يقول السائل:ما الحكم فيمن يبيع سيارةً مستعملةً ويشترط عدم مسؤوليته عن أي عيبٍ فيها، أفيدونا ؟
الجواب: هذه المسألة تسمى عند الفقهاء “البيع بشرط البراءة من العيوب” وفيها خلاف بين الفقهاء سأبينه بعد أن أذكر أنه يحرم على المسلم أن يبيع سلعةً معيبةً وهو يعلم ويكتم العيب، ومن فعل ذلك فهو آثمٌ عاصٍ غاشٌ وتاركٌ للنصح في معاملته مع الناس، وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم:( مرََّ على صُبرة طعام- كومة -فأدخل يده فيها، فنالت أصابعُه بللاً، فقال صلى اللّه عليه وسلم: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال:أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم:( من غشنا فليس منا). قال الإمام النووي:[ ومعناه ليس ممن اهتدى بهديي واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي، كما يقول الرجل لولده إذا لم يرض فعله: لست مني وهكذا في نظائره، مثل قوله صلى اللّه عليه وسلم:(من حمل علينا السلاح فليس منا)، وكان سفيان بن عيينة يكره تفسير مثل هذا ويقول: بئس مثل القول، بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر] نيل الأوطار 4/240.وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم:( من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار ) رواه ابن حبان والطبراني، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/164.وعن عبد المجيد بن وهب قال:( قال لي العداء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتاباً كتبه لي رسول الله صلى اللّه عليه وسلم؟ قال: قلت بلى، فأخرج لي كتاباً: هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد صلى اللّه عليه وسلم، اشترى منه عبداً أو أمة لا داءَ ولا غائلةَ ولا خبثة، بيع المسلم للمسلم ) رواه الترمذي وحسّنه ورواه ابن ماجة، ورواه البخاري تعليقاً، وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/5، والداء ما كان في الخَلق بالفتح، والخبثة ما كان في الخُلق بالضم، والغائلة سكوت البائع على ما يعلم من مكروه في المبيع، قاله ابن العربي في عارضة الأحوذي 5/176. ومما يدل على وجوب تبيين العيب في السلعة ما ورد في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قال:( المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه ) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه، وقال العلامة الألباني:صحيح. إرواء الغليل 5/165.وعن أبي سباع قال:[ اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، فلما خرجت بها أدركني رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبيَّن لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردتَ بها سفراً أو أردتَ بها لحماً؟ قلت: أردتُ بها الحج. قال: ارتجعها فإن بخفها نقباً. فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد عليَّ. قال: إني سمعت رسول صلى اللّه عليه وسلم يقول: لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بين ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/160.وثبت في الصحيح عن حكيم بن حزام رضي الله عنه (أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو قال حتى يفترقا، فإن صدقا وبينا، بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)، قال الإمام الشوكاني:[ قوله: (فإن صدقا وبينا) أي صدق البائع في إخبار المشتري وبين العيب إن كان في السلعة، وصدق المشتري في قدر الثمن وبين العيب إن كان في الثمن، ويحتمل أن يكون الصدق والبيان بمعنى واحد وذكر أحدهما تأكيداً للآخر] نيل الأوطار 4/211.
