تداول أسهم … أم مضاربة؟
بقلم : أ.د. عبدالجبار السبهاني
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والآه، وبعد:
يقصد بتداول الأسهم توالي (تعاقب) بيعها في سوق الأوراق المالية، وحيث إن السهم حصة شائعة معلومة في الشركة، ترتب لمالكها حقا في الربح، وتوجب عليه الخسارة بحسب نسبة هذه الحصة إلى مجموع قيم الأسهم، وحيث إن الشركة المساهمة بطبيعتها لم تقم على أساس العنصر الشخصي في المساهم، إنما قامت على أساس وحدة مالية يتقدم بها الشريك المساهم هي قيمة السهم، لذا فالأصل أن لا مانع من إعادة بيع هذه الأسهم بما تمثله من حصص في سوق الأوراق المالية، وما يعنيه ذلك من حلول المشتري في المركز القانوني للبائع بكل ما يرتبه هذا المركز من مغانم أو مغارم.
وبهذا المعنى جاء القرار الأول لمجلس المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي مؤكدا هذا الأصل: “إن العقود العاجلة على أسهم الشركات والمؤسسات، حين تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعا”، فقد تقرر فقها: جواز بيع حصة الشريك لشريكه، أو لغير شريكه إذا أمن الضرر، وجواز بيع المشاع إذا تم تحديده تحديدا نافيا للغرر والجهالة؛ والسهم كذلك: حصة شائعة معلومة منسوبة رأس مال معلوم.
وجواز تداول الأسهم مقيد أيضا، بمشروعية النشاط الذي تمارسه الشركة التي أصدرتها، وبمراعاة أحكام الصرف إذا كان رأس المال لم يزل نقدا، وأحكام الديّن إذا كان رأس مال الشركة ديوناً، أما إذا كان خليطا فالحكم للغالب.
كل هذا كلام سليم لا غبار عليه، لكن الغبار كل الغبار يثور حول المضاربة التي تشكّل نسغ الأسواق المالية، فما المضاربة؟ وأين نحن من تكييفها أو تخريجها على مشروعية بيع الشريك لحصته الشائعة؟!.
يقصد بالمضاربة كما هي في الواقع: إتجّار صوري مستمر في الأسهم (حقوق الملكية) وذلك بتوالى عمليات البيع الصورية (بلا قبض أو تسليم بل ودون تملك أو حتى نية تملك) انتهازا لفرص تحقيق أرباح رأسمالية (لا إيرادية) ناجمة عن تقلب (أو تقليب) أسعار الأسهم، في أوضاع مؤسسية تتيح للكبار وصنّاع السوق سبق المعرفة والتحكم الذي يؤمن لهم المكاسب على حساب جموع المسترسلين والأغرار.
إن المضارب يهتم باتجاهات الأسعار الآنية للأسهم أكثر من اهتمامه بغلّتها السنوية (الأرباح التي يتوقع توزيعها)، بل وأكثر من اهتمامه بما تكون عليه قيمة الأسهم على المدى البعيد، وهذا السلوك يترك آثارا سلبية على كفاءة سوق رأس المال، وعلى الشركات المساهمة ذاتها إذ أن انشغال حملة الأسهم بمتابعة تقلبات أسعار البورصة طوال الوقت، يضعف الشعور الانتمائي للمساهمين تجاه شركاتهم، ويكرس بقاء الإدارات غير الكفوءة بسبب بعدها عن المراقبة والمحاسبة.
وفي المضاربة أيضا تحتل الاستخدامات قصيرة الأجل للموارد المالية (السيولة)، المقام الأول في اهتمام المضاربين بعيدا عن الاستثمار الحقيقي، وهو أمر رآه زعيم المضاربين في عصره – كينز- سببا للآفات التي تعصف بالاقتصاد المعاصر، ولذلك فهو يدعو إلى تحصين الاستثمار منها لتتحقق له الجدية والاستقرار، فيقول:
“إذا جعلت عمليات الاكتتاب دائمة، وغير قابلة للإلغاء، باستثناء حالات الموت أو الأسباب القاهرة الأخرى، فأن ذلك سيكون معالجة ناجعة للويلات الاقتصادية المعاصرة، لأن ذلك يجبر المستثمرين على تركيز انتباههم على الفرص الاستثمارية طويلة الأجل حصرا”؛ فالمطلوب إذا شركة دائمة تنطوي على استثمار حقيقي طويل الأجل، ويتحقق فيها انتماء المساهمين لشركاتهم، لا مضاربة تتسمر عيون المساهمين فيها والمضاربين على شاشات البورصة، وتجعل المساهم يتبرأ من أسهمه وشركائه عند أول سانحة مضاربية لجني الأرباح.
إن الارتباط بين المضاربة والأزمات المالية والاقتصادية أصبح أمرا مؤكدا ومعللا، وكما يقرر كينز أيضا؛ فسلوك السواد الأعظم من المستثمرين المسترسلين، والمستند إلى استقراءات سطحية، يكون عرضة لتحولات شديدة ومفاجئة في اتجاهات متعاكسة، بسبب تبدل قناعاتهم وعدم رسوخها، مما يقود إلى زعزعة النشاط الاقتصادي.
ويتعاظم الخطر أكثر فأكثر كلما تحولت السوق إلى المضاربة وأصبح الاستثمار: “الدائم غير القابل للإلغاء” استثناء من أنشطتها؛ فعندئذ تبلغ المضاربة ذروة خطورتها على الاقتصاد والمجتمع، وبسبب هذه المضاربة لم يكف القطاع المالي، ولن يكف عن تصدير المشكلات إلى القطاع الحقيقي وهو أمر مشهود!!.
