عقد الاستصناع وتمويل الصناعات الحرفية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله ورضى الله عن صحابته الطيبين والتابعين لهم بإحسان الى يوم الدين

تعتبر الصناعة عصب الحياة وشريانها الاقتصادي، وبها يقاس مدى تقدم الأمم ورقيها. وما الصناعات الحرفية إلا جزء مهما من تلك الصناعات بل وأساسها في حقيقة الأمر فهي موروث حضاري وثقافي واجتماعي عريق تتوارثه الأجيال المتعاقبة، أبا عن جد، لذا كان من الأهمية بمكان أن تحظى هذه الحرف بقدر وافر من التقدير والإعزاز لما سطره السلف الصالح من إبداعات جميلة استوحاها من واقع حاجته اليومية والمعيشية.ويمكن لعقد الاستصناع أن يلعب دورا مهما في ان تستعيد هذه الموروثات العريقة دورها ومكانتها الإجتماعية والإقتصادية وان تبنى لنفسها مكانة مناسبة بين سائر الحرف على المستويين الإقليمي والدولي وان تلعب دورا ورافدا في نمو الإقتصاد الوطني. فهذه محاولة لالقاء الضوء على دور عقد الاستصناع في تمويل الصناعات الحرفية وتنميتها لتكون رافداً في الاقتصاد وعدم اندثارها بما يسهم في نقل الخبرة إلى أجيال الشباب والشابات.

