بقلم د.عبدالباري مشعل
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تناولت حلقة طاش ما طاش “زيد أخو عبيد” أربع شبهات حول المصرفية الإسلامية، وكان الهدف من الحلقة الوصول إلى نتيجة تتمثل في عنوانها وهي أنه لا فرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية. وفي الحقيقة إن الشبهات المثارة تمثل المتداول في المجتمع السعودي وغيره على مستويات المثقفين والمتخصصين والعامة، وربما كانت حديث الصحف والاستراحات والدواوين. وسأعرض باختصار لكل شبهة ورأيي بشأنها على النحو الآتي:
الشبهة الأولى: استجابة أعضاء الهيئات الشرعية والمستشارين الشرعيين لضغط إدارة البنك في إيجاد المخارج والحيل الشرعية لأمور تبدو محرمة لأول وهلة ثم بعد الضغط تصبح جائزة بعد إخراج المسألة بلباس آخر.
رأيي: هذا مما لا يخفى على أحد، بل إن إدارات البنوك أصبحت تميز بين العلماء على هذا الأساس بين متشدد وبين ميسر، وأصبح التركيز في الغالب على استقطاب من اشتهر منهم التيسير. ولا يعد هذا طعنا ولا تعريضاً في أحد من أعضاء الهيئات الشرعية، والفقه هو الأخذ بالرخصة كما هو معلوم، وإلا فإن قول [لا] يجيده كل واحد.
والمذموم في نظري في الفقه المعاصر هو لجوء الفقهاء المعاصرين إلى الفتوى على أساس منهجية الفقه الافتراضي [أرأيت] للهروب من التصدي للواقعة الحقيقية المعروضة. فعند عرض الواقعة تجد الجواب يبتدئ بلفظ [إذا]، ويتجنبون الحكم على الواقعة التي عرضت عليهم. ومن أبرز الأمثلة على ذلك كلامهم في ضوابط التورق المصرفي، وما نقله الدكتور علي قره داغي عن مشاركته في ندوة من ندوات البنك الأهلي في السعودية حيث توصل المشاركون إلى إجازة ما يسمى بالتورق المنضبط. وهذا التورق المنضبط موجود في الأذهان ولا رصيد له في الواقع. ومن المذموم أيضا ًإيجاد مخارج شرعية تتسم بالتهافت والضعف.
الشبهة الثانية: ارتفاع مكافآت أعضاء الهيئات الشرعية
رأيي: هذا الأمر نسبي، وربما تتسم مكافآت الهيئات الشرعية في بعض البنوك السعودية بالارتفاع مقارنة ببعض الدول الخليجية الأخرى، ولا أرى هذا بذاته أمراً مستنكراً خاصة إذا قابل هذه المكافأت عمل استشاري هام، بالمقارنة بأتعاب المستشارين الآخرين وشركات الخدمات الاستشارية التي تتعامل مع البنك.
والمذموم هو أن تركيبة الهيئات الشرعية في عدد من البنوك حيث تتمحور على شخص أو شخصين ويكون الأعضاء الآخرون في الهيئة عالة على هذا الشخص أو الشخصين في الفقه والفهم السليم أو السقيم، فتفتقد الهيئة الثراء والتنوع في الآراء وتقديم الحلول والمقترحات العملية الملائمة للمشكلات المطروحة، وتكون أسيرة لآراء أحد أعضائها أو رئيسها.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ما زلنا بحاجة للفتوى من هذه الهيئات؟ هل ما زال هناك جديد في واقع المصارف يستحق هذا الشكل من الفتوى المعاصرة أم أن التطبيق كما يلاحظ بات يضيق إلى صيغ مشهورة بمعانيها وأحكامها من المرابحة والإجارة والاستصناع، بل والتورق الذي يسيطر على النسبة الغالبة في أعمال المؤسسات؟ وما البديل في حال زوال الهيئات بشكلها الحالي؟
إجاباتي معروفة على جميع هذه الأسئلة وملخصها هو اعتماد البنوك المركزية لمعايير شرعية متكاملة تشمل الضوابط والإجراءات والنماذج والعقود، وتمثل مرجعية شرعية موحدة لأعمال البنوك، وتمهين التدقيق الشرعي الخارجي بمكاتب متخصصة وشهادات معتمدة أسوة بالمحاسبين القانونين.
