نحو احياء لدور الوقف التنموي في جمهورية مصر العربية

 

نحو احياء لدور الوقف التنموي في جمهورية مصر العربية

إعداد:حسين عبد المطلب الأسرج،باحث اقتصادى أول، مدير ادارة  بوزارة التجارة والصناعة المصرية

E.Mail:hossien159@gmail.com

 

لا مبالغة في القول بأن احياء الدور الحضارى للوقف في مصر يحتاج الى ثورة في ظل ثورة الخامس والعشرين من يناير وذلك بعدما عبثت به العديد من السياسات والقوانين ،حيث أن الوقف الأهلى تم إلغاؤه بالقانون 180 لسنة 1952    الذي قصر التبرع على المبالغ النقدية فقط ،ويمنع التبرع سواء بقطعة أرض أو أسهم أو أى ممتلكات أخرى .ويمكن للوقف الاسلامى أن يلعب دورا مهما في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في جمهورية مصر العربية. فنظام الوقف من النظم الدينية التي أصبحت في ظل الإسلام مؤسسة عظمى لها أبعاد متشعبة دينية واجتماعية واقتصادية وثقافية وإنسانية، كانت هذه المؤسسة في ظل الحضارة الإسلامية تجسيداً حياً للسماحة والعطاء والتضامن والتكافل، غطت أنشطتها سائر أوجه الحياة الاجتماعية وامتدت لتشمل المساجد والمرافق التابعة لها والدعوة والجهاد في سبيل الله، والمدارس ودور العلم والمكتبات، والمؤسسات الخيرية، وكفالة الضعفاء والفقراء والمساكين والأرامل، والمؤسسات الصحية. يعد الوقف من ضمن أفضل الأدوات التى تصلح للتحقيق التنمية الشاملة المستديمة ، وكذلك تكون نقطة الالتقاء بين قطاع الأعمال والعمل التنموى ، حيث سيكون له أوجه اقتصادية واجتماعية في ذات الوقت.

والوقف في اللغة هو الحبس والمنع، وفي الاصطلاح الفقهي هو “حبس عين والتصدق بمنفعتها” وحبس العين يعني ان لا يتصرف فيها بالبيع أو الرهن أو الهبة ولا تنتقل بالميراث، ويعني التصدق بمنفعتها صرف منافعها أو ريعها لجهات البر بحسب شروط الواقف. والوقف جائز عند جميع الفقهاء.

وتستند مشروعية الوقف إلى الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب ،فكثير من الآيات تحض على بذل المال في وحوه البر والخير،ومنها:-
1- (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ). (سورة آل عمران:آية 92).
2-وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (سورة البقرة: الآيتان 261 – 262 ).

وإلى غير ذلك من الآيات التي تحث على الإنفاق في وجوه الخير والبر، ويدخل تحتها الوقف باعتباره إنفاقاً للمال في جهات البر.
وأما السنة النبوية فقد وردت أحاديث كثيرة تدل على مشروعية الوقف منها،مارواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي  صلى الله عليه وآله و سلم   ، قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) (صحيح مسلم، ، كتاب الوصية، حديث رقم14/1631) .والوقف صدقة جارية.

أما الاجماع ،فقد اشتهر الوقف بين الصحابة وانتشر ولا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافاً فقد أجمع الخلفاء وسائر الصحابة على مشروعية الوقف حتى قال جابر رضي الله عنه:”ما أعلم أحداً كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالاً من ماله صدقة مؤبدة، لاتشترى أبداً، ولا توهب، ولا تورث”. وأخذت الأوقاف الإسلامية بعد ذلك تتكاثر وتزدهر في شتى أنحاء العالم الإسلامي. وعلى هذا فالراجح هو القول باستحباب الوقف؛ لأنه صدقة جارية يمتد نفعها وثوابها.