قال ابن رشد الجد:[ فلا يحل لامرئٍ مسلمٍ أن يبيع سلعةً من السلع أو داراً أو عقاراً أو ذهباً أو فضةً أو شيئاً من الأشياء – وهو يعلم فيه عيباً قلَّ أو كثر – حتى يبين ذلك لمبتاعه، ويقفه عليه وقفاً يكون علمه به كعلمه، فإن لم يفعل ذلك وكتمه العيب وغشه بذلك لم يزل في مقت الله ولعنة ملائكة الله] المقدمات 2/110. إذا تقرر هذا فأعود لمسألة “البيع بشرط البراءة من العيوب” فهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء على عدة أقوال،[فذهب الحنفية والرواية الثالثة عن مالك، والقول الثاني للشافعية: أن البيع بشرط البراءة من كل عيب جائز، ويبرأ – أي البائع – من كل عيبٍ، ولا يُرد بحال، وذلك لأن الرد بالعيب حق من حقوق المشتري قِبَل البائع، فإذا أسقطه سقط كسائر الحقوق الواجبة.وذهب الحنابلة في رواية، وهو القول الثالث للشافعية إلى أنه لا يبرأ سواء علم به البائع أو لم يعلم، وذلك لأنه من باب الغرر فيما لم يعلمه البائع، ومن باب الغبن والغش إذا علمه، وذلك لأثر ابن عمر رضي الله عنهما، وقد باع غلاماً له بثمانمائة درهم وباعه على البراءة، فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام داءٌ لم تسمه، وقال عبد الله: بعته بالبراءة. فقضى عثمان رضي الله عنه على عبد الله بن عمر أن يحلف له: لقد باعه العبد بالبراءة وما به داء يعلمه، فأبى عبد الله أن يحلف وارتجع العبد، فصح العبدُ عنده، فباعه عبد الله بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم .والقول الأظهر عند الشافعية، والأصح عند المالكية، ورواية عند الحنابلة أنه يبرأ البائع من كل عيب في الحيوان لا يعلمه دون ما لا يعلمه، ولا يبرأ في غير الحيوان بحال] الموسوعة الفقهية الكويتية 31/90. والذي يترحج لديَّ أن البيع بشرط البراءة من كل عيب، صحيحٌ، واشتراط البراءة من العيوب شرطٌ صحيحٌ، وإذا قبل المشتري سقط خيار الرد بالعيب، على أن لا يكون البائع قد كتم عيباً يعلمه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[والصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كل عيب، والذي قضى به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم أن البائع إذا لم يكن علم بذلك العيب فلا رد للمشتري ] الفتاوى الكبرى 5/389. ومما يدل على الجواز أن البراءة من العيب شرطٌ شرطه البائع ورضي به المشتري، فيصح ويترتب عليه أثره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحلَّ حراماً) رواه أبو داود والترمذي وقال:حسن صحيح، ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء. انظر أحكام العيب في الفقه الإسلامي ص 158. وقال ابن رشد الحفيد:[ وحجة من رأى القول بالبراءة على الإطلاق أن القيام بالعيب حقٌ من حقوق المشتري قِبَل البائع، فإذا أسقطه سقط، أصله سائر الحقوق الواجبة.] بداية المجتهد2/148. وعن أم سلمة رضي الله عنا قالت: أتى رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلا دعواهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم:إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيءٍ، فلا يأخذ منه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من النار, فبكى الرجلان وقال: كلُ واحدٍ منهما حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:أما إذ فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم إستهما ثم تحالا) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن كما في تخريج الإلمام بأحاديث الأحكام 1/351. ومما يدل على جواز البيع بشرط البراءة قضاء عثمان رضي الله عنه في الخلاف بين ابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، فقد روى الإمام مالك في الموطأ: أن عبد الله بن عمر باع غلاماً له بثمانمائة درهم وباعه بالبراءة, فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام داءٌ لم تسمِّه لي, فاختصما إلى عثمان بن عفان فقال الرجل: باعني عبداً وبه داء لم يسمِّه, وقال عبد الله بعته بالبراءة, فقضى عثمان بن عفان على عبد الله بن عمر أن يحلف له لقد باعه العبد وما به داءٌ يعلمه. فأبى عبد الله أن يحلف وارتجع العبد فصح عنده فباعه عبد الله بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم. ورواه أيضاً البيهقي في السنن الكبرى وعبد الرزاق في المصنف، وقال العلامة الألباني: إسناده صحيح، إرواء الغليل 8/266، ووجه الاستدلال أن عثمان رضي الله عنه لم يحكم بفساد الشرط، ولكنه أراد التثبت من أن ابن عمر لم يكن يعلم بالعيب قبل البيع، فدل ذلك على أن البائع إذا اشترط البراءة من العيب ولم يكن يعلم بالعيب صح الشرط وبرئ منه وسقط حق المشتري في الرد بالعيب, وإن علم البائع بالعيب فكتمه لم يصح الشرط ولم يبرأ منه. وأخيراً لا بد من التنبيه إلى أن مجلة الأحكام العدلية قد نصت في المادة رقم (342) على أنه إذا باع مالاً على أنه بريء من كل عيب ظهر فيه لا يبقى للمشتري خيار عيب).
وخلاصة الأمر أن البيع بشرط البراءة من كل عيب، بيعٌ صحيحٌ والشرط صحيحٌ، على أن لا يكتم البائع عيباً علمه في السلعة قبل العقد، لأن كتمان العيب أمرٌ محرمٌ وغشٌ واضحٌ، ومن غشنا فليس منا.
والله الهادي إلى سواء السبيل
أحدث التعليقات