الشبهة الثالثة: التشابه بين القرض الربوي الصريح وبين التورق المصرفي المنظم في السلع الدولية والقائم على الوكالة الملزمة سواء أكانت سابقة أم لاحقة.
رأيي: هذا التشابه حكاية واقع، ولا أظن أحد يجادل في هذا، وأكبر وجه للتشابه هو أن كلاهما محرم. فالتورق المصرفي المنظم القائم على الوكالة محرم لدى المجامع الفقهية، ولا يسعف واقع التورق أحدا من الفقهاء لادعاء بأن تطبيقاً ما لا ينطبق عليه قرار المجمع. وللتحريم لدى البعض –في أبحاث دورة المجمع في الشارقة- أسباب خلاف ما ذكر في قرار المجمع. فالشيخ تقي العثماني يرى تحريمه في حال الوكالة السابقة، ولا يخلو من الكراهة [والشيخ حنفي] في حال الوكالة اللاحقة، ولا يخفى أن الوكالة لا زمة فلا فرق بين أن تكون سابقة أو لاحقة. والشيخ نزيه حماد يرى تحريمه في دوران السلعة وإغلاق الحلقة بمعنى أن تعود السلعة على وجه لازم إلى البائع الأول ولا تجد طريقاً للخروج من الحلقة وكسرها، وواقع التورق يشهد لإغلاق الحلقة [البائع الأول ثم البنك ثم الطرف المشتري من البنك ثم البائع الأول].
والنصيحة المرحلية لحل معضلة المصداقية الشرعية في تورق البنوك الإسلامية هو ترك التورق في السلع الدولية واللجوء إلى بورصة زيت النخيل في ماليزيا أو إلى الأسواق المحلية إلى حين ابتكار أدوات جديدة كافية لتغطية فجوة الابتكار في آليات عمل البنوك. وقد أقر بحرمة التورق في السلع الدولية الدكتور حسين حامد حسان، وأوضح لي الدكتور معبد الجارحي أن بنك الإمارات يمارس هذه الصيغة على أساس الضرورة عملاً برأي رئيس الهيئة الشرعية للبنك الدكتور حسين حامد.
الشبهة الرابعة: عدم جريان الربا في النقود الورقية (الائتمانية) غير المغطاة بالذهب، على أساس أنها من الفلوس.
رأيي: هذا ترديد للشبهات التي يثيرها الدكتور حمزة السالم في الصحف السعودية، معتمداً على فتاوى لبعض العلماء، قبل صدور الفتاوى والقرارت المجمعية في النقود الائتمانية المعاصرة والتي نصت على أن هذه النقود تأخذ أحكام الذهب والفضة بجامع الثمنية فتجب فيها الزكاة، ويجري فيها الربا بنوعيه ربا البيوع وربا الديون أو ربا النسيئة. فلا يجوز بيع ريال سعودي بريالين سعوديين لا حالَّاً ولا مؤجلاً، كما لا يجوز بيع ريال سعودي بريالين قطريين إلا حالَّاً.
والحقيقة أن الفتاوى السابقة على قرارات المجامع لا يمكن الاعتماد عليها بعد صدور قرارات المجامع لأن هذه الفتاوى فردية في نازلة مستجدة اضطربت فيها الفتوى إلى أن استقرت من خلال الاجتهاد الجماعي الذي يمكن وصفه بالإجماع في المسألة، وما ما يردده الدكتور السالم لا اعتبار له في مقابل الاجتهاد المستقر.
وفي نظري أن “طاش ما طاش” نحجوا إعلامياً في طرح الموضوع ككل، وحققوا الإثارة الموضوعية في طرح الثلاث شبهات الأول، بينما أخفقوا في طرح الشبهة الرابعة لأن الاستشكال في الثلاث الأول وارد، بينما هو ضعيف في الرابعة. وعلينا أن نكون موضوعيين في تلقي الرسالة الإعلامية المقصودة رغم ما فيها من إثارة، فالإعلام قد يبالغ للفت النظر للمسألة، وعلى المتلقي الذكي أن يهتم بموضوع الرسالة الإعلامية وليس بحرفيتها.
جعلنا الله وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى.
د.عبدالباري مشعل
أحدث التعليقات