 

وينظر الى الوقف اما من ناحية الغرض أو من ناحية المحل . ويقسم الفقهاء الوقف من حيث الغرض إلى قسمين:

الأول: وقف خيري، وهو الذي يقصد به الواقف التصدق على وجوه البر، سواء أكان على أشخاص معينين كالفقراء والمساكين والعجزة، أم كان على جهة من جهات البر العامة، كالمساجد والمستشفيات والمدارس وغيرها، مما ينعكس نفعه على المجتمع.

والثاني: وقف أهلى أوذري، وهو ما جعل استحقاق الريع فيه أولاً إلى الواقف مثلاً ثم أولاده··· إلخ، ثم لجهة بر لا تنقطع، حسب إرادة الواقف.

أما من حيث المحل فيقسم الفقهاء الوقف إلى ثلاثة أقسام:

ا-وقف العقار:وقد اتفق الفقهاء على جواز وقف العقار مثل المبانى والأراضى.

ب- وقف المنقول:اتفق أغلب العلماء على جواز وقف المنقول،باستثناء بعض متقدمى الأحناف الذين اشترطوا أن يكون متصلا بالعقار اتصال قرار وثبات،كالبناء والشجر،أو أن يكون مخصصا لخدمة العقار كالمحاريث والبقر.

 ج- وقف النقود وقال بجوازه غير واحد من أهل العلم. وهو وقف نقدي تستثمر أمواله بصيغة المضاربة والشركة وغير ذلك، وما تحقق من أرباح وعوائد صرف بحسب شروط الواقفين، تحت رقابة حكومية وضبط محاسبي ونظارة واعية.

وقد لعب نظام الوقف الإسلامي دورًا هامًا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول الإسلامية عبر العصور المختلفة منذ بعثة النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى نهاية عصر الدولة العثمانية، بيد أن العصور التالية شهدت تراجعًا وتهميشًا لدور الوقف في العديد من المجتمعات الإسلامية ومنها مصر في ظل خضوعها لنفوذ الدول الأجنبية المحتلة التي حرصت على الضغط على حكومات هذه الدول لتعطيل دور الوقف وإصدار قوانين وقرارات لإلغاء الوقف بنوعيه الأهلي، والخيرى بل قامت بعض دول الاحتلال بمصادرة الأوقاف الإسلامية، وقامت بعض السلطات الحاكمة في بعض الدول الإسلامية بتأميم الأوقاف الأهلية، كما خضعت بعض ممتلكات الأوقاف في بعض الدول الإسلامية الأخرى لتعدي الأفراد والاستيلاء عليها بدون وجه حق.

ولا يخفى ما لنظام الوقف في الإسلام من منافع علمية وخيرية ما يجلُّ عن التقدير. كما أن هناك مصالح عامة أخرى غير مادية، لها شأن كبير في الوزن التشريعي. فالوقف في الإسلام لم يبق مقصوراً على أماكن العبادة ووسائلها، بل ابتغى به منذ عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مقاصد الخير في المجتمع، وبذلك توسع النطاق في المال الموقوف، بتوسع الغرض في الوقف.

وقد ساهم الوقف الإسلامي عبر التاريخ في تقديم الخدمات العامة للإنسان في مختلف جوانب الحياة، فقد استغلت أموال الأوقاف في إيواء اليتامى واللقطاء ورعايتهم، وتوفير الحاجات الاساسية للفقراء من ملبس وغذاء ومأوى وتوفير عدد من السلع والخدمات العامة مثل التعليم والصحة وهذا ينعكس بصورة مباشرة  في تنمية القوى البشرية ويطور قدراتها بحيث تزيد انتاجيتها مما يحقق زيادة كمية ونوعية في عوامل الانتاج.من ناحية اخرى يؤدى ذلك الى التخفيف عن كاهل الموازنة العامة للدولة بحيث تخصص الأموال التي كان يجب ان تنفق على هذه المجالات الى مجالات اخرى.ويعنى ذلك ايضا ضمان كفاءة توزيع الموارد المتاحة بحيث لا تتركز الثروة في أيدى فئة بعينها مما يعنى تضييق الفروق بين الطبقات، حيث يساهم الوقف بهذه الطريقة في زيادة الموارد المتاحة للفقراء بما يرفع مستوى معيشتهم ويقلل الفجوة بينهم وبين الأغنياء.

