مخاطر تخفيض سعر صرف الجنيه علي مستوى معيشة المصريين

لا مبالغة في القول بأن قيمة العملة الوطنية تعد بمثابة محدد مهم لأقدار الاقتصاد والشعب والسلطة الحاكمة‏.‏ والتاريخ حافل بسلطات حكم سقطت تحت وقع انهيار العملة الوطنية والتضخم الجنوني الجامح الذي يرتبط به عادة خاصة في أمريكا اللاتينية . ولا يجوز أن ننسي أن تفشي البطالة واستشراء الفقر فى شعب مصر كان وراء المسببات الموضوعية لنشوب الموجة الأولي للثورة الشعبية المجيدة في يناير2011.وأقدار المصريين ترتبط ارتباطا وثيقا بمعدل تبادل الجنيه بالعملات الأجنبية خاصة الدولار الأمريكي. فمن الكوارث التي يعانى منها الاقتصاد المصري هو تحويله عبر عقود إلي سلسلة مفككة من الأسواق المنفلتة والاحتكارية التابعة تبعية مفرطة لاقتصادات خارجية أساسا في الغرب من دون قدرة إنتاجية قوية ومتنامية تسندها. ومن ثم تتاجر في السلع المستوردة أو المنتجة محليا ولكن تلك الأخيرة تنتج باستعمال نسبة كبيرة من قيمتها النهائية من معدات ومواد خام ومنتجات وسيطة أخري مستوردة بدورها من الخارج. وهكذا يعني انخفاض الجنيه مقابل العملات الأجنبية ارتفاعا مقابلا ومباشرا في أسعار جميع السلع والخدمات المتداولة في مصر. وبسبب جشع بعض التجار وغياب آليات قادرة علي الضبط الفعال للأسواق ترتفع أسعار السلع بمعدلات أعلي من ارتفاع قيمة العملات الأجنبية. ومن ثم يذكي انخفاض قيمة العملة المحلية متصاعدا تضخميا شرها.

ويعد سعر صرف العملة  أحد أهم الأسعار في الدولة حيث يترتب على تغيره العديد من الآثار على مستوى معيشة المواطنين نتيجة لتأثيراته على المتغيرات الكلية في الاقتصاد مثل مستوى الدخل والإنتاج والتشغيل ، اضافة الى تأثيراته على الصادرات والواردات وكذلك الطلب على الأصول المالية والحقيقية في الدولة. وببساطه يقصد بسعر صرف الجنيه ،عدد الوحدات التي تدفع من الجنيه للحصول على وحدة واحدة من أية عملة أخرى أجنبية.

وقد يتحدد سعر الصرف من خلال قوى العرض والطلب أو تعويمه أو من خلال تثبيته بالنسبة لعملة دولية  أو من خلال استخدام سلة من العملات . وقد يتم تحديده من خلال التدخل الحكومي وفقا لقوى السوق، مع التدخل من وقت لآخر لتوجيه اتجاه هذا التقلب بهدف التأكد من أن التغير في قيمة العملة يسير فى الاتجاه المرغوب فيه من قبل حكومة هذه الدولة.

ولا شك ان هناك ايجابيات وسلبيات لتخفيض قيمة الجنيه، فبالنسبة للايجابيات يفترض من الناحية النظرية أن يترتب على تخفيض قيمة العملة المحلية رفع درجة تنافسية الدولة، ومن ثم زيادة صادراتها نتيجة انخفاض أسعار هذه الصادرات بالنسبة للأجانب مما يعنى زيادة حصيلة العملات الأجنبية ، زيادة العمالة الحالية في قطاعات التصدير. كما يترتب على تخفيض قيمة العملة ارتفاع أسعار الواردات بالنسبة للمقيمين في الدولة، وهو ما يؤدي إلى تحويل الطلب على السلع المنتجة محليا بدلا من تلك المستوردة، أو يشجع الصناعات البديلة للواردات، وهو ما يساعد على تخفيض العجز في الميزان التجاري أو تحقيق فائض فيه. غير أنه لنجاح تخفيض قيمة العملة في ذلك لا بد من ارتفاع مرونات الطلب السعرية للصادرات (درجة استجابة الطلب على الصادرات في الخارج نتيجة تغير أسعارها) والمرونة السعرية للواردات (درجة استجابة الطلب على الواردات في الداخل نتيجة لتغير أسعارها).  وبما أن معظم السلع التي تصدرها مصر لا تنتمي الى هذه الفئة من السلع، فإن تخفيض قيمة العملة قد يؤدي الى سوء أوضاع الميزان التجاري.

