إيداع، قروضا، أو تأمينا صغيرا، ومن الممكن أن تكون هذه المعاملات مبنية على منهجية تحديد أسعار فائدة، كما هو الحال مع البنوك التجارية، أو على أدوات التمويل الإسلامية كالمرابحة والمضاربة والمزارعة والسلم والإجارة، ويعود الأمر إلى المؤسسة التي تقوم على تنفيذ التمويل.
ويتميز التمويل الأصغر، الذي يعمل وفق هدي الشريعة الإسلامية وأحكامها، ويستخدم أدواتها المالية، بعيدا عن تحصيل الفوائد من الفقراء ومحدودي الدخل بأنه أولا: أكثر قبولا لدى المستفيدين بحكم الخلفية العقدية والثقافية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وبحكم أن معاملاتها تمنحهم الراحة والطمأنينة لخلوها من أي حرام أو شبهة، ولأنها ثانيا: تعفيهم من الفوائد التي يضيفها التمويل الأصغر التقليدي على قروض المقترضين، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى 36% من قيمة القرض، ولا تقل عن 16% من قيمته، وهو ما يمثل عبئا كبيرا على الفقراء ومحدودي الدخل.
وعند تنفيذ نموذج الأعمال التجارية القائم على التمويل الأصغر الاسلامى ،من المتوقع تحقيق المنافع/ الآثار المحتملة التالية:
1. استهداف المزيد من الفقراء: يُمكن هذا النموذج مؤسسة التمويل الأصغر/ البنك من التركيز على الأفراد الأشد فقرًا مقارنة بالأفراد الذين يستهدفهم التمويل الأصغر التقليدي. ولذا يتأهل كثير من الأفراد الفقراء – الذين لا يتحملون الاستدانة أو الأفراد الذين تستبعدهم المجموعة (في حال منهجية إقراض المجموعة) أو مؤسسة التمويل الأصغر لعدم تمكنهم من توفير الضامن، وغير ذلك – للاستفادة في ضوء هذا النموذج إذا ما توفرت لديهم الموارد البشرية والإرادة والعزيمة اللازمة للتعلم والعمل بجد، وما إلى ذلك.
2. أقل عرضة لمواجهة مشكلات فرط المديونية: يتطلب هذا النموذج المزيد من التحري الشامل عن العملاء، وخصوصًا لأن النماذج المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية لا تستخدم أية نوع من أنواع الضمانات باستثناء حالات الإهمال. علاوة على ذلك، يتعين على مؤسسة التمويل الأصغر التأكد من أيلولة أموالها إلى النشاط الاقتصادي وتنمية الأعمال. وفي واقع الأمر، تكون مؤسسة التمويل الأصغر هي من يشتري هذه الأصول في معظم الحالات. وبسبب هذه التركيبة، لن يكون ممكنًا لمؤسسة التمويل الأصغر تحقيق الأرباح والازدهار، في حين يعاني عملاءها، كما هو الحال على سبيل المثال في ولاية أندرا براديش في الهند.
3. المزيد من التركيز على الأنشطة الاقتصادية المنتجة التي تساهم في زيادة الدخل القومي الإجمالي: من المتوقع أيضًا أن يركز هذا النموذج على الأنشطة الاقتصادية المنتجة بدلاً من الأنشطة التجارية. حيث تساهم هذه الأنشطة في زيادة الدخل القومي الإجمالي للبلاد.
4. خلق مزيد من فرص العمل: هناك شبه إجماع على أن الائتمان الأصغر التقليدي ليس أداة جيدة لخلق فرص العمل لأنه عادة ما يركز المقرضون – الذين يتحاشون المخاطر – تركيزًا أكثر على الأفراد الذين يمتلكون أعمالاً تجارية ويتطلعون إلى توسيع نطاقها. لذا من الممكن أن يغير هذا النموذج هذه المعادلة ويصبح التركيز أكثر على الأفراد الذين لديهم رأس مال بشري ومهارات أو يمكنهم اكتساب هذه المهارات التي تؤدي إلى خلق فرص عمل وأعمال تجارية لهم.