ولقد عرفت مصر نظام الوقف منذ أن أشرق على أرضها نور الإسلام، وأقام أهلها مؤسساته المختلفة طلبا للمغفرة والرضوان، ورغبة في الأجر والثواب، وتحقيقا لمصالح عامة ومقاصد كلية، أعطت للمجتمع قوة وحياة، ومدته بروافد كثيرة أقامت حضارة، وحملت عن الدولة أعباء جسيمة، وقدمت خدمات جليلة للناس، استوعبت كل الطوائف، وتحركت على كل المجالات.

ويرجع تأسيس أول ديوان للأوقاف في مصر إلى عهد الأمويين والذي يعد أول تنظيم للأوقاف ليس في مصر فحسب بل في كافة أنحاء الدولة الإسلامية.ومنذ ذلك الحين تطور نظام الوقف واتسع نطاقه، وازداد إقبال الناس عليه، واجتذب أعدادا كبيرة، شملت السلاطين والأمراء وكبار رجال الدولة والأثرياء والتجار والصناع وغيرهم.

وازدهر نظام الوقف في مصر وبلغ أوج ازدهاره في عصر المماليك، وهو العصر الذي يمثل القوة والثراء والعطاء الحضاري في تاريخ مصر في العصر الوسيط. وتسابق إليه كثير من السلاطين والأمراء والتجار، لينهضوا بالمجتمع، حيث أقاموا المؤسسات التعليمية والمساجد والمستشفيات والأسبلة وغيرها، وحبسوا عليها الأوقاف التي تمكنها من تحقيق رسالتها.

وعندما تولى محمد علي حكم مصر، وبدأ مشروعه في النهوض بها، واستلزم ذلك تحديث عناصر الإنتاج والنهوض بالاقتصاد، والسيطرة على مصادر التمويل، وكانت الأوقاف من أغنى المصادر التي تمكنه من النهوض، فوضع يده عليها وهيمن على إدارتها، وكانت مساحة الأراضي الموقوفة على الخيرات تقدر بنحو ستمائة ألف فدان، أي ما يزيد قليلا عن خمس الأراضي الزراعية التي كانت تقدر آنذاك بمليونين ونصف فدان. وفي الوقت نفسه أصدر محمد علي قرارا بمنع إنشاء أوقاف أهلية جديدة وذلك في سنة (1262هـ=1486م) بناء على فتوى شرعية تجيز لولي الأمر أن يمنع الناس من وقف أملاكهم. غير أن المحاولات التي بذلها محمد علي في إحكام السيطرة على الأوقاف لم تنجح في تصفية نظام الوقف ولا القضاء عليه، وما لبثت أن عادت الأوقاف تؤدي بعض أدوارها الاجتماعية والثقافية، وكانت الأسرة المالكة نفسها في مقدمة من أوقفوا أملاكهم، بدءا من محمد علي نفسه وانتهاء بالملك فاروق، وكان لهذه الأوقاف ديوان خاص يتولى الإشراف عليها، وصرف ريعها وفق شروط الواقفين كان يسمى ديوان الأوقاف الملكية.

ولم يسلم نظام الوقف من الهجوم عليه في مطلع القرن العشرين، وازداد الهجوم عليه مع تنامي الحملات التي كانت تهدف إلى تطويق الشريعة الإسلامية ونظمها. وساق خصوم الوقف مبررات للقضاء عليه، فزعموا أنه نظام مخالف للدين، ولا يتماشى مع أحكامه العادلة، بالإضافة إلى تخلّف إدارته وشيوع الفساد فيها، وتسلط نُظّار الوقف وعدم قيامهم بما عهد إليهم على خير وجه، وتقصيرهم في إعطاء المستحقين حقوقهم، وواجب ولي الأمر أن يُعنى بالمحافظة على هؤلاء والعناية بحقوقهم.وتتابعت حملات الهجوم على نظام الوقف الى أن أسفرت هذه الحملات عن صدور القانون رقم 48 لسنة 1946م بتعديل بعض أحكام الوقف، وإدخال تعديلات جوهرية في نظم الوقف السائدة، حيث أجاز الرجوع في الوقف، وكان من قبل الوقف مؤبدا لا يمكن الرجوع عنه، وجعل مدة الوقف الأهلي 60 سنة ثم ينفك بعدها.