والحِرفةُ في اللغة (كما في لسان العرب) هو اسم من الاحتِرافِ وهو الاكْتِسابُ؛ يقال: هو يَحْرِفُ لعِيالِه ويحترف ويَقْرِشُ ويَقْتَرِشُ بمعنى يكتسب من ههنا وههنا، والـمُحْتَرِفُ: الصانِعُ.والحِرْفةُ الصِّناعةُ.وحِرفةُ الرجلِ: ضَيْعَتُه أَو صَنْعَتُه.وحَرَفَ لأَهْلِه واحْتَرَف: كسَب وطلَب واحْتالَ، وقيل: الاحْتِرافُ الاكْتِسابُ، أَيّاً كان.
وقد عَرَّفت اليونسكو الحرف والصناعات اليدوية بأنها ” تعبير حقيقي عن التقاليد الحية للإنسان تتجلى فيه الأسس الثلاثة للتنمية المستديمة والقيم الإنسانية وهي: التكيف والتجديد والإبداع”.ودعت اليونسكو في هذا الصدد إلى الاعتراف بأهمية دور الحرفيين المبدعين ومنتجي المواد الحرفية، ففي شتى أنحاء العالم يبتكر الحرفيون مصنوعات تنسجم مع الطبيعة وتشكل جزءًا مهمًا من الحياة اليومية للأفراد والمجتمع.
وقد حث النبى الأكرم صلى الله عليه وآله على العمل والكسب من عمل اليد حيث قال:”لأن يأخذ أحدكم حبله ، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها ، فيكف الله بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس ، أعطوه أو منعوه” .(صحيح البخاري ). وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان داود زراداً ، وكان آدم حرَّاثاً، وكان نوح نجاراً، وكان إدريس خياطاً, وكان موسى راعياً عليهم السلام. وكان رسول الله صلى اله عليه وآله يخصفُ نعله, ويخيط ثوبه, ويعمل في بيته . كما عمل برعي الغنم كما ثبت في صحيح البخاري وأيضا عمل بالتجارة بأموال السيدة خديجة رضي الله عنها مضاربة. ومن تعظيم الله أمر العمل والصناعة باليد ما رواه كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: مر على النبي رجل فرأى أصحاب النبي من جلده ونشاطه ما أعجبهم, فقالوا يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله, فقال رسول الله :((إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله, وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله, وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله, وإن كان خرج رياء وتفاخرا فهو في سبيل الشيطان)) رواه الطبراني وصححه الألباني.
والصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار كانوا يعملون في أمر معاشهم, ولم يكنوا بطالين, بل كانوا أصحاب مهن وحرف, فمنهم اللحام والجزار والبزاز والحداد، والخياط والنساج والنجار والحجام, وقد احترف التجارة منهم ناسٌ براً وبحراً.
وتساعد الصناعات الحرفية على الحد من البطالة والاستفادة من كافة الموارد البشرية سواء الذكور والإناث الذين يستطيعون أداء بعض الأعمال في بيوتهم أو في محيطهن كذلك يمكن لكبار السن والمعوقين وغيرهم المشاركة في العملية الإنتاجية في سكناهم مما يعطي مصدراً للدخل بالإضافة إلى رفع المعنويات.وعلى ذلك فلهذه الصناعات أهمية اقتصادية كبيرة تكمن في:
1-أنها تساعد على إيجاد فرص وظيفية بالنظر إلى نسبة تخصيص الموارد والحاجة إلى تعليم بسيط وبالتالي تتمكن حتى ربة البيت من ممارسة الحرفة.
2-توفر الخامات وبالتالي تساعد على الاستفادة منها.
3-توفر فرصاً للتدريب أثناء العمل ومما يساعد على ذلك أن التقنيات ليست صعبة الاستيعاب.
4-توفر توازن في التخطيط والتنمية بين المناطق المدنية والريفية وذلك لتعميم انتشارها.
5-تمكين تحقيق متطلب المستهلك من المنتج نظراً لإمكانية التعامل مع الخامات.
وقطاع الصناعة التقليدية يعد من الركائز الأساسية للتنمية في الوطن العربي باعتباره قطاعا مشغلا، له مساهماته في الناتج القومي، كما أنه يعتبر قطاعا محوريا في دعم وإنعاش النشاط السياحي في العديد من الدول العربية، فضلا عن أنه يشكل خزانا حقيقيا للتراث الحرفي والمهارات الفنية التي أفرزتها الحضارات العربية على مر العصور، وإننا جميعا مطالبون بحماية هذه الثروات الوطنية والمحافظة عليها، مع جعلها قادرة على مواكبة الحداثة. ولبلوغ هذه الغاية وضمان حماية لإبداعات الصناعة التقليدية العربية.وكثيرًا ما يفتقر هؤلاء الحرفيون للإمكانات التي تمكنهم من تطوير أساليب إنتاجهم والترويج لمنتجاتهم، وهم لا يستفيدون من شروط التمويل، ولا من المزايا الاجتماعية، مع أن منتجاتهم تستخدم في الحياة اليومية، وتتميز بجمالها وتنعكس فيها بهجة المجتمع وحيويته، فالحرفيون في المجتمع بمثابة مؤسسة حية مؤتمنة على دراياته ومهاراته. وترى اليونسكو أن الحرفيين يحق لهم أن يجنوا ثمار عملهم المتولد من خبراتهم الكبيرة المتراكمة على مر السنين، ويجب الدفاع عن مصالحهم في المناسبات الوطنية ذات العلاقة بالتخطيط ورسم السياسات الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية التي تخص مجال أنشطتهم الحرفية.
ويعرف الاستصناع بأنه عقد مع صانع على عمل شئ معين في الذمة وهو من عقود البيوع.ويعنى أن يطلب من الصانع تصنيع سلعة معينة واذا قام بصنع السلعة المطلوبة وتسليمها تتم حالة بيع الاستصناع.ولكن من الضرورى لاتمام هذا البيع أن يكون السعر محددا وباتفاق الطرفين وتكون مواصفات السلعة مطابقة لما تم الاتفاق عليه بينهما. وقد ذهب الحنفية إلى جواز عقد ” الاستصناع ” استحساناً كما ذهب إلى جواز التعامل بعقد الاستصناع أيضاً مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.ومحل عقد الاستصناع هو الأشياء والسلع التى يدخلها التصنيع فى أى مرحلة من مراحل انتاجها.فهو يمكن تطبيقه على كل ما دخلت فيه الصنعة سواء أقام بذلك الصانع بيده أم قامت به الآلات فى المصانع بشرط أن تتوافر الشروط الخاصة بالاستصناع.وبهذا تتسع مجالات استخدام صيغة الاستصناع فى الاقتصاد المعاصر،فالاستصناع يطبق فى مجالات عديدة ويكون بديلا شرعيا للتمويل بالفائدة فى كثير من المجالات التى يحتاج فيها الى تمويل المشروعات الصناعية،وذلك عن طريق تمويل المنتجين والصناع بما يحتاجون اليه من أموال فى صورة أثمان لمنتجاتهم.

ويمكن للصناعات الحرفية الاستفادة من صيغة التمويل بالاستصناع من خلال برنامج معين يتم من خلاله تحديد سلع معينة بمواصفات محددة وتكليف أصحاب هذه الصناعات بإنتاجها وتسليمها لاحدى الهيئات المتخصصة لتتولى تسويقها.ويمكن بهذا الشكل تمويل أصحاب الصناعات الحرفية وتنمية أعمالهم وفقا لبرنامج معين لانتاج سلع يحتاجها السوق أو يحتاجها بعض المشروعات المتوسطة والكبيرة الحجم.واذا تم التمويل بهذا الشكل فانه من الممكن استخدامه لتحديد أنواع المنتجات والاشراف على مواصفاتها بدقة والمساهمة بشكل مباشر في تسويقها،فيتخلص بهذا أصحاب هذه الصناعات من معظم مشاكلهم التمويلية والتنظيمية والثقافية والتسويقية بدون التعرض لمخاطر الديون وفوائدها ومشاكلها القانونية والاقتصادية.

 

إعداد:حسين عبد المطلب الأسرج،باحث اقتصادى أول ومدير إدارة بوزارة الصناعة والتجارة الخارجية المصرية،فبراير 2012