مستقبل الوقف في ظل الحركات الاحتجاجية العربية

مستقبل الوقف في ظل الحركات الاحتجاجية العربية

اعداد حسين عبد المطلب الأسرج،ماجستير الاقتصاد،دبلوم معهد التخطيط القومى،باحث اقتصادى أول ومدير إدارة بوزارة الصناعة والتجارة الخارجية المصرية

بلغت الحركات الاحتجاجية جميع أنحاء الوطن العربي وان كانت متفاوتة الشدة والطبيعة. وفي الواقع، فقد كان الشأن الاقتصادي والاجتماعي حاضراً بشدة في خلفية مشهد حركات الاحتجاج وحتى في مقدمته، مما يشير صراحة إلى وجود علاقة مباشرة (أو غير مباشرة) بين هذه الحركات وما يؤمل منها من تغيرات اقتصادية واجتماعية، وبين متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وأهدافها بل يمكن القول بأن التنمية ومتطلباتها وأهدافها، كانت هي مَن ألهمت تلك الحركات من المعاناة والضيق والتهميش والإقصاء و تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وبالرغم من وجود العديد من السمات المشتركة فيما بين الدول العربية ، وتشابه ظروفها في ملامحها العامة، إلا أن لكل بلد خصوصيته وطابعه المميز والكثير من التفاصيل الصغيرة التي قد لا توجد بنفس القدر أو بنفس الكيفية في بلد آخر.

ويتفق كثير من الخبراء والمحللين على أن هناك عديد من الأسباب الرئيسة كانت وراء اندلاع الحركات الاحتجاجية في البلدان العربية، منها: تردي الأوضاع العربية على نحو خطير في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأمر الذي كان يعني انتشار البطالة والفقر والتخلف واتساع الهوة بين العالم العربي والعالم الخارجي حضاريا .

وحسب تقديرات تقرير تحديات التنمية العربية لعام2011، فان المنطقة العربية لا تزال تسجل أحد أعلى معدلات البطالة في العالم. فقد شهدت الدول العربية الأقل نموا زيادة في معدلات البطالة (من 8% إلى 11%). وشهد معدل البطالة ارتفاعاً طفيفاً في دول مجلس التعاون الخليجي وبلدان المشرق (من 4.5% إلى 4.6%)، ومن (9.3% إلى 9.8% )على التوالي. هذا وترتفع معدلات البطالة بشكل خاص بين الشباب في المنطقة العربية (مَن تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً) حيث وصل معدل البطالة لهذه الفئة، وفقاً لتقديرات منظمة العمل الدولية وبيانات الأمم المتحدة، إلى 24% في الفترة الممتدة بين عامي 2005-2008 (أي ما يزيد عن ضعف المتوسط العالمي الذي يبلغ 11.9%)، كما يمثل الشباب أكثر من 50% من إجمالي العاطلين عن العمل العرب.

وتعد البطالة سببا رئيسيا لانتشار الفقر في أي مجتمع؛ حيث تُعتبر البطالة وما تعنيه من حرمان القادرين على العمل والراغبين فيه -عند مستويات الأجر السائدة، أيا كانت مستوياتهم التعليمية- من كسب عيشهم بكرامة… تعد من أهم آليات التهميش الاقتصادي والإفِقار؛ لأنها تؤدي إلى دفع هؤلاء العاطلين إلى هوة الفقر واستنزاف المدخرات أو الميراث في حالة وجودهما والتحول في النهاية في كل الأحوال إلى فقراء. كما تحولهم إلى عالة على أسرهم مما يخفض متوسط نصيب الفرد في تلك الأسر من الدخل وينزلق بها إلى منحدر الفقر.

