أسواقنا … وأسواقهم
بقلم : أ.د. عبدالجبار السبهاني
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والآه، وبعد:
فقد برز دور الأسواق المالية في المجتمعات الغربية في أعقاب الثورة الصناعية التي استدعت مزيداً من رؤوس الأموال تقصر عنها الموارد الذاتية للمستثمرين، فحين يعجز المؤسسون لمشروع ما عن توفير رأس المال اللازم لتمويل نشاطه، فإنهم يلجأون إلى مشاركة الغير أو الاقتراض منه، وفي كل الأحوال ماعادت حجوم التمويل الكبيرة تحتمل العلاقة المباشرة بين الممول والمتمول، وكان لابد من وجود الأطر المؤسسية التي توفق بين ممولين ومتمولين كثر لا يعرف بعضهم بعضا، فكانت الأسواق المالية هي الحل في الواقع الجديد، والأسواق المالية أو البورصات هي أسواق معينة الزمان والمكان تحكمها أنظمة ولوائح، وفيها تتم عمليات اصدار الأوراق المالية (الأسهم والسندات) وفيها أيضا تتم عمليات تداولها، فقد استعاضت السوق عن عمليات الاقراض والاقتراض المباشر بإصدار سندات المديونية التي تثبت لمن يكتتب بها دَيْناً معلوماً ومضموناً في ذمة المشروع المقترض مع الفائدة الربوية التي تستحق على أصل هذا الدين.
وراحت الأسواق المالية أيضا تعقد مشاركات من نمط جديد (شركات مساهمة) عبر آلية التسهيم، حيث يجّزأ رأسمال المشروع الذي يعتزم إقامته (يسّهم) إلى أجزاء صغيرة متساوية القيمة (أسهم) يسهل على صغار المدخرين الاكتتاب بها، ويتحصل مـن مجموعها رأس المال الذي يتعذر توفيره من شركاء محدودي العدد وبعلاقة عقدية مباشرة. وهذه الأسهم تثبت لمن يكتتب بها حصة شائعة معلومة في المشروع المنوي إقامته، وهذه الحصة تؤهل الشريك للربح حال تحققه، كما أنها ترتب عليه تحمل الخسارة عند حدوثها؛ فالسهم بالمعنى المتقدم مركز قانوني وعقدي للشريك إزاء الشركة، والسهم أيضا ورقة توثيقية تثبت هذا المركز وتكتسب صفتها المالية منه.
وواضح إن الأسواق المالية وآليات التسهيم فيها بقدر ما حلّت لوحدات العجز مشكلة نقص رأس المال، فإنها حلّت أيضا لوحدات الفائض مشكلة البحث عن فرص الاستثمار، وبالنتيجة حققت المكاسب للمجتمع ككل.
إن العناصر الرئيسة في آلية التسهيم التي فعلّتها الأسواق المالية بكفاءة تتلخص في الآتي:
1. تجزئة القيم محل الشركة إلى حصص أو أجزاء متماثلة تمثل الحد الأدنى للمشاركة في المشروع الذي صدرت هذه الأسهم لتمويله في السوق الأولى: سوق الإصدار.
2. توثيق عائدية هذه القيم عن طريق إصدار وثائق نمطية: أسهم أو صكوك أو سندات، تثبت ملكية حائزها لما تمثله من حصص في محل الشركة، وتكفل الأسواق المالية بمؤسساتها المختلفة سلامة عملية الإصدار هذه وقانونيتها.
- توفير آلية لتداول هذه الوثائق بعد مدة من الاكتتاب بها في الشق الثاني من السوق المالي: سوق التداول.
وإذا كان اعتماد مصطلح التسهيم هو اختيارنا للتعبير عن هذه الآلية، فإن ذلك لا يمنع الإشارة إلى مصطلحات أخرى أبرزها: التصكيك أو التسنيد، الذي ينصرف غالبا إلى الفعالية الثانية من فعاليات التسهيم، وهي فعالية توثيق ملكية الحصص بوثائق مستندية: “صكوك” معتمدة لدى الجهة المصدرة لها، ولدى السلطات العامة.
