مقال : الإسلام والرق – أ.د. عبدالجبار السبهاني

الإسلام والرق 

 بقلم :  أ.د. عبدالجبار السبهاني

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

 

  • هل شرع الإسلام الرق؟؟.
  • هل أقر الإسلام الرق؟؟.
  • أم أن له موقف آخر؟؟.

 

هذا ما ستجيب عليه السطور التالية، وقبل ذلك نتساءل:

  • من هم الرقيق (العبيد) ؟؟.
  • من يكون هؤلاء الذين استحقوا نقمة التنظيمات الاجتماعية إلى هذا الحد؟؟.
  • وما هي المصادر التي قذفت بهم في درك العبودية؟؟.

 

الرقيق بشر جردوا من الحقوق المدنية وصاروا محلا وموضوعاً للتملك من قبل الآخرين بإقرار التنظيمات الاجتماعية واعترافها؛ فالرقيق إذاً خرج من دائرة البشر ودخل في نطاق الأشياء التي تباع وتشترى وتملك وتوهب وتمارس عليها عناصر حق الملكية.

 

وتشير مطالعة المصادر التاريخية إلى أن الفرد يُزجّ إلى درك الرق من أحد المداخل الآتية:

(1) الخطف والقرصنة التي كانت تغذي أسواق النخاسة بموضوع تجارتها من البشر الذين استحالوا إلى أشياء لمحض تمكن الأقوياء منهم.

(2) الحروب والغزوات وما ينجم عنها من أسر يفضي إلى العبودية.

(3) القمار والميسر وهو من الآفات الاجتماعية الشائعة: أن يتقامر شخصان إلى أن ينتهي الأمر بأحدهما (أو أحد أفراد عائلته) إلى الرق.

(4) الإعسار في الدين؛ فحيناً يعجز الفرد عن سداد ديونه، ولا بد أن يعجز حتماً إذ إن قناة الربا تعمل لنقل القيم والثروة دوماً إلى المرابين، حينئذٍ يهوى المدين أو أحد أفراد أسرته في الرق.

(5) أبناء الإماء، وحيث لا حرية للعبيد في الزواج بل إن طاقاتهم الجنسية غالباً ما كانت تعطل – وقد نهى النبي r عن ذلك كما سنرى لاحقاً – فإن المسألة تغدو محصورة فقط بأبناء الإماء من الأحرار الذين لا يعترفون بأبنائهم.

(6) العقوبات التي كانت ترتبها الشرائع على من يرتكب جرما معينا من الأحرار فيتحول بذلك إلى عبد مسترق.

هذه هي مداخل الرق وهذا هو واقعه فما الذي فعله الإسلام لمعالجته؟؟.

يبدو إن الإسلام ما نظر إلى الرق على أنه علة بذاته، بل اعتبره أعراضاً لعلل كبيرة في الاجتماع الإنساني، وهذا يفسر لنا كيف أن الإسلام لم يتجه إلى علاج آني أو فوقي لمسألة الرقيق يقصر عن فهم طبيعة المشكلة وبالتالي يعجز عن الإحاطة بأسبابها، بل الذي يظهر أن الإسلام لم ينظر إلى مسببات الرق (مداخله) على انفراد، إذ لو كان نظر كذلك لفعل بالمخطوف ما يفعل على الأقل بالمال المغصوب ولفعل بالمقمور ما يفعله بكل عقد فاسد، ولفعل بالمدين (المسترق) ما يفعله مع غيره من إمهال ونظرة إلى ميسرة ورفدة من سهم الغارمين، ولأعفاه من وزر الربا الذي وضعه عن الناس.

 

إن المسألة أعقد حتى من مسألة عادة شخصية أو اتفاق عقدي كما هو حال معاقرة الخمور أو عقود الربا، لأجل ذلك جاء علاج الإسلام لمشكلة الرق ليس تصفية كمية لطبقة قائمة فحسب، بل علاجاً للخلل في الاعتقاد الإنساني، وتصحيحاً لقناعات عقلية حول وحدة الأصل البشري وتكافؤ أفراده، وتطبيقاً للنظم الإسلامية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الحياة العملية، وكل ذلك في إطار من التكييف النفسي لأفراد المجتمع: الأحرار والعبيد، يكفل القضاء على أي مظهر للتمايز الاجتماعي بالقضاء على دواعيه الذاتية والموضوعية.