ويشير تقرير تحديات التنمية العربية لعام 2011، الى أن الدول العربية قد تخلّصت تقريباً من  الفقر الذي تبلغ نسبنه 3.9٪ من فقر الدخل، إذا ما اعتمدنا خط الفقر البالغ 1.25 دولار أمريكي، وهي نسبة تماثل نسبة الفقر السائدة في أمريكا اللاتينية، وهي أكثر ثراء من المنطقة العربية. غير أن هذا المعيار يخفق بشكل واضح في إظهار الحرمان في المنطقتين على حد سواء. ويترجم خط الفقر هذا إلى 3.5 جنيه في مصر وهوما يُمَكِّن بالكاد المواطن المصري العادي من شراء ما يكفي من الطعام المدعّم ليبقى على قيد الحياة، ناهيك عن توفير تكاليف المواصلات العامة التي تصل إلى جنيه واحد لركوب الحافلة ذهابًا وإيابًا داخل القاهرة. ومن الواضح أن أي شخص على هذا المستوى من الدخل لا يمكنه أن يتحمل تكلفة إيجار مأوى ولو في أكثر مناطق المدينة فقرًا وتداعيًا. بيد أنه عندما نأخذ بمعيار أعلى للفقر (2 دولار يوميًّا)، نجد أن معدل الفقر في الدول العربية يرتفع إلى 19٪، أي ما يزيد بمقدار 60٪ عن المعدل السائد في أمريكا اللاتينية. ونتيجة لذلك فإن زيادة قيمة خط الفقر يزيد من معدل الفقر بنسبة أعلى بكثير في الدول العربية منها في أيّ منطقة نامية أخرى .

ويرى عدد من الخبراء ان امكانية تطبيق النموذج الاقتصادي الإسلامي قد تكون احدى الوسائل البديلة لتجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة. وليس من المستبعد ان تعمد الحركات الإسلامية التي فازت في الانتخابات بمصر وتونس الى استخدام هذا النموذج تطبيقيا. ويعد احياء دور الوقف من اهم ملامح هذا النموذج.فتاريخ الوقف يرجع إلى فجر الإسلام وقد دلّ على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع وأن الوقف من أفضل وجوه الإنفاق، وأعمها فائدة وأدومها نفعاً وأبقاها أثراً. فقد لعب نظام الوقف الإسلامي دورًا هامًا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول الإسلامية عبر العصور المختلفة منذ بعثة النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى نهاية عصر الدولة العثمانية، بيد أن العصور التالية شهدت تراجعًا وتهميشًا لدور الوقف في العديد من المجتمعات الإسلامية في ظل خضوعها لنفوذ الدول الأجنبية المحتلة التي حرصت على الضغط على حكومات هذه الدول لتعطيل دور الوقف وإصدار قوانين وقرارات لإلغاء الوقف بنوعيه الأهلي، والخيرى بل قامت بعض دول الاحتلال بمصادرة الأوقاف الإسلامية، وقامت بعض السلطات الحاكمة في بعض الدول الإسلامية بتأميم الأوقاف الأهلية، كما خضعت بعض ممتلكات الأوقاف في بعض الدول الإسلامية الأخرى لتعدي الأفراد والاستيلاء عليها بدون وجه حق.

ويمكن تلخيص أهم الإشكالات التي واجهها القطاع الوقفي تاريخيا في مختلف بلدان العالم الإسلامي في أربع مسائل رئيسية:

  1. لم تستطع الأوقاف الأهلية مجابهة جملة من الإشكاليات الشرعية والعملية وإيجاد حلول عملية لها. كما ولد تكاثر المستفيدين ،بتوالي الأجيال ، إلى تفتيت الحصص ، وكثرة الخلافات والنزاعات القضائية التي لم يستطع الجهاز القضائي مجابهتها وإيجاد الحلول لها.
  2. ‏ضعف المؤسسات العلمية وما خلفه من انحسار للاجتهاد وتخلف العلماء عن أداء الدور الحضاري المنوط بهم  ‏مما أثر في طرح حلول واقعية وعملية والتعاطي الواقعي مع التطورات التي حصلت في المجتمعات الإسلامية،ودور علم الفقه والفقهاء في ذلك وفي ما يخص الأوقاف بالتحديد.
  3. ‏بالتزامن مع التخلف الاقتصادي العام ، أدى ضعف القضاء وعدم تخصص العاملين فيه في مسائل الرقابة على النظار وتصرفاتهم الإدارية والمالية ومدى نجاحهم في توزيع العوائد، إلى انتشار الفساد في إدارة الأموال الوقفية والاستهانة بتنميتها.
  4. غياب التجديد الإداري للمؤسسات الوقفية، ‏حيث استشرى أسلوب النظارة الفردية مما سهل عمليات اغتصاب الأوقاف وحيازتها بدون وجه حق والتلاعب بأعيانها أو تحويل وجهتها خارج المقاصد التي حددها الواقفون.