أما المصطلح الآخر فهو مصطلح التوريق، وينصرف من حيث المبدأ إلى تحويل القيم الحقيقية القائمة: الأصول القائمة أو الديون، إلى أوراق مالية عالية السيولة أي قابلة للتداول السريع؛ فالبعد التوثيقي في التصكيك هو الأظهر، واستهداف التسييل في التوريق هو الاعتبار الأظهر، ويبقى مصطلح التسهيم فيما أراه والله اعلم، هو الأدق والأعم دلالة على ما نحن بصدده.
ويتضح من هذا أن الدافع وراء التسهيم لم يعد فقط جمع المال وحشد الشركاء، إنما صار يهدف إلى إيجاد أصول مالية أكثر سيولة من الأصول الحقيقية التي تمثلها، وأكثر مرونة عند إدارة المخاطر، وإلى الارتباح من عملية إصدار هذه الأصول ومن تداولها.
ومما تقدم تبدو الفروق واضحة بين أداء الأسواق المالية ونتائج عملية التسهيم بصورتها التاريخية تلك، وبين عملية التسهيم في أسواقنا المالية؛ إذ اقتصر دور التسهيم فيها على تمثيل الأصول الحقيقية القائمة بصور جديدة قابلة للتداول، ومن هنا وجدنا الاهتمام في أسواقنا المالية قد تحول من السوق الأولي الذي ينبغي أن يكون معنيا بتعبئة المدخرات لاستثمارها في أصول جديدة، إلى السوق الثانوي حيث تتداول فيه الأصول القائمة، حيث تعتبر حجوم هذا التداول أوضح المؤشرات على فاعلية السوق المالي!!.
إن آلية التسهيم في أسواقهم استطاعت أن تنجز عدة أهداف متزامنة أبرزها حشد التمويل اللازم، وتيسير السيولة، وتوفير أدوات مالية يجري التعامل فيها بمرونة، وكل ذلك مكّن الأسواق المالية أن تروج نفسها من خلال فكر عريض، تقوم عليه مؤسسات محلية وعالمية، إلا إن ذلك لا يمنعنا من تسجيل ابرز الآثار السلبية لأسواقنا والتنبيه على مخاطرها كما يلي:
أسواقنا المالية والخصخصة
إن المسار الأكثر حرجاً لنشاط أسواقنا المالية، هو ذاك الذي دفعت إليه الخصخصة، وما مثلته من إلجاء إلى تسهيم أو توريق المشروعات والمرافق العامة، وبيعها للقطاع الخاص بدعاوى الكفاءة أو تسوية عجز الموازنات وسداد المديونيات.
وهنا لا بد من التفريق بين دور النشاط الخاص ومشروعيته وأهميته – فهذا ليس بمحل خلاف أبدا – وبين الخصخصة باعتبارها توجها جديدا ألزمت بها المنظمات الدولية، البلدان النامية بهدف تصفية القطاع العام، وتجريد الدولة من مواردها المالية، وكان تسهيم قيم “المشروعات العامة” القائمة أو توريقها وإنجاز مهمة خصخصتها هو الدور الذي أوكل إلى الأسواق المالية المحلية مع التوجهات الاقتصادية الحديثة، التي فرضت على بلداننا بعد تغوّل نظام السوق، وعولمة فلسفته الاقتصادية، فيما عده منظرو النظام الرأسمالي – زهوا واستطالة – نهاية للتاريخ!!.
وبحسب منطق القوم، فإن ما هو مطلوب من الأسواق عامة، والأسواق المالية بوجه خاص هو تصفية أي أثر للاقتصاد العام، سواء على صعيد الفلسفة الاقتصادية التي تكلف الدولة أدورا تنموية واجتماعية، أو على صعيد التشكيل المؤسسي، وذلك بتصفية مشروعات القطاع العام باعتبارها “العقبة الكئود” في سبيل النمو الاقتصادي، على حد وصف البنك الدولي، الذي زعم أن التدخل الحكومي في الحياة الاقتصادية له كلفة تفوق أي عوائد محتملة!.
