مقال : الهيئة الشرعية المركزية .. ما لها وما عليها – أ. خولة فريز النوباني

الهيئة الشرعية المركزية .. ما لها وما عليها

أ. خولة فريز النوباني

أقر القانون في ماليزيا وباكستان وإندونيسيا وإيران وغيرها الزامية وجود هيئة شرعية مركزية للعمل المالي الاسلامي، ومعنى أنها مركزية أي تتبع البنك المركزي أعلى السلطات النقدية في الدولة، ولا يعني وجود هذه الهيئة السعي لتوحيد الفتوى في هذا الخصوص وإنما لتنظيم العمل المالي الإسلامي من الناحية الشرعية، إضافة إلى ضمان النزاهة والترجيح في حال تعدد الآراء الفقهية تجاه مسألة ما. ومن اللافت للنظر أنه على الرغم من حداثة العمل المالي الإسلامي في سوريا إلا أن مصرف سوريا المركزي أقر وجود هذه الهيئة المركزية تنظيما للعمل المالي الإسلامي من جهة، ولضمان انتظام المؤسسات المالية الإسلامية برقابة عليا طالما أن أغلبية المتخصصين يعتقدون أن الهيئات الشرعية هي جهة رقابية بطراز متخصص في المتابعة الشرعية. إن الهيئات الشرعية المركزية لا تعني إلغاء الهيئات الشرعية التابعة للمؤسسات المالية الإسلامية أو المستقلة، والجدال الدائر حاليا حول الهيئات الشرعية واختلاف عملها عن دائرة الافتاء في كل دولة من الممكن حسمه بتخصيص عمل الهيئات الشرعية في التحقق من عمل المؤسسات المالية الإسلامية ومدى مطابقة ذلك مع أحكام الشريعة ومبادئها، إضافة إلى الانتباه لدور هذه الهيئات في تطوير المنتجات التي تشكل تحديا آخر أمام المؤسسات المالية الإسلامية وشبهة تثار بين فترة وأخرى حول محدودية الأدوات التمويلية الإسلامية. إن الاقتراح السابق يسعى لتوسيع عمل الهيئات الشرعية المستقلة والتابعة للمؤسسات المالية الإسلامية بحيث تكون الهيئة الشرعية خارجة عن إطار الجمود ولها علاقة بأمر حيوي إنتاجي يستهلك وقت الهيئات الشرعية بما يحفز الابتكار والتجديد في الصناعة ككل. ما نسمعه في المؤتمرات المالية الإسلامية التي عادة ما تدشن بمشايخ الصناعة هو عطش من العامة والخاصة للتعرف على آلية عمل هذه الهيئات وليس مجرد الجلوس على المنصة وتسطيح عمل الهيئات الشرعية لتبقى في ظل دائرة الافتاء، وبالرغم من خطورة هذه الصفة (الافتاء) إلا أنه ـــ مع للأسف ـــ لا يزال مشهد الهيئات الشرعية لا يخرج عن إطارها. لنفترض أن أعضاء الهيئات الشرعية تم اختيار تعيينهم بناء على كفاءة مهنية وشرعية عالية أثبتت كفاءتهم في ابتكار منتج مبتكر في أصله أو مركب من أكثر من عقد فما الذي يمكن أن يحققه هذا النهج لصناعة المال الإسلامية وما تكلفة تفويت هذه الفرصة على نمو هذه الصناعة؟ ولنتذكر هنا أن المصارف الإسلامية بدأت بتخريج ممتاز لعقد المرابحة وما زال هذا العقد متصدرا صفة الصناعة ككل، ونحن اليوم أحوج إلى من يفكر في حل للجاري مدين في البنوك الإسلامية على غرار البنوك التجارية وهو ما حدث فعلا في قسم تطوير المنتجات التابع لـ HSBC أمانة، ولا يمكن أن نبني على ذلك إلا بهيئات شرعية يُعنى جزء متخصص منها بالعمل جنبا إلى جنب مع قسم تطوير وابتكار المنتجات، الذي نحن فعليا بحاجة لأن يوجد في كل مصرف أو مؤسسة