ولقد عملت الدولة الحديثة في ظل التوجه الشمولي علي تصفية مؤسسات المجتمع التقليدية ليس لإحلال المؤسسات الأهلية الشعبية الجديدة محلها ، ولكن لإحلال السيطرة المركزية للدولة الحديثة محلها ، وهي قضت تباعاً علي التكوينات الأهلية التقليدية لا لتفسح المجل لتكوينات شعبية أهلية أحدث أكفأ من حيث الإدارة اللامركزية واتخاذ القرارات الذاتية ، ولكنها قضت علي القديم لتنهي الوجود الذاتي لمؤسسات تعتمد علي فكر وأعراف وصلات اجتماعية راسخة ، ولتنشئ واجهات مؤسسات حديثة تنشأ وتعمل تحت الهيمنة السيادية لجهاز الدولة القابض ، وكان التحديث علي الطريقة الغربية خير دافع ومسوغ لذلك ، وخلال تلك الفترة فقد خضع نظام الوقف للعديد من السياسات الحكومية والإجراءات الإدارية التي ألحقت به وبمؤسساته أضراراً بالغة ، وحولته من مؤسسة أهلية ذات درجة عالية من الاستقلال المالي والإداري والوظيفي إلي مؤسسة حكومية ملحقة ببيروقراطية الدولة وخادمة لسياسات السلطة الحاكمة .

فقد شهد عام 1952 م حل الوقف الأهلي وضبط الوقف الخيري بنقله من الحيز الاجتماعي إلي الحيز الحكومي الرسمي ، فلقد أحدثت الثورة تحولات جذرية في بنية السلطة الحاكمة ، وكان من أهم النتائج التي أسفرت عنها تلك التحولات حدوث تغيير كبير في نمط العلاقة بين المجتمع والدولة ، وعلي الرغم من أن الثورة كانت قد بادرت فور قيامها بوضع جميع الأوقاف الملكية تحت نظارة وزارة الأوقاف بموجب عدة تقارير أصدرتها محكمة القاهرة الشرعية في شهر أغسطس 1952 م ، إلا أنها أصدرت في 14 سبتمبر 1952 ( بعد أقل من شهرين من انطلاقها ) القانون 180 لسنة 1952 القاضي بحل الوقف الأهلي والإبقاء فقط علي الوقف الخيري ، وظهر وقتها أن الهدف من إلغاء الوقف الأهلي هو إنجاح قانون الإصلاح الزراعي رقم 178 ، وجاء حل الوقف الأهلي في سياق الإجراءات لتي اتخذتها الثورة لتقويض الدعائم الاجتماعية والاقتصادية للنظام القديم ، وقامت الدولة بتوزيع الأراضي غير عابئة أن 75804 فدان منها كانت أوقافاً خيرية لصالح منافع عامة ، وبموجب القانون 152 لسنة 1957 والقانون 44 لسنة 1962 قامت وزارة الأوقاف بتسليم جميع ما كان لديها من أراض موقوفة علي جهات البر العام أو الخاص إلي هيئة الإصلاح الزراعي لكي تطبق عليها قانون الإصلاح ، وبالتالي فإن جملة أراضي الوقف التي خضعت لقانون الإصلاح الزراعي بلغت 394786 فداناً وهي تمثل 48% من جملة الأراضي التي تم توزيعها طبقاً لقوانين الإصلاح الزراعي البالغة 817538 فداناً .
ولم يسلم الوقف الخيري من هذه السياسة ، فبعد فترة قصيرة نسبياً وفي 31 مايو 1953 صدر القانون 247 وبموجبه تم وضع جميع الأوقاف الخيرية تحت نظارة وزارة الأوقاف لتتولي إدارتها وتحصيل ريعها وإنفاقه في وجوه الخيرات ، وبموجب هذا القانون تم تخويل وزير الأوقاف سلطة تغيير مصارف تلك الأوقاف دون تقيد بشروط واقفيها ، وصارت وزارة الأوقاف صاحبة الولاية الأصلية علي جميع الأوقاف الخيرية والاستثناء هو التنازل عن تلك الولاية في بعض الحالات مع الاحتفاظ بحقها في إزاحة من تنازلت له عن هذا الحق في أي وقت ، وهذا القانون يعكس رغبة السلطة في السيطرة علي موارد الأوقاف ووضعها تحت إدارة مركزية واحدة ، كما أنه قضي أيضاً علي الاستقلال الوظيفي الذي كانت تفرضه شروط الواقفين كتعبير عن الإرادة الاجتماعية الاختيارية ، وهي الشروط التي لها حصانة أسبغتها عليها الأحكام الشرعية لفقه الوقف فيما أكدت عليه من أن شرط الواقف كنص الشارع في لزومه ووجوب العمل به.