‏ وعلى مستوى التطبيقات العملية فقد تم تهميش نظام الوقف الإسلامي،حيث يمكن رصد عدد من المظاهر الدالة على ذلك فيما يلى:

  1. تضاؤل نسبة قيمة الأموال الموقوفة إلى إجمالي قيمة الثروة القومية، وتراجع معدل نموها سنويًا فضلا عن انخفاض معدلات العوائد والدخول التي تتحقق من توظيف أو استثمار أموال الوقف.
  2. انخفاض الموارد المالية اللازمة لتنفيذ شروط الواقفين، ومن ثم عدم الالتزام بشروطهم،وتغيير مصارف الأوقاف أو تقييدها، مما أدى إلى حرمان العديد من الجهات من حقوقها، وتعطلت رسالة الوقف لدرجة التهديد بالقضاء عليها.
  3. قيام بعض الدول الإسلامية بإدماج أموال الأوقاف ضمن أموال الدولة مع تأميم ممتلكات وثروات الوقف الأهلي بموجب قوانين وقرارات عليا واجبة النفاذ.
  4. تعرض بعض ممتلكات وثروات الوقف للتعدي والاغتصاب من جانب بعض الجناة بطرق غير مشروعة مثل وضع اليد على بعض أراضي الأوقاف التي يعلمون بفقد حجية ملكيتها أو سرقتها وصعوبة إثبات تبعيتها لمؤسسة الوقف. وقد ساعد على ذلك تغيير مسميات بعض الأماكن الموجودة في حجج بعض أراضي الوقف على اغتصابها وتعذر الاستدلال على أراضي الوقف وفقًا للمسميات الحديثة.
  5. إهمال ممتلكات الوقف وعدم الإنفاق على صيانتها أو حسن رعايتها، وتعرض بعضها إلى الانهيار والتدمير.
  6. قيام بعض الدول العربية والإسلامية بإلغاء الوقف الأهلي (الذري)وهو ما يعتبر بمثابة إلغاء لمؤسسة إسلامية أصلية وتحريم لما أحل الله، ومنع الخير من الوصول إلى من يستحقونه  .
  7. تكبيل الوقف بعقود الحكر وهو عقد إجارة لمدة طويلة يعقد بإذن الحاكم ويدفع فيها المستحكر لجانب الوقف مبلغًا معجلا يقارب قيمة الأرض ويحدد مبلغًا آخر ضئيلا يستوفى سنويًا لجهة الوقف من المستحكر أو ممن ينتقل إليه هذا الحق . ولا يخفى أن هذه العقود تقضي على الجزء الأكبر من عوائد الوقف بمرور الزمن خاصة في ظل ارتفاع معدلات تضخم الأسعار وانخفاض القيمة الحقيقية للنقود.
  8. تركيز بعض الجهات المشرفة على الوقف على التوثيق والسجلات فقط دون الاهتمام بالتنمية والاستثمار مما يؤدي إلى تردي ثروات الأوقاف وإهمالها .

ورغم هذه الملاحظات فإنه من المجحف أن لا نذكر بأن مؤسسة الوقف كانت من أكثر المؤسسات التي تواصلت خدماتها الاجتماعية وإلى وقت قريب رغم خفوت جذوتها.