مالية إسلامية في الوقت الحالي أكثر من أي وقت مضى. إن تركز أعضاء الهيئات الشرعية في عدد محدود من العلماء، إضافة إلى عدم جرأة المؤسسات المالية الإسلامية على تبني كفاءات في هذا الاتجاه بحيث لا يشترط أن تكون من الأسماء اللامعة، وإنما أن يرتبط الاختيار بالكفاءة المدروسة ضمن دائرة احتياجات التطوير في المؤسسة، بحيث لا يكون المشهد في المستقبل عبارة عن هيئات شكلية تتميز بأنها تتمتع بصلاحية مهر العقود بخاتم الحِلـّيّة والجواز. إن الهيئة الشرعية المركزية لا تلغي عمل المجامع الفقهية، بل من الممكن أن تكون المرجعية الأساسية لهذه الهيئات، ولقد لمسنا ذلك في آراء عدد من الشرعيين والخبراء المتخصصين في ورشة الصكوك التي عقدت أخيرا في عمّان. ولكن ما المآخذ على الهيئات الشرعية المركزية؟ في نظرنا أن الهيئات الشرعية المركزية محدودة في دول العالم الإسلامي وبالرغم من ذلك أثبتت فاعليتها في الدول التي تبنتها من مثل ماليزيا وإيران وباكستان، وقد حفز وجود مثل هذه الهيئات على توليد علماء تخدم القاعدة، ونعني بها المؤسسات المالية الإسلامية، إضافة إلى إيكال أمر الترجيح والرقابة العليا إلى الهيئات الشرعية المركزية، وقد سمعت نقاشا لأحد أعضاء الهيئات الشرعية بأن الهيئات الشرعية المركزية تشبه عملية التأميم وفي ذلك تسييس لعمل الهيئات الشرعية وإجبارها على أن تكون في ظل الدولة، وأتساءل أمام هذا الافتراض الذي ينسف كل معايير الحاكمية المؤسساتية والاستقلالية، إضافة إلى التشكيك في مصداقية أعضاء هذه الهيئات هل خطورة اتباع الهيئات الشرعية (التابعة) فكرا إداريا محدودا من الممكن أن يقارن بنتائج اتباع الهيئات الشرعية المركزية السياسة النقدية في الدولة ككل ومدى ارتباط ذلك بتحقيق مقاصد التشريع والمصلحة العامة؟ إن الهيئات الشرعية المركزية والهيئات الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية ما زالت بحاجة إلى جهد هيكلي وتنظيمي من أجل الخروج بنظام يضمن كفاءة هذه الهيئات وعدم استغلالها بما قد يسيء للصناعة ككل مستقبلا. لنسأل أنفسنا كعملاء للمؤسسات المالية الإسلامية: ماذا نريد من صناعة المال الإسلامية في الوقت الحالي، الإجابة عن هذا السؤال من العامة والخاصة من المفترض أن تحدد توجهات التطوير والتركيز والدراسة في هذه المؤسسات بما يرفع من سوية الأداء ويؤهل الصناعة لأن تكون بديلا قويا وحاضرا عن أنظمة تعاني من هزال وجفاف شديدين. إن جدلية جدوى الهيئات الشرعية المركزية ستبقى في دائرة عدم الحسم طالما أن أعضاء الهيئات الشرعية المخضرمين أنفسهم مصرون على التربع على أكثر من مؤسسة، وصندوق استثمار، ومنظمة مالية إسلامية، وطالما أن الرؤية ما زالت مقتصرة على التصدر في المحافل والمؤتمرات دون تلميذ يرافق، أو مدرسة مبتكرة تتبنى استمرارية إمداد هذه الصناعة بعلماء متنورين همهم الارتقاء بصناعة المال الإسلامية، وبغض النظر عن الجنسيات التي يحملونها أو القدرة الكلامية التي يبرعون فيها، ولنبدأ بمحاكمة الإنتاج الاجتهادي لحلول مبتكرة للأدوات المالية الإسلامية، وأنظمتها التابعة، وهندستها.