وفي 12 مايو 1967 أصدرت لجنة شئون الأوقاف قرارها ( الذي لم يكن مفاجئاً ) بتغيير مصارف ريع جميع الأوقاف الخيرية ، فقطعت الصلة نهائياً بين الأوقاف وبين المؤسسات الخيرية من متشفيات ومدارس وملاجئ فحرمت هذه المؤسسات من التمويل لذاتي المستقل التي كانت تحصل عليه من ريع الأوقاف ، وقامت الوزارة بتسليم ما كان لديها من مدارس ومستشفيات ومؤسسات صحية إلي الوزارات المختصة ، وجعلت هذه اللجنة مصارف ريع الأوقاف حكراً علي مصرفين فقط هما : نشر الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج والبر بأولوية أقارب الواقفين .

وتعمل مؤسسات الأوقاف حالياً في ظل العديد من القوانين تشمل القانون رقم 247 لسنة 1953 والذي تم تعديله بالقانون رقم 28 لسنة 1970، والقانون رقم 272 لسنة 1959 والقانون رقم 44 لسنة 1962 والقانون رقم 80 لسنة 1971، وهذه هي القوانين التي تنظم الإدارة والإشراف على كل أنواع الأوقاف في مصر، وتبعاً لتلك القوانين فإن من حق وزير الأوقاف أن يوزع المال الموقوف إلى نواحي عديدة دون التقيد بالمجالات الموقوف لها أصلاً هذا المال، ووزارة الأوقاف هي التي لها الإشراف الكامل على كل الأوقاف، كما أنها تحصل على 10% من عائد تلك الأوقاف نظير مراجعتها لحسابات تلك الأوقاف بالإضافة إلى 7% أخرى نظير الإشراف على ممتلكات الأوقاف.

ونظرة واحدة علي خريطة الوقف في مصر الجغرافية والشعبية في عهوده الزاهرة ، تكشف تعاظم الدور الذي كان يلعبه الوقف في حياة الأمة ، فنظام الأوقاف في مرحلة الازدهار كان إطاراً منظماً لممارسة العديد من السياسات الأهلية التي اتسمت بالتلقائية واللامركزية والاستقلالية ، وأسهمت في بناء العديد من المؤسسات الاجتماعية وتوفير الخدمات العامة في مجالات العبادة والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية .

وتجاوز اهتمام الواقفين في مصر إنشاء المساجد والإنفاق عليها إلى تخصيص جزء من ريع أوقافهم للإنفاق على الحرمين الشريفين في مكة والمدينة وخدمة الحجاج وزوار بيت الله الحرام والمسجد النبوي.وكانت الأوقاف المخصصة للحرمين لها إدارة مستقلة وميزانية خاصة. وبلغت مساحة الأراضي الزراعية الموقوفة على الحرمين نحو 6300 فدان، بالإضافة إلى المباني والعقارات. ومن أشهر الأوقاف التي خصصت لهذا الغرض: وقف تكيتي مكة والمدينة اللتين أنشأهما محمد علي لخدمة بيت الله الحرام.

وإذا أمعنا النظر في صور الوقف التي تمت ، أمكن أن نتبين جلياً أن الوقف لعب دورا تنمويا هاما في الماضي ويمكن تفعيلها مستقبلا،على النحو الآتي

أ) تحقيق الأمن الغذائي للمجتمع المسلم. ويتضح ذلك في تصدق أبي طلحة رضي الله عنه بنخيله  وجعل ثمارها للفقراء من أهل قرابته، وفي البئر التي وقفها عثمان رضي الله عنه على عامة المسلمين.

ب) إعداد القوة والوسائل الضرورية لجعل الأمة قادرة على حماية نفسها والدفاع عن دينها وعقيدتها. ويتضح هذا من وقف خالد بن الوليد سلاحه في سبيل الله.

 ج) نشر الدعوة إلى الله وإقامة المساجد لتيسير إقامة شعائر الدين وتعليم أبناء المسلمين. ويتضح هذا من تأسيس مسجد قباء والمسجد النبوي وجعلهما مركزين للعبادة والتعليم وتنظيم العمل الاجتماعي.

د) توفير السكن لأفراد المجتمع. ويتضح ذلك من أوقاف عدد من الصحابة التي تمثلت في الدور والمساكن التي حبست على الضيف وابن السبيل أو على الذرية.

 هـ) نشر روح التعاون والتكافل والتآخي التي تجعل المجتمع كالبنيان المرصوص يشد  بعضه بعضاً.

و) إيجاد مصادر قارة لتمويل حاجات المجتمع، و إمداد المصالح العامة والمؤسسات الاجتماعية بما يلزمها من الوسائل للاستمرار في أداء رسالتها. وذلك لأن الموارد التي قد تأتي من الزكاة أو الهبات ليست قارة، أما الوقف فإن أصوله وأعيانه تبقى أبدا،إلا في حالات خاصة، ولذلك فمنافعه لاتنقطع.

من خلال العرض السابق يمكن الوصول إلى أن مصر لديها ثروة عطائية متنوعة بالنسبة للأفراد والمؤسسات، إلا أن هناك العديد من المشاكل التي تواجه تخصيص وإدارة الموارد المحلية بالطريقة التي تحقق خطوات ملموسة نحو التنمية، و تتمثل تلك المشاكل في سيادة ثقافة العطاء على النحو الخيري أكثرمن كونها ثقافة العطاء من أجل التنمية، ونقص البيئة الملائمة لإحياء نظام الوقف وإدارته بنجاح، والمشاكل المالية والإدارية التي تواجه المنظمات غير الحكومية مما يقلل من مدخلات هذه المنظمات في المجتمع، والمشكلة الرابعة هي الثقافة المحدودة للمسئولية الاجتماعية التضامنية بين القطاع الخاص. وهكذا فإن هناك متطلبات ضرورية يجب القيام بها من أجل حشد الموارد المحلية وزيادة دور العطاء الخيري في مصر لأقصى حد: وأول هذه المتطلبات تنمية الوعي بين المانحين المصريين حول أهمية العطاء من أجل التنمية، بالإضافة إلى وضع خطط مبتكرة وواقعية وسهلة لتوجيه الناس نحو أفضل الطرق الممكنة لتخصيص عطائهم من أجل التنمية، كما أن مفهوم الوقف ودوره في تحقيق التنمية المستدامة يجب إحيائه بين عامة المصريين، ومن جانب الحكومة يجب إصلاح المناخ القانوني بشكل أساسي من أجل خلق بيئة مؤهلة تشجع عامة المصريين على العودة إلى ثقافة الوقف، كما أن معظم المنظمات غير الحكومية في مصر في حاجة إلى كوادر مؤهلة ومدربة وقادرة على حل المشاكل الإدارية للمنظمات والتي تتضح مظاهرها في نوعية وجودة الأنشطة التي تقوم بتنفيذها، وأيضاً مشكلة التمويل والافتقاد إلى نظام يتسم بالشفافية والمحاسبية بحيث يكون قادراً على اجتذاب ثقة العامة نحو القطاع الثالث، وأخيراً حشد المسئولية الاجتماعية التضامنية وتشجيع الخطوات القليلة التي بدأها عدد قليل من رجال الأعمال له أهمية كبيرة حيث أن رأس المال الذي يمتلكه القطاع الخاص هو أحد الموارد الأساسية التي تمتلكها مصر وهي في حاجة لمساهمتها الفعالة في التنمية، والمسئولية الاجتماعية التضامنية لا تنطوي فقط على الضمير الواعي من جانب رجال الأعمال ولكن أيضاً على وضع حوافز تشريعية حقيقية تشجعهم على ممارسة العطاء بشكل منظم وتنموي، وبالرغم من أن هذه المتطلبات ليس من السهل تنفيذها وتحتاج إلى مجهودات ضخمة من كل شرائح المجتمع إلا أن كل واحد من هذه المتطلبات له أهميته الحتمية.

