أسلحة الدمار المالي الشامل – د.سامي بن إبراهيم السويلم
قبل نحو ستة أعوام، وتحديداً في فبراير 2003م، ألقى (وارن بافيت)- أحد أغنى أغنياء العالم ومن أنجح المستثمرين ورجال الأعمال- خطابه السنوي أمام الجمعية العمومية لشركته بيركشاير هاثواي (Berkshire Hathaway). في هذا الخطاب وصف (بافيت) المشتقات المالية بأنها “قنابل موقوتة للمتعاملين بها وللنظام الاقتصادي”. وأضاف: “إنها مثل جهنم: يسهل الدخول إليها ويكاد يستحيل الخروج منها”. ويقول: “إن الصورة الكلية خطرة وتتجه نحو الأسوأ”. ثم ختم تعليقه بقوله: “إننا نعتقد أن المشتقات أسلحة مالية للدمار الشامل“.
حينما أطلق (بافيت) هذه التصريحات، وقف البعضُ منها موقف الاستغراب، وبعضهم موقف الاستنكار؛ لأن المشتقات -في نظرهم- أدوات مبتكرة لإدارة المخاطر وتوزيعها بكفاءة، ومن ثم السيطرة عليها وتقليلها. لكن الأيام- للأسف- أثبتت بُعد نظر هذا الرجل وصدق حدسه؛ فالكارثة المالية التي تجتاح العالم اليوم أحد أهم أسبابها هو المشتقات المالية، خاصة المشتقات الائتمانية (credit derivatives)، أو أدوات مقايضة مخاطر الائتمان (credit default swaps). فما هي هذه المشتقات؟ وكيف أدّت إلى الكارثة التي نعيشها الآن؟
المشتقات الائتمانية
المشتقات أدوات لتبادل المخاطر. والمشتقات الائتمانية، أو أدوات مقايضة مخاطر الائتمان، لا تعدو أن تكون في جوهرها عقد تأمين: طرف يدفع رسوماً مقابل أن يتعهد الطرف الآخر بأن يدفع له قيمة الدين المؤمَّن عليه حال عجز المدين عن السداد. كيف أسهمت هذه الأدوات في الكارثة؟
عندما يقرض البنك شخصاً، فإنه يحرص على أن يأخذ الضمانات الكافية للسداد؛ لأنه إذا أفلس المقترض فالمتضرر هو البنك. لكن ماذا إذا استطاع البنك أن يؤمن على القرض وينقل مخاطر الدين إلى طرف ثالث؟ في هذه الحالة لن يتضرر البنك من إفلاس المقترض؛ لأن الطرف الثالث يتعهد بدفع قيمة القرض كاملاً للبنك في هذه الحالة. وعليه فليس للبنك ما يكفي من الحوافز للتأكد من ملاءة المقترض. ولذلك لم تجد البنوك صعوبة في إقراض الفئات الأقل جدارة (subprime)؛ لأن المخاطر يتحملها غيرهم، غالباً شركات التأمين وصناديق التحوّط. التأمين على القروض شجع البنوك على أن تقرض، ثم تبيع القرض على شكل سندات، مع التأمين على هذه السندات. فمن يشتري هذه السندات يشتري ديوناً مؤمَّناً عليها، ولذلك لا يهمه بدوره هل المقترض قادر على السداد أو لا. وحيث إن القروض مؤمَّن عليها، فلا يهم ملاءة المقترض أو جدارته الائتمانية، بل المهم هو الرسوم التي يحصلها البنك وغيره من المؤسسات المالية من عمليات التمويل والتسنيد وما يتصل بها.
بدون هذا التأمين لم يكن من الممكن لهذه الحلقة المشؤومة أن تتضخم وتستفحل إلى هذا الحد، ولم يكن من الممكن نشوء ما يُسمّى “الأصول السامة” التي كانت بؤرة الخطر في الفقاعة والأساس الهش الذي قامت عليه سندات القروض. لقد أدّت المشتقات إلى تركيز المخاطر بدلاً من تفتيتها، وإخفائها بدلاً من تقليلها.