إن هذا الكلام ليس كلاماً تحكمياً، إنما هو خلاصة النظرة الإسلامية بهذا الخصوص.  وسنحاول اكتشاف البرنامج الإسلامي لمعالجة مسألة الرق من خلال جرد وترتيب الأحكام الشرعية الواردة بهذا الخصوص، وكما يلي:

 

أولا: تصحيح النظرة الاجتماعية تجاه الرقيق

وقد تحقق ذلك عبر المبنى الاعتقادي والتشريعي والقيمي في الإسلام وكما يتضح مما يلي:

(1) توكيد وحدة أصل البشر وتوكيد آدمية الرقيق فهم ليسوا أشياء إنما بشر، وبشر مجبول من نفس مادة كل الآدميين وتسرى فيه ذات الروح التي نفخها الله في كل البشر: “… أنتم بنو آدم وآدم من تراب”؛ فلا مكان لمزاعم (أفلاطون) أو (أرسطو) أو (منو)، تلك المزاعم التي أرست التمايز وسوغته بفرية الاختلاف في الطبيعة أو الجبلّة الإنسانية.

(2) تصحيح وضع الرقيق وفق مبدأ الاستخلاف فهم والأحرار في العبودية لله سواء، ومقام العبودية لا يسع إلا مرتبتين حصراً: كونها حقاً لمستحقها على خلقه فهو المعبود سبحانه، وكونها حقاً على البشر والخلائق أجمع فهم عباده طوعاً أو كرهاً، {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} (مريم،93)، والرسول r يشير في معرض توكيده لهذه النظرة قائلاً: “لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي”.

(3) التأكيد على الأخوة البشرية عموماً، والتأكيد على أخوة الأحرار والعبيد بشكل خاص، قال تعالى: {أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين…}(الأحزاب،5)، ويقول النبي r: ” أخوانكم خولكم … فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس … “، وقد أكدت سنته الفعلية هذه المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار الأحرار منهم والعبيد.

(4) التأكيد على استيعاب هذه الرابطة (الأخوية) لبعدها القيمي والتقييمي في المجتمع الإسلامي؛ فهي ليست دعوى لتطييب خاطر طبقة مسحوقة فحسب؛ إنما هي إقرار أكيد لمعيارية جديدة، إذ يؤكد المولى سبحانه وتعالى: {… ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم … ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} (البقرة،221)، وبهذه الخيرية يضع الإسلام أُسس العلاقات الاجتماعية الرشيدة في المجتمع فالمسلمون حرهم (وعبدهم) بعضهم من بعض، {ومن لم  يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت إيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض …} (النساء،25). ويتعقب القرءآن الكريم المفاصلة بين المجتمع الجديد والقديم على أساس هذه النظرة فيقول: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر …} (الممتحنة،10).

(5) التأكيد على استيعاب هذه الرابطة لبعدها الحقوقي القانوني، ويتجلى لنا ذلك بوضوح تام يشير إليه الاتجاه العام في التشريع الإسلامي، فقد كان مبدأ تكافؤ الدم مبدأ معمولاً به قبل الإسلام فأقره الإسلام إلى حين: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى…}، ثم نسخه بقولهِ تعالى: {النفس بالنفس…}(المائدة، 45). وبالمعنى ذاته جاء هديه r مؤكداً تكافؤ القيمة الإنسانية: “من قتل (عبده) قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه ومن أخصى عبده أخصيناه”، وهكذا يؤكد الإسلام الخيرية في التقييم على أساس معيارية الإيمان الجديدة، ويؤكد المساواة أمام القضاء الإسلامي.

 

ثانيا: تغييض منابع الرق

بعد إن سوى الإسلام اعوجاج الاعتقاد والتواء النفوس انصرف لتسوية المجتمع وأوضاعه، وكان منطقيا أن يبتدئ بمنابع الرق فيردمها وكما يتضح فيما يلي:

 

(1) التغليظ في تحريم الخطف والقرصنة، وكان قضاء الله في هذا المصدر من مصادر الرق قضاء مبرماً، قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}(المائدة،33)، وهذه العقوبة بقسوتها تتناسب مع شناعة الجريمة؛ فالقرءان لم يتسامح في سرقة دراهم فكيف يتسامح في سرقة خلائف الله المكرمين، والنبي r في الحديث القدسي يعدد ثلاثة نفر خصهم الله تعالى بخصومته يوم القيامة، منهم “رجل باع حراً فأكل ثمنه”.