فما نحتاجه الآن هو رؤية واضحة لتنشيط  وتفعيل دور الوقف في التنمية. وبقدر ما يرنو المجتمع لاستعادة دور الوقف في التنمية، ينشد الوقف ذاته إعادة بناء منظومته القيمية والعملية بعد عقود من الانتهاك والإقصاء. ويتطلب إحياء دور الوقف فى السياسات العامة والمجتمع المدني تضافر جهود العديد من الأطراف لتنفيذ رزمة متكاملة من الاصلاحات المعنية بثقافة الوقف وسياساته وقوانينه وإدارته واستثماراته ودوره المجتمعي. ويمكن رصد اهم جوانب الاصلاح المطلوبة فيما يلى:-

  1. إعادة تشريعات وقوانين تنظيم وتأسيس الوقف .
  2.  توفير إعفاءات ضريبية على الأصول الثابتة الموقوفة.
  3. إيجاد صيغ قانونية لإدارة الأوقاف والرقابة عليها.
  4. إدماج العطاء الوقفي في مصادر تمويل الخدمات التعليمية والصحية ، وتنظيم الأطر القانونية والإجراءات الإدارية لذلك.
  5. تطوير آليات استثمار الوقف.
  6. نشر الثقافة الوقفية في المجتمع.
  7. نسج شبكة متكاملة من العلوم الوقفية لرصد القضايا والإشكاليات، واقتراح آليات التطوير، واستشراف آفاق المستقبل. ويرتبط ذلك بتأسيس العديد من المراكز البحثية والبرامج الأكاديمية المعنية بالدراسات الوقفية. وتسعى هذه المراكز لتفعيل ثقافة الوقف في إطار رؤية حضارية متكاملة، تنطلق من رسالية الوقف، وتتفاعل مع التحولات الاقتصادية والمعلوماتية والاجتماعية والسياسية. كما تعنى برصد واقع الأوقاف، والإسهام في تطوير مؤسساتها وإدارتها واستثمارها ومصارفها.

إجمالاً، إن الصعوبات التي تعتري تطوير إدارة الوقف واستثمار أصوله وتفعيل دوره المجتمعي لا تنبع من جوهر مفهوم الوقف وأبعاده الفلسفية والمعرفية، وإنما ترتبط بالقصور الذي يشوب واقعه الحضاري وتأصيله النظري وتطبيقاته المؤسسية.

المراجع:

  1. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي،تقرير تحديات التنمية العربية 2011:نحو دولة تنموية في العالم العربي،المركز الإقليمي للدول العربية، القاهرة، مصر،2011 .
  2. حسين عبد المطلب الأسرج دور أدوات الحوكمة في تطوير مؤسسات الأوقاف،بحث مقدم الى المؤتمر العام الثانى عشر بعنوان:” الادارة الرشيدة وبناء دولة المؤسسات”، المنظمه العربيه للتنميه الاداريه ،القاهرة – جمهورية مصر العربية ،ذلك خلال المدة 8 – 10 سبتمبر (أيلول ) / 2012.
  3. حمدي عبد العظيم ،النتائج المترتبة على تهميش الوقف الإسلامي،بحث مقدم إلى المؤتمر الثالث للأوقاف بالمملكة العربية السعودية:الوقف الإسلامي “اقتصاد، وإدارة، وبناء حضارة”، الجامعة الإسلامية ١٤٣٠ ه – ٢٠٠٩ م.
  4. ريهام خفاجي، توصيات لإحياء دور الأوقاف فى السياسات العامة والمجتمع المدني،ورقة قدمت في المؤتمر المصري الأول للنهوض والتنمية والذي عقد في 16، 17يوليو 2012.
  5. طارق عبد الله ،آفاق مستقبل الوقف في تونس ، مقدم إلى ندوة الوقف في تونس:الواقع وبناء المستقبل، الجمهورية التونسية ،28-29 فبراير 2012