ولكن ما هي مصلحة شركات التأمين وصناديق التحوط من التأمين على هذه القروض؟
أولاً: الرسوم النقدية التي تحصل عليها، وهي رسوم مغرية إذا كانت المحفظة كبيرة. كما أن حوافز المدراء تعتمد على مقدار الدخل المتحقق، ولذلك كلما زادت الرسوم زادت الحوافز.
ثانياً: طالما كانت أسعار العقار أو الأصول التي يتم تمويلها في ارتفاع، فلن يكون هناك مخاطر تعثر؛ لأن المقترض يستطيع أن يعيد تمويل العقار بقرض جديد، أو يمكن بيع العقار لتسديد الدين والحصول على ربح إضافي. وأسعار العقار في الولايات المتحدة كانت في ارتفاع متواصل منذ 2000م، ولذلك لم يكن هناك ما يدعو للقلق من هذا الجانب. وهذا يبين كيفية نمو فقاعة الرهن العقاري. فالتأمين يشجع على الإقراض، والإقراض يساهم في رفع أسعار العقار، وارتفاع الأسعار يشجع على التأمين على القروض لانخفاض المخاطر، مما يشجع على المزيد من الإقراض، وهكذا. فأصبحت حلقة الإقراض والتأمين يغذي بعضها بعضاً، مما أدى إلى تضاعف حجم الفقاعة، خاصة خلال السنوات 2004 إلى أوائل 2007م، إلى أن انفجرت الفقاعة في صيف 2007م، وبدأ مسلسل الكارثة بالتتابع.
ثالثاً: إن المؤمّن يمكنه بيع المخاطر إلى آخرين، إما مفردة أو مركبة مع مخاطر أخرى، على شكل سندات تحاكي سندات القروض نفسها، ويحصل على رسوم إضافية مقابل ذلك. والمشتري لهذه السندات يمكنه بدوره بيعها، ومن ثم نقل المخاطر إلى آخرين. ولا يزال أعضاء السوق يتدافعون كرة الخطر فيما بينهم، كلٌّ يؤمل أن الكرة لن تنفجر بيده. وكلما كان السوق أكبر واللاعبون فيه أكثر، كلما كان احتمال انفجار كرة الخطر بيد أحدهم أقل، فيكون قبول هذه المخاطر أكبر. ولهذا كان تضخم السوق من مصلحة المجازفين، وهذا ما يفسر تضاعف سوق مخاطر الائتمان أكثر من ثماني مرات خلال السنوات 2004-2007م حتى وصلت إلى (62) تريليون دولار.
أخطر كازينو في العالم
لكن سوق مخاطر الائتمان لم يكن لينمو بهذا الحجم لو كان شراء التأمين يقتصر على البنوك التي قدمت القروض فعلاً. الذي يميز المشتقات الائتمانية أنه يمكن لأي شخص أن يشتري التأمين من أي شخص آخر، حتى لو لم يكن لأي منهما أي علاقة بالقرض المموّل للعقار، فيصبح العقد في الحقيقة رهاناً بين طرفين على ما سوف يحصل لطرف ثالث هو المقترض. فإن أفلس المقترض دفع البائع التعويض للمشتري، دون أن يحصل المقرض أو المقترض على شيء من ذلك أصلاً. وهذا ما جعل المحلل المالي لموقع (السي إن إن) يصف سوق مشتقات الائتمان بأنها “أكبر كازينو في العالم” (حتى المرشح الجهوري جون ماكين اعترف بأن ثقافة الكازينو سيطرت على وول ستريت). لكن هذه السوق تختلف عن الكازينو في جوانب مهمة. منها أن الكازينو يخضع لإشراف ورقابة الجهات الحكومية في الولايات التي تسمح به، بينما لا تخضع أسواق المشتقات لأي إشراف أو تنظيم مباشر من قبل الحكومة الأمريكية.
كما أن الكازينو يختلف عن سوق المشتقات من ناحية أكثر أهمية؛ فكل مجموعة من اللاعبين في الكازينو يراهنون على عجلتهم الخاصة بهم، ولا علاقة لهم بالآخرين. فليس هناك ترابط بين مجموعات اللاعبين المختلفة، لكن في أسواق المشتقات، الجميع مرتبطون ببعضهم، والكل مرتبط في النهاية بالأسواق، خاصة سوق العقار. فأي تدهور في سوق العقار سيؤدي إلى خسارة نسبة كبيرة من اللاعبين.