(2) تحريم الحروب الأهلية، والمبالغة في تحديد شروط الحرب الجهادية، وضبط نتائجها؛ فقد جعل القرءآن الكريم مصير الأسرى إلى أحد أمرين:

إما إلى المن أو إلى الفداء قال تعالى: {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداءاً}(محمد،4)، والكلام تفصيل لعاقبة ما قبله من شد الوثاق كما قرر (الآلوسي) في روح المعاني، وقال (رشيد رضا): “إن ظاهر التخيير بين الأمرين (يفيد) أن الأمر الثالث الذي هو الاسترقاق غير جائز”.

 (3) تحريم الميسر، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}(المائدة،90)، وبذلك قبرت ممارسة واحدة من الرذائل التي كانت سبباً في ولوج الإنسان وهدة الرق.

(4) تنظيم الدين وتوثيقه، ويؤثر عن الإسلام في ذلك أمران: أولهما إمهال المدين المعسر ورفدته من سهم الغارمين، وثانيهما: الحجر على المدين المماطل، وهذا آية التنظيم الحقوقي الذي لا يفرط بالحقوق ولا يهمه اعتبار سوى إقرار العدل؛ فإذا ثبت الاقتدار المالي لدى المدين وثبتت مماطلته حينئذٍ يحجر عليه لحين تسديده لدينه، ويجب أن لا ننسى أن هذا الدين دين نظيف من أي شائبة ربوية، فالربا حرام قطعاً مهما اختلفت مبرراته والمرابي مأذون بحرب من الله ورسوله، وقد أبطل الإسلام العقود الربوية القائمة .

(5) إلحاق أبناء الإماء بآبائهم فما عادوا من وجهة نظر إسلامية أبناء غير شرعيين في المجتمع لأن الإسلام نظّم ذلك ومنع أن يتصل بالأمة أكثر من رجل قال تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت إيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بأيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن …} (النساء،25)، فهو عقد نكاح شرعي، وقد “اعتبر الإسلام أولاد السيد من أمته أولاداً شرعيين لهم جميع حقوق الأبناء من الحرائر”.  وكان القرءآن الكريم قد أكد في معرض إبطاله لعادة التبني نسبة الأبناء إلى آبائهم، قال تعالى:{… أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله …} (الأحزاب،5).

 

ثالثا: تصفية طبقة الرقيق

وبعد أن أحاطَ الإسلام بالشروط الموضوعية والاعتقادية التي نجم عنها الرق وكفل حصانة المجتمع المسلم بإزائها التفت إلى طبقة الرقيق، وقد كان له البرنامج والإجراءات الآتية بصدد تصفيتها:

 (1)  تخصيص سهم من حصيلة الزكاة ينفق في تحرير العبيد قال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}(التوبة، 60)، إن تدعيم الموقف المبدئي بالسند المالي المتمثل بسهم الرقاب لهو خير دليل على جدية موقف الإسلام في هذا الصدد، ويمكن أن تضم إلى هذا السهم أسهم أخرى عند انتفاء الحاجة إليها.

(2) إلزام الأفراد بتخصيص جزء من أموالهم ينفق في هذا الغرض (تحرير الرقاب) قال تعالى:{ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا…} (البقرة،177)، ولقد بين الرازي في تفسيره لهذه الآية إن المراد بالإيتاء غير الزكاة المكتوبة، وأنه من الواجبات وليس من التطوع إذ أن: “في المال حقوقا سوى الزكاة”، وهكذا يتجلى لنا أن الإسلام يوجه فوائض الأموال لدى الأغنياء إلى تحرير الأرقاء بعد أن كانت توجه لاستعبادهم.

(3) المكاتبة؛ فبعد أن أعاد الإسلام البناء النفسي والشخصي للعبيد وأثبت لهم تكافؤ القيمة الاجتماعية مع الأحرار نراه يأخذ بيدهم صعداً في مدارج الحرية فيمنحهم حق طلب المكاتبة، والمكاتبة هي عقد بين (العبد) وسيده يتعهد فيه الأول بدفع تعويض مالي منجم (على أقساط) لقاء تخلي سيده عنه، قال تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت إيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم …} (النور،33)، ومن أحكام المكاتبة:

  • إن (العبد) إذا طلبها فقبولها واجب على سيده وقد سأل ابن جريح عطاء “أواجب علي إذا علمت له مالا أن أُكاتبه؟  قال ما أراه إلا واجباً …”.
  • يلزم ولي الأمر السيد الممتنع عن مكاتبة (عبده) بإجابته إلى ذلك قسراً فقد روى أن عمر t  ضرب أنساً بالدرة وهو يتلو الآية حينما رفض أنس طلب (عبده) سيرين للمكاتبة.
  • يعان العبد (المكاتب) بالمال لإنجاز عقد المكاتبة لقوله تعالى مردفاً في آية المكاتبة {… وآتوهم من مال الله الذي آتاكم …}.
  • إن “المكاتب يتحرر بأول نجم (قسط) يدفعه قلّ أو كثر، ويحسب الباقي ديناً عليه، روي هذا عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
  • ذهب بعض السلف إلى أن المكاتب يتحرر بمجرد إبرام عقد المكاتبة – ولو لم يدفع شيئاً – وليس للسيد أن يرجعه إلى الرق بعد ذلك، وإذا عجز عن دفع الكتابة، اعتبر مديناً معسراً يعان من سهم (الغارمين).