5. مصادر تمويل تجلب مشكلات أقل: على الرغم من أن قطاع التمويل الأصغر التقليدي استغرق سنوات لجذب مصادر التمويل التجارية، من المتوقع ألا يكون هذا هو الحال في ظل هذا النموذج. هذا ليس لأن التمويل الأصغر التقليدي قد مهد السبيل وحقق نجاحًا، لكن الأكثر أهمية لأن الإسلام يسعى إلى تخفيف وطأة الفقر وتوزيع الثروة في الاقتصاد. ومن المعتقد أن هذا لم يحدث حتى الآن لفشل مؤسسات التمويل الأصغر في إظهار نموذج واعد مربح وناجح يقنع هذه البنوك بتقبل المخاطر وتمويل محفظة مؤسسات التمويل الأصغر على أساس المشاركة أو المضاربة. لكن في حال تطوير هذا النموذج وتنفيذه، من المتوقع ألا تحجم البنوك الإسلامية وحتى رجال الأعمال المعنيين بالصيرفة الإسلامية عن تقديم التمويل اللازم. وثمة مثال على ذلك هو بنك الأمل الذي استثمر المستثمرون فيه مبلغًا يتراوح من 6 إلى 7 مليون دولار عندما بلغت محفظتها 2.5 مليون دولار.
وختاما يشكل التمويل الأصغر فرصة ذهبية رائعة أمام التمويل الإسلامي حتى يعكس الأخير جوهر منظومة قيمه ومكنون رسالته. ويمكن أن يساعد الامتثال لأصول الشريعة الإسلامية وقواعدها، في الوقت نفسه، مؤسسات التمويل الأصغر على الوصول إلى عدد كبير من المسلمين الذين يفضلون أشكال الأنشطة المالية الممتثلة لأحكام الشريعة الإسلامية. وتتمثل إحدى الإمكانيات في التنسيق بين المانحين، لأن المؤسسات المالية الإسلامية ترى أن تخفيف حدة الفقر تعتبر عاملا مركزيا في صميم المسؤوليات الاجتماعية المؤسسية. كما تتمثل وسيلة أخرى للتعاون في إقامة شراكات تعاونية مع المصرفيين الإسلاميين حيث يمكن أن يتم في إطارها تقديم الخبرة والمشورة بشأن كيفية هيكلة المنتجات والخدمات الإسلامية. ولعله سيكون في وسع المصرفيين الإسلاميين أن يعملوا في المستقبل على توريق حوافظ التمويل الأصغر الممتثل لقواعد الشريعة الإسلامية حيث بدأنا نرى بداية تطبيق ذلك على التمويل الأصغر التقليدي.
أحدث المقالات
- ندوة الأهلي السنوية حول مستقبل العمل المصرفي الإسلاميندوة مستقبل العمل المصرفي الإسلامي الـ16 “مستجدات التمويل في التقنية المالية”
- المرئيات والبرامج المسجلةعرض: زكاة الاستثمارات في الصكوك دراسة فقهية – د. عبدالعزيز صالح الدميجي
- الصيرفة والتمويل الإسلاميحكم إصدار القسائم الشرائية وبيعها حالاً أو بالأجل – د. عبدالعزيز صالح الدميجي
- الزكاةزكاة الاستثمارات في الصكوك دراسة فقهية – د. عبدالعزيز صالح الدميجي
- قرارات المجامع الفقهية وهيئات الفتوىفتاوى مجلس الفقه الإسلامي في الهند 1989-2022
- المعايير الشرعية والمحاسبية الإسلاميةنظرة عامة على المعيار الشرعي رقم(62)- د. يوسف صديقي
- التنمية والبيئةالعجز الموازني واشكالية استدامة الموارد المالية للموازنة العامة للدولة في الجزائر
- رسائل الماجستير والدكتوراةرسالة ماجستير: الفقهاء السبعة وأراؤهم في المعاملات المالية، دراسة فقهية مقارنة – عبدالله سهيل أحمد
- الصيرفة والتمويل الإسلاميالمحاسبة عن خسائر الائتمان المتوقعة في ظل إنخفاض قيمة الأصول المالية في القطاع المصرفي ( دراسة تحليلية مقارنة )
- مجمع الفقه الدولي - منظمة المؤتمرالندوة الفقهية “حكم الشرع في تناول وتسويق اللحوم المستزرعة،الحشرات، الأغذية المحوَّرة وراثيا من أصل حيواني” – مجمع الفقه الإسلامي الدولي
أحدث التعليقات