  إن مصر اليوم هي في حاجة إلى إحياء دور الوقف ، الذي كان له  تلك الإسهامات العظيمة والآثار الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتنوعة حيث أسهم في التقدم العلمي والتكنولوجي وفي توفير الخدمات الأساسية من صحة وإسكان وعلاج وغيرها. علاوة على الأثر المالي الهام على ميزانية الدولة وتخفيف الكثير من الأعباء عنها.

وتتزايد أهمية الوقف والحاجة إليه في العصر الحاضر يوماً بعد يوم مع تزايد الطلب على الخدمات العامة وتنوعها من جهة وعجز السلطات عن مواجهة هذه الطلبات من جهة أخرى. وقد تنبهت بعض الدول الإسلامية اليوم إلى هذا الدور الهام للوقف في الحياة العامة وفي تنمية المجتمعات ومعالجة ومشكلاتها، فأخذت كثير من الهيئات والمؤسسات الحكومية والأهلية في تبني بعض المشروعات الوقفية لأعمال الخير داخل وخارج تلك الدول.

لهذا يجب وضع قانون جديد للأوقاف، بما يسمح بعودة نظام الوقف من جديد ،استخدمت القوانين الصادرة لتنظيم الوقف في تحجيمه، والحد من قدراته وأدواره المجتمعية. وبناء على ذلك، فإن أية جهود ساعية لإحياء الوقف تستلزم بالضرورة إعادة صياغة القوانين المنظمة له. بالإضافة إلى تعديل عدة قوانين أخرى ذات صلة بتأسيس الأوقاف وإدارتها واستثمارها ودورها، مثل قوانين الضرائب، وقانون الجمعيات الأهلية، وقوانين التعليم والصحة. كما يجب اسناد إدارة تلك الأوقاف الى هيئة مدنية مستقلة، تراعى الضوابط الشرعية فى إدارتها، وليس عن طريق وزارة الأوقاف.ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد، أن القوانين المنظمة للوقف في العديد من دول العالم العربي والإسلامي، وإن تفاوتت تجربتها الوقفية، تقدماً مثل الكويت، أو تراجعاً مثل مصر، لا زالت تعطي مساحة واسعة للدولة في إدارة الوقف وتنظيمه واستثماره. وفي المقابل، تتقلص مساحات الفعل الأهلي والمدني في تنظيم الوقف وتفعيله. وبالتالي، فإن الحد من مساحة دور الدولة في هذا المجال يعد من الاجتهادات الضرورية في الوقت الراهن.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف المرسلين وآله الطيبين وصحابته الغر المحجلين