وهكذا نلاحظ كيف تهبّ دولة الإسلام حكومة وأفراداً لتنمية وتحقيق إرادة التحرر عند الرقيق.

(4) العتق الطوعي: وهو أن يتطوع المالك مختاراً، ودون مقابل يلتزم به المملوك، فيعلن تخليه عن (حقه) في ملكية العبد ويرد إليه حريته تقرباً إلى الله وطمعاً في مرضاته، قال تعالى:{فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة} (البلد،11)، وقال النبيr : “أيما رجل اعتق امرأً مسلماً، استنقذ الله بكل عضو منه عضواً من النار”، وقد كان النبي r أول من باشر بعتق الرقيق.

        (5) العتق الإلزامي أو عتق التكفير، وهو أن يلزم المكلف شرعا بتحرير المملوك تكفيرا عن مخالفة دينية أو مدنية ارتكبها، والسند الشرعي لهذه الممارسة الإسلامية قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود،114)، وقد كان العتق كفارة لكثير من الممارسات المحظورة فمن ذلك:

  • العتق كفارة القتل الخطأ، قال تعالى: {… ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة. وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة …} (النساء،92).  قال (النسفي): “لما أخرج ،القاتل، نفساً مؤمنة من جملة الأحياء، لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق كأحيائها من قِبل (حيث أن) أن الرقيق ملحق بالأموات، إذ الرق أثر من آثار الكفر، والكفر موت حكماً {أو من كان ميتاً فأحييناه}(الأنعام،122)”.
  • العتق كفارة الظهار، والظهار من صيغ الطلاق قبل الإسلام، قال تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} (المجادلة،3).
  • العتق كفارة الحنث باليمين، قال تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان فكفارته … أو تحرير رقبة} (المائدة،89).
  • العتق كفارة الإفطار في رمضان، فمن أفطر في نهار رمضان بلا عذر فعليه ما على المظاهر.
  • العتق كفارة النذر لقوله ِr : ” كفارة النذر كفارة اليمين”.
  • العتق كفارة لطم العبد: قال r: “من لطم مملوكاً له أو ضربه فكفارته أن يعتقه”، بل العتق كفارة شتم المملوك، فقد أورد الإمام الغزالي قولاً للإمام الزهري يعكس هذا الفهم قال: “متى قلت للمملوك أخزاك الله فهو حر” !!.

  وهكذا تلحظ المفارقة التي سنها الإسلام في هذا الباب؛ فعلى حين كانت الشرائع القديمة تعاقب من يرتكب جرماً معيناً بالاستعباد فإننا نجد الإسلام يعاقبه بالتحرير.

 وإضافة إلى ما تقدم تجد أن الإسلام قد جعل للعتق أسباباً ومناسبات عديدة منها:

  • إذا دخل العبد دار الإسلام هارباً من مجتمعه.
  • إذا تمرد العبد على مجتمعه ودخل في الإسلام.
  • إذا تلفظ السيد بالعتق ولو كان هازلا.
  • إذا تلفظ السيد بالعتق ولو كان سكرانا.
  • إذا ادعى الملوك الحرية، فلو كان في يد رجل غلام ادعى أنه عبده، فكذبه الغلام وقال أنا حر، فالقول ما قاله الغلام مع يمينه (مع يمين الغلام).
  • إذا اُختُلف في اللقيط، فادعى المسلم أنه عبده، وادعى الكافر أنه ابنه، فالقول قول الكافر.
  • إذا اشترى مستأمن في دار الإسلام عبداً مسلماً وادخله دارهم عتق.
  • إذا ملك المسلم ذا رحم محرم عتق عليه.
  • إذا كسفت الشمس؛ فقد سن النبي r العتاقة وقت الكسوف.

 

وهكذا يلاحظ من كل ما تقدم إن الإسلام كان يتشوف للتحرير ويلتمس أسباب العتق، وقد كان هذا الاتجاه واضحاً في نهجهِ r وواضحاً تمام الوضوح في فهم أصحابه ومقرراتهم، وواضحا أيضاً في تصور جموع المسلمين وعلمائهم.