أيضا لابد أن يصاحب ذلك توافر طاقة إنتاجية فائضة تمكن الدولة من زيادة الإنتاج لمواجهة النمو في الطلب على الصادرات من السلع المحلية، وكذلك لمواجهة النمو في الطلب على السلع التي تنتج محليا، والذي سيصاحب ارتفاع أسعار الواردات من الخارج وتحول المقيمين نحو استهلاك السلع المحلية بدلا من المستوردة. معنى ذلك أنه إذا ما تمت عملية تخفيض قيمة العملة دون التأكد من قدرة جهاز العرض المحلي من السلع والخدمات على مواجهة الزيادة في الطلب عليه، فإن تخفيض قيمة العملة لن يؤدي إلى الآثار المتوقعة له على الميزان التجاري، ويطلق على السياسة الرامية لتحويل إنفاق المستهلكين من الإنفاق على الواردات إلى الإنفاق على السلع المحلية البديلة لها سياسات تحويل الإنفاق.

وتشير الدراسات الى أنه من المتوقع حدوث زيادة في عجز الميزان التجاري مباشرة في أعقاب تخفيض قيمة العملة وذلك بسبب أن تأثير التغير في أسعار الصادرات والواردات الناتج عن تخفيض قيمة العملة أكبر من استجابة الكميات المطلوبة منهما، وهو ما يعني أنه مع تراجع أسعار الصادرات نتيجة تخفيض قيمة العملة لا تتزايد الكميات المطلوبة من الصادرات، أو تتزايد على نحو ضعيف، مما يؤدي إلى تراجع إيرادات الصادرات، في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار الواردات نتيجة تخفيض قيمة العملة، بينما لا تتراجع الكميات المستوردة من الخارج، أو تتراجع على نحو ضعيف، مما يؤدي إلى زيادة المدفوعات على الواردات، وهو ما يعني زيادة العجز في الميزان التجاري في البداية، غير أن كميات الصادرات والواردات تأخذ بعد ذلك في الاستجابة للتغيرات في الأسعار، فيتزايد الطلب على الصادرات ومن ثم الإيرادات منها، بينما تتراجع الكميات من السلع المستوردة من الخارج، ومن ثم يقل الإنفاق عليها، وبالتالي يتحسن وضع الميزان التجاري لاحقا .

من جهة أخري تؤكد الشواهد التاريخية أن استجابة الصادرات لتخفيض قيمة الجنيه تعد محدودة جدا، حيث أن التخفيضات الجوهرية للجنيه المصري في 1979 و1989 – 1991 و2001 – 2003 لم يصاحبها تطور يذكر في نمو الصادرات غير البترولية.من ناحية أخرى يلاحظ ضعف استجابة الواردات بصورة واضحة لتخفيض قيمة الجنيه المصري، وأن العكس هو المتوقع، حيث سترتفع قيمة فاتورة الواردات (بالجنيه المصري)، وهي مشكلة كبيرة بالنسبة لدولة مثل مصر تستورد جانبا كبيرا من المدخلات من المواد الخام والسلع الوسيطة اللازمة لعمليات الإنتاج، ومعظم السلع الرأسمالية من الخارج، وهو ما يعني أن خفض قيمة العملة لا محالة سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج وارتفاع أسعار السلع المنتجة محليا من جانب، فضلا عن ارتفاع أسعار السلع النهائية المستوردة من الخارج من جانب آخر. محصلة ما تقدم هو أن تخفيض قيمة الجنيه لن يؤدي إلى تحسين وضع الميزان التجاري بقدر ما ستؤدي إلى المزيد من التضخم في الأسعار. وأن تقل القدرة الشرائية للصادرات علي المستوردات بمعني أن يتطلب الحصول علي كمية المستوردات من الخارج نفسها تصدير كم أكبر من الإنتاج المحلي.

أيضا يفترض من الناحية النظرية أن تخفيض قيمة الجنيه سيترتب عليه ارتفاع القوة الشرائية للزائرين لمصر، غير أن هذه المكاسب في القوة الشرائية لعملاتهم يمكن أن تتلاشى مع الارتفاعات المتوقعة في معدل التضخم، خصوصا وأن التجربة السابقة تشير إلى أن أثر تخفيض قيمة الجنيه على معدل التضخم كان مرتفعا، وهو ما يعني أن الأثر الصافي لتخفيض قيمة الجنيه على القوة الشرائية للإنفاق الذي يقوم به السائح ليس كما هو متوقع. ولا يتوقع زيادة كبيرة في الطلب علي السياحة نتيجة لتخفيض الجنيه لأن السياحة تعتبر خدمة ترفيه بالنسبة للفرد  وبالتالي فإن انخفاض القوي الشرائية عالميا نتيجة للازمة الاقتصادية السائدة سيؤدي الي انخفاض الطلب علي السياحة في مصر وغيرها من الدول . فالانفاق علي هذه الخدمة الترفيهية يقع في ادني اولويات سلم ميزانية الاسرة . ومعني ذلك ان انخفاض الجنيه لايتوقع ان يزيد من الطلب علي السياحة في مصر إلا بدرجة محدودة . وبالتالي لن يحول دون ما يجري حاليا من الاستغناء عن العمالة في هذا القطاع .من ناحية أخرى، فإن مصر، للأسف الشديد، على الرغم من امتلاكها أكبر مخزون في العالم من آثار العالم القديم، وشواطئها الطويلة جدا على سواحل البحر الأحمر والمتوسط، ومناخها المعتدل  إلا أنها ليست مصنفة بين الدول ذات الجذب السياحي على المستوى العالمي، وأداء مصر في هذا الجانب يعد متواضعا للغاية بالنظر إلى الإمكانات الضخمة الكامنة فيها. فالمنتج السياحي لا يحتاج إلى تخفيض قيمة الجنيه بقدر ما يحتاج إلى تطوير جوهري في محتواه ومكوناته وبنيته. مصر في حاجة إلى استراتيجية سياحية جديدة تركز أساسا على خدمة السائح وتقديم أفضل منتج سياحي عالمي في هذا المجال.