ترى هل يمكن القول بعد ذلك ان المضاربة هي مجرد عمليات تداول للأسهم؟!. وحتى إذا اعتبرنا المضاربة تداولا بريئا للأسهم فهل يقتضي ذلك إطلاق هذا التداول بعيدا عن عين السياسة الشرعية؟!.
فقه الأسواق المالية
برغم بدوّ ضرر المضاربة وبرغم توالي الشهادات ضدها، فان الفقه المعاصر للأسواق المالية الإسلامية، يبدو أكثر تسامحا مع المضاربة من فكر أئمة المضاربة الوضعيين أمثال كينز وسورس، ومن فكر سواد المراقبين وطلاب الاقتصاد؛ فقد اجتهد بعض أعلام هذا الفقه في بيان محاسن المضاربة وفوائدها، وأشاروا أن ليس من قائل بتأبيد المشاركة وتقييد تداول الأسهم، كما دافعوا عن تمحض استهداف ما سموه ربحا رأسماليا بتعقب فروق الأسعار، واعتقدوا إن في ذلك فائدة تتمثل في تحريك الأنشطة المختلفة وإن ذلك مما ينطبق عليه الحديث: “دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض”، وإن ما يخشى وقوعه من ضرر أو ما وقع فعلا، مبعثه إهمال الضوابط الشرعية لبيع الأسهم.
والذي أراه والله اعلم، إن الوصول إلى استنتاجات عفوية وعريضة على هذا النحو الذي يبرر منطق الأسواق المالية، ويضفي عليها المشروعية بعد كل ما تكشف من عبثيتها وأنانيتها، أمر في غاية الخطورة، وفيه افتئات على الولاية الشرعية لأولي الأمر، تلك الولاية التي توجب سياسة الرعية بما يحقق المصلحة العامة.
إن القول بحرية الحركة وهو أصل مشروع، لا يلغي صلاحية ولي الأمر بتقييد السرعة وتعيين اتجاهات السير، وإلزام الناس بنظم المرور، وليس في كل ما تقدم نقضا لذاك الأصل!!. ولا احسب إن أحدا يجحد مخاطر المضاربة، ولو التزم المضاربون تماما بأحكام الربا وأحكام الديّن، ولو ابتعدت المضاربة تماما عن التظليل والإشاعات.
أما الحديث الصحيح: “دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض”، فيصعب توقيع دلالته على المضاربات، فسياقه النهي عن بيع الحاضر للبادي: أن يكون له سمسارا، وهو يشير إلى عمليات بيع حقيقية تظهر آثارها في محلات العقود، وترتبط بها فعاليات الاستهلاك والتجارة الحقيقية، وليس في المضاربة شي من هذا.
بل إن المتمعن في الحديث يجد فيه تأصيلا لتوجه عام في التشريع الاقتصادي الإسلامي يمنع المضاربة، يتأكد ذلك بالنهي عن السمسرة، وباختزال الوساطة غير المنتجة، ويتعزز هذا التوجه، بتواتر النهي عن بيع الطعام قبل قبضه كما ثبت في مصنفات الحديث، وهو نهي رءاه حبر الأمة يعم جميع العروض: “ولا أحسب كل شي إلا مثل ذلك”.
إن منطق المضاربة يفضي إلى أن يأكل الناس بعضهم بعضا، وهذا ما نشاهده ونتلمس آثاره خرابا في البيوت وانهيارا في الأسواق، يقود إلى انهيارات اقتصادية متوالية، ولا يستفيد من كل ذلك إلا ثلة تنعق على أطلال المنكوبين بهذا الطاعون الذي اسمه المضاربة، ولا احسب إن الشرع يتسامح مع شيء مما تقدم.
وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي أن ينزه الحديث عن أن ينزل هذا المنزل؛ فالشريعة الإسلامية تدافع عن المسترسلين؛ فـ “غبن المسترسل حرام”، وتحتاط للمخلوبين؛ فـ “إذا بايعت فقل لا خلابة”، فهي ليست كالقانون الوضعي الذي يتنصل عن حماية المغفلين، ومنطقها ليس كمنطق البورصة الذي يجيز مخاتلة الأغرار، ويجيز التضحية بالمصالح العامة لأجل مكاسب ضيقة تجنيها ثلة المتربصين.
وإذا كان البيع على (الفرد) الضعيف – هكذا بوب الأمام البخاري للحديث – استدعى تشريعا لحمايته، فكيف يكون الأمر مع الجمهور الضعيف… ألا يستدعي وقفة لحمايته؟؟.
إن المسالة بتوكيد تتعلق بسياسة حكمية وليس فقط بأحكام فقهية حول جواز بيع الحصة الشائعة المعلومة، وهذه السياسة هي الحلقة المفقودة في مناقشة الموضوع.
نعم، وإن كان جواز تداول الأسهم هو الأصل، فإن تقدير الواقع ينبغي أن يخضع للسياسة الشرعية، وما تراه محققا للمصلحة العامة، إذ إن تسهيم رأس المال في أسواق الإصدار لا يشترط بالضرورة إطلاق إجازة التداول في الأسواق الثانوية، لا من الناحية الشرعية، ولا من الناحية الاقتصادية، وهذا يجعلنا أكثر تقبلا لفكرة تقييد هذه الإجازة مع بدوّ ضرر إطلاقها، سواء بتحديد عدد المرات البيع أو اشتراط مرور مدة معينة بين موعد البيع والبيع التالي، أو أي إجراء تراه السلطة محققا للمصلحة وواقيا من ضرر المضاربة أو دارئا له.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
مصدر المقال :
http://faculty.yu.edu.jo/Sabhany/default.aspx?pg=b5f54316-39d1-423b-9647-143548468b84
أحدث التعليقات