(6) خصوصيات المرأة وهدى الإسلام:

      إذاً كانت الكرامة الإنسانية هي ضالة الإسلام والفضيلة هي الظلال التي ينشرها للناس فلم يكن ليقف عند حد إعطاء حرية مفرغة من محتواها لمرأة ضاع من عمرها الكثير في وهدة الرق وأمامها مستقبل مجهول تحيط بها دواعي الاغتراب من كل جانب، لذلك فقد جاءت معاملة الإسلام للإماء متميزة بلفتة حانية أخرى تزيد عن تلك التي عامل بها الرقيق (الذكور) يقول الأستاذ العقاد:

“ومن وجوه الخلاف بين رق المرأة ورق الرجل أن العتق بر كبير بالإنسان الذي سلبت حريته، وهانت على الناس كرامته، ولكن العتق لا يؤول بالجارية إلى حرية تغبط عليها، وهي بلا عائل ولا زوج، وربما نقلها العتق من العبودية لسيد واحد إلى العبودية لكل سيد تأوي إليه … نظرت شريعة القرءآن الكريم إلى الفارق بين الرجل والمرأة في أمر العتق فعملت على نقل النساء المملوكات من رابطة العبودية إلى رابطة الزوجية…”.

إن المسلم لا تليق به زوجة غير مسلمة لذا جاء التوجيه القرءاني: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر …} (الممتحنة،10)، وجاءَ ليفضل الأمة المؤمنة على الحرة المشركة: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} (البقرة،221)، وأمر سبحانه بتزويج الأيامى والعبيد الذين وعدهم الله من فضله، قال تعالى: {وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} (البقرة،32).

ومن هديه r قوله “أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها وأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله بذلك أجران”، ومن هديه r ما فعله مع (جويرية بنت الحارث) وكانت قد كاتبت سيدها وجاءت تطلب العون على أداء كتابتها من النبي r، فقال لها النبي r : فهل لك إلى ما هو خير؟ قالت: وما هو؟ قال: أأدى عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: قد فعلت”. فتزوجها النبي r فكانت سيدة من سيدات بيت النبوة وأما للمؤمنين كما قرر رب العالمين.

هكذا قال محمد r وهكذا فعل، وهو حينما يقول ويفعل r إنما يسن تشريعاً للأمة!!.

فالإسلام إذاً كما عامل الرقيق عامل الإماء، وأضافَ هنا بعداً إنسانياً بل أساساً موضوعياً لكفالة حرية الأمة المعتوقة وإلا فما جدوى عتقها مع الاضطرار الاقتصادي ومع التجهم الاجتماعي؟؟ ولعمر الحق إن الإسلام دين القيمة.

 

مما سبق يتأكد لنا عمق المعالج الإسلامية واستيعابها وجديتها، فبوضوح تام أمكننا أن نرصد حراكاً اجتماعياً Social Mobility فاعلاً، وباتجاه واحد: هو مغادرة الرق وما يرتبط به من أُسس تمايزية.

إن الإسلام لم يعلم المسلمين أن الرق سوأة ويجب التخلص منها وحسب، وإنما علمهم كيف يتخلصون ويخلصون الناس منها، ولقد كانت منهجية الإسلام ضرورية جداً بقدر موقفه المبدئي، ولعل من سوء حظ البشرية أن تصدف عن هذا الموقف المبدئي، وتعرض عن هذه المعالجة ومنهجيتها التي كان يمكن:

  • أن تختزل عمر الرق في الاجتماع الإنساني إلى حد كبير فما كان له معها أن يعمّر حتى القرن العشرين.
  • أن تحصّن مجتمعات اليوم من الرق الخفي أو ما يعرف بظاهرة الاتجار في البشر التي رعاها السوق الرأسمالي رغم كل النظم والتشريعات الوطنية والأممية المعاصرة.
  • أن تقنع كثيرا من المستشرقين والمستغربين لو أنصفوا، فيكفوا عن اجتزاء المواقف من سياقاتها التاريخية، ويكفوا عن اجتزاء الأحكام من سياقاتها التشريعية، ويرعووا عن شهادة الزور التي تطوعوا بها ضد الإسلام، والتي تقضي بأن الإسلام قد شرع الرق أو أنه أقره!!.

{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.

وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين،

والحمد لله رب العالمين.

مصدر المقال :

http://faculty.yu.edu.jo/Sabhany/default.aspx?pg=a873ca47-300f-4aa1-87a8-1ce941b361dc