وهكذا استلزمت التوجهات العولمية تحضيرا استباقياً للاقتصادات الوطنية، من خلال الدعوة إلى خصخصة الملكية العامة، وأقرنت ذلك بإضفاء حكم تقديري على هذه التغيرات الملزمة بنزع قوامة الدولة، وتسفيه إداراتها للملكية الاجتماعية، فعدّت كل ذلك إصلاحا اقتصاديا وتصحيحا هيكليا!!.
وكان من ثمار هذه التوجهات التي أملتها المنظمات الدولية أن سُلبت الوظيفة الاقتصادية للدولة، وسُلب معها التشكيل المؤسسي اللازم لأدائها، تلك الوظيفة التي يُنظر إليها من زاوية الفكر التنموي على أنها مسؤولية تاريخية للدول النامية لإخراج شعوبها وبلدانها من وهدة التخلف، وينظر إليها من زاوية المذهب الاقتصادي الإسلامي، وهو الأهم، على أنها تكليف شرعي خالد يتعين على أي دولة راشدة أن تنهض به وتحافظ على شرائطه.
إن الملكية العامة أو ما صار يعرف بالقطاع العام الذي انبثق في مرحلة مبكرة من عمر الدولة الإسلامية ممثلا بموضوعات الاستخلاف الاجتماعي: أصول المنافع العامة والحمى والوقف والموارد المعدنية وكثير من الأراضي الزراعية (أراضي الفتوح)، هي ركن ركين من أركان الاقتصاد الإسلامي وشكل أصيل من أشكال التملك، وإذا كان الأمر كذلك، فلا ينبغي لاقتصادات مسلمة حريصة على مصالح شعوبها، وأمينة على تكاليفها الشرعية، أن تنهال عليه شرذمة وتجزيئا من خلال التسهيم، لتعده للبيع بحجة تفعيل الأسواق المالية، وبحجة الكفاءة الاقتصادية.
إن الكفاءة مسألة إدارية صرفة، ويمكننا إذا كنا حريصين عليها، وينبغي أن نكون كذلك، أن نعتمد برامج جدية لإصلاح الإدارة لا أن نعتمد برامج بيع الموارد والمشروعات العامة.
أسواقنا المالية وتمويل التنمية
لعل من ابرز الآثار السيئة التي اقترنت بنشاط أسواقنا المالية هو تحولها إلى آليات فاعلة لترحيل رأس المال المحلي والإقليمي إلى السوق الدولية عبر صناديق التحوط وصناديق الاستثمار، وحتى الإسلامية منها سارت في ذات المسار فقد أفصحت برامجها المعلنة عن اختصاصها بالمتاجرة بأسهم مشروعات أجنبية: يابانية أو أوربية أو أمريكية.
وما تقدم يعني بكل وضوح إن هذه الصناديق التي أثبتت كفاءة عالية في مجال استقطاب المدّخرات المحلية – خاصة بإعلانها الالتزام بالأحكام الشرعية في توظيف هذه المدخّرات – صارت آليات كفوءة لترحيل الموارد المالية إلى السوق الدولية في وقت تمسّ الحاجة إليها في الداخل؛ فأين نحن من المقاصد الراجحة؟!، وأين نحن من نظرية التنمية؟!.
لقد ظلت كل الدراسات الاقتصادية تنحي بلائمة التخلف على ندرة رأس المال، واحتلت نظرية حلقة الفقر الخبيثة مكانة مركزية في هذه الدراسات، وفي ضوء هذه القناعة استدرجت جل البلدان الإسلامية إلى فخ المديونية – بالاقتراض – لردم فجوة التمويل!!.