وعن دخل قناة السويس فإن اثر تخفيض الجنيه عليها سيكون محدودا فالرسوم في قناة السويس تدفع بالنقد الاجنبي  وبالتالي فإن تخفيض قيمة الجنيه لن يكون له تأثير علي زيادة كثافة المرور في القناة .

وتشير الدلائل التطبيقية التي تقدمها الدراسات إلى اهتمام الاستثمار الأجنبي المباشر بصفة أساسية بعوامل مثل حجم السوق والقوة الشرائية فيه ونوعية بيئة الأعمال واستقرار القوانين ومستويات الضرائب، وغير ذلك من العوامل التي تلعب دورا حاسما في هذه التدفقات، أما بالنسبة لتخفيض قيمة العملة، فإنه يخلق ميزة للشركات الأجنبية، حيث تصبح تكاليف الإنتاج، بصفة خاصة الأجور، رخيصة نسبيا في الدولة التي حدث فيها التخفيض، هذا طبعا بشرط ألا يترتب على التخفيض ارتفاع الضغوط التضخمية، غير أنه من ناحية أخرى، يلعب استقرار معدل الصرف الأجنبي دورا مهما أيضا في هذه التدفقات، وكلما ارتفعت درجة عدم استقرار معدل الصرف كلما ازدادت درجة عدم التأكد المصاحبة لقرار الاستثمار، وهو ما يؤثر بصورة سلبية على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.

اما سلبيات تخفيض الجنيه , فإنها متعددة وجسيمة بالنسبة للمواطن المصري ، خاصة منخفضي ومتوسطي الدخل،فتخفيض سعر صرف الجنيه يعني ارتفاع اسعار الواردات في السوق المصرية . وبما اننا نستورد الحبوب والزيوت وغيرهما من سلع الغذاء الاساسية  وأيضا مدخلات إنتاج تستخدم في انتاج سلع تباع في السوق المحلية  فإن معني ذلك ارتفاع اسعار السلع المستوردة والمنتجة محليا بمدخلات انتاج مستوردة .ومعني ذلك ان خفض قيمة الجنيه وما سيترتب عليه من ارتفاع اسعار سلع اساسية في السوق المحلية سيضر ضررا كبيرا بغالبية المواطنيين ، وهم من يقعون في فئات الدخول المنخفضة والمتوسطة . مما يعقّد من مشكلة المطالب الفئوية التي تندلع من وقت إلى آخر في مصر مسببة تعطيل جهاز الإنتاج.

ومع اطلاق التصريحات والشائعات بخصوص توقع تخفيض سعر الجنيه مقابل العملات الأخري ، خاصة الدولار سيدفع بالعديد من المضاربين في مصر والخارج إلى المضاربة على الجنيه لما يتوقعوه من مكاسب رأسمالية كبيرة عند تخفيضه ، وهو ما سيرفع قيمة الدولار في السوق المصري ويؤدي إلى تدهور قيمته حتى قبل أن تتم عملية التخفيض بالفعل، ومما لا شك فيه أن مثل هذه المضاربات الضارة ستحدث آثارا سلبية في سوق النقد الأجنبي. وأخيرا، فإنه من المتوقع مع تخفيض قيمة الجنيه ضعف الإقبال على الاحتفاظ بالمودعات بالعملة المحلية؛ نظرا لتراجع قيمتها مع التخفيض التدريجي لقيمة الجنيه، وتزايد الإقبال على المودعات بالعملات الأجنبية مثل الدولار واليورو، وهو ما يطلق عليه إحلال العملة، الأمر الذي سيلقي بضغوط إضافية على معدل الصرف مع تزايد الطلب على عمليات إحلال العملة والتخلص من المودعات بالجنيه المصري.

 المراجع:

1-محمد إبراهيم السقا،مخاطر تخفيض قيمة العملة، صحيفة الاقتصادية الإلكترونية ، العدد: 6374    الموافق، 2011-03-25 ،العدد: 6381      الموافق 2011-04-01

2-كريمة كريم، أثر تخفيض سعر صرف الجنيه علي الاقتصاد المصري، الاهرام اليومى ،تاريخ النشر: 28 – 2 – 2009،العدد 44644

3-نادر فرجانى، تهـاوي الجنيـه ومسـتقبل الســلطة الحاكمـــة، الاهرام اليومى ،تاريخ النشر:
الاثنين 07 يناير، 2013