ولما لم تفلح هذه البلدان في إحداث التنمية المنشودة، استدرجت مرة أخرى لتستضيف رأس المال الأجنبي، الذي أوكلت إليه مهمة النهوض بتنمية العالم النامي والعالم الإسلامي، وكان التبرير أيضا ندرة رأس المال المحلي!!.
والسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه: إذا كان هذا هو واقع الحال، فهل يسوغ أن ننتج الآليات ونوفر الوسائل، التي تقوم على ترحيل أموال الأمة إلى السوق الدولية، في وقت تكون فيه الأمة أحوج ما تكون إليها؟؟.
أيكفي التزام هذه الصناديق بأحكام الصرف، وبعدها عن الربا، وعدم متاجرتها باسهم شركات الخمر والخنزير، ليكسبها المشروعية ؟! فماذا عن استمرار نزف موارد الأمة ؟؟.
وأين نحن من مقاصد الشريعة التي تغّلب المصلحة العامة على الخاصة، والتي تفترض سلّما لأولويات المجتمع المسلم…؟!، لا شك أن منطق الحسابات الخاصة للمساهمين والمضاربين الذي يستمثل فرص الربح بكفاءة في الداخل والخارج، يتعارض كما هو واضح، مع المصالح العامة للأمم والشعوب، ومطلوب من السياسة الشرعية أن تفصل في هذا التعارض والتضاد، خاصة بعد أن أكد أكابر المضاربين الطبيعة الأنانية وغير الأخلاقية للمضاربة.
مفارقات صارخة
وإنها لمفارقة تستوقف المتأمل، أن يكون التسهيم في الأسواق المالية الغربية آلية لتعبئة الموارد المالية الضخمة التي يعجز عن توفيرها الأفراد، وأن يكون التسهيم عندنا آلية لتفكيك رأس المال الاجتماعي، وشرذمة القطاع العام ومشروعاته القائمة وعرضه في الأسواق، ليشتريه المتربصون من المواطنين، ومن الأجانب الذين يستترون خلف مواطنين.
وإنها لمفارقة أيضا أن يكون التسهيم عندهم وسيلة لتمويل الاستثمار الحقيقي وتوسيع الطاقة الانتاجية، ويكون عندنا مجرد وسيلة لتوريق الأصول القائمة وتسهيل عملية تداولها في أحسن الأحوال، إن لم وسيلة لبخس قيمتها من خلال التواطؤ والفساد الإداري، ومن خلال المضاربات الهدامة وتقلبات الأسعار العشوائية والمصطنعة!!.
وإنها لمفارقة أيضا أن يكون التسهيم عندهم سببا لاستقطاب رأس المال من شتى بقاع الأرض لرفد النمو، وان يكون التسهيم عندنا آلية لترحيل ما يتاح من رأس المال المحلي وحرمان الاقتصاديات المتخلفة منه.
إن اقتصاد السوق معذور في الترويج لفلسفته الاقتصادية، لأنها تحقق مصالحه، بل مصالح رأس المال الخاص، فما بالنا نتعقب خطاهم ونسلم لهم القياد دون تثبتٍ وتحسبٍ للعواقب؟!
علينا أن ندرك الأهداف الإستراتيجية لنظام المشروع الخاص، ومن خلفه بيوت المال التي تريد أن تستبيح العالم، كل العالم وتمهد لذلك بمنظومة من الإجراءات التحضيرية، وعلى رأسها الخصخصة وتفعيل الأسواق المالية على حساب دور الدولة، وعلى حساب الحق الاجتماعي واعتبارات المصلحة العامة.
إن بمقدور المرء أن يتفهم أهمية التعايش مع الغير، لكن من العسير أن يتفهم الإصرار على الذوبان في الغير والتوحد معه في نظامٍ اقتصاديٍ قضى على بلداننا بالتهميش والتبعية ولم يزل يفعل…!!.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين
مصدر المقال :
http://faculty.yu.edu.jo/Sabhany/default.aspx?pg=5a547649-2363-4a2d-9b5e-a51f26542c05
أحدث التعليقات