أضف إلى ذلك أن كل دولار خسارة في سوق العقار يمكن أن يؤدي إلى خسارة عدة أضعاف في سوق المشتقات. فحجم الديون المراهن عليها بلغ (62) تريليون دولار بنهاية 2007م، مع أن حجم الرهن العقاري في الولايات المتحدة بأكمله لا يتجاوز (10) تريليون دولار، في حين يقدر الرهن منخفض الملاءة بنحو (1.3) تريليون دولار. وإذا كانت المشتقات الخاصة بالأصول الأقل ملاءة تبلغ نحو ثلث سوق المشتقات الائتمانية، فهذا يعني أن كل دولار تم إقراضه فعلاً يتم الرهان عليه نحو عشر مرات. ويترتب على ذلك أنه في حالة تعثر المدين، فإن الخسارة لا تقتصر على المقرض الفعلي له، بل تتعداه إلى المجازفين الذين يمكن أن تتجاوز خسارتهم (10) أضعاف الخسارة الفعلية.
الفرق الأهم والأكثر خطورة بين الكازينو وبين سوق المشتقات هو طبيعة اللاعبين. فاللاعبون في الكازينو هم أفراد يقامرون غالباً بأموالهم، أما في سوق المشتقات فهم مؤسسات مالية وبنوك تقامر بأموال المودعين والمستثمرين والمقرضين من المؤسسات المالية الأخرى. فالخسارة ستكون ضرراً على الاقتصاد بأكمله، وليس على المقامرين وحدهم.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن الاقتصاد الأمريكي يئن من وطأة الديون الهائلة المتراكمة عبر السنوات، والتي تتجاوز (30) تريليون دولار من القطاع العام والخاص، وأن أزمة الضمان الاجتماعي وتعويضات المتقاعدين بدأت تلوح في الأفق، ويتوقع أن تبلغ ذروتها في 2012م، فإن حجم الكارثة التي تنتظر الاقتصاد الأمريكي في السنوات القليلة القادمة قد يكون فوق ما نتصور.
أزمة القانون
إن الأزمة الحالية ليست وليدة سوء التصرف والممارسات الخاطئة فحسب، بل مهّد لها وهيّأ لهذه الممارسات بيئة تنظيمية وتشريعية تناسبها. فسوق مشتقات الائتمان كان شبه معدوم في أواخر تسعينيات القرن الماضي، لكنه نما بدرجة غير عادية في مطلع القرن، بعدما أقر الكونجرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون تشريعاً في عام 2000م (Commodity Futures Modernization Act)، يمنع تنظيم وتقييد أسواق المشتقات، بل ويستثنيها من قوانين القمار التي توجد في الولايات المختلفة. ولهذا السبب لا توصف مشتقات الائتمان في العقود والوثائق القانونية بالتأمين (insurance)، مع أنها كذلك في الحقيقة؛ لأنها في هذه الحالة ستخضع لقوانين التأمين، بل توصف بأنها مقايضة (swaps) لتتمتع بحماية هذا التشريع.
وسبق في عام 1999م تشريع آخر (Gramm-Leach-Bliley Act) يسمح للبنوك التجارية بالدخول في سوق الأوراق المالية والسمسرة، والتي كان يمنعها التشريع الذي صدر قبل نحو (70) عاماً (Glass-Steagall Act).
وهكذا مع مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبح الباب مفتوحاً على مصراعيه لأهم المؤسسات المالية وهي البنوك، لتغامر بأخطر الأدوات المالية وهي المشتقات، في أهم الأصول الاقتصادية وهي العقار. النتيجة أنه خلال بضع سنوات فقط شهد العالم أسوأ كارثة مالية خلال (70) عاماً، ولا تزال فصولها لم تنته بعد.
فاعتبروا يا أولي الأبصار
إن جذور الأزمة التي يعاني منها العالم اليوم بدأت في القطاع المالي، وتضخمت من خلاله، ولكن الذي يدفع الثمن في النهاية للأسف هو القطاع الحقيقي وجمهور الناس. فالبداية كانت من التخفيض المصطنع لمعدلات الفائدة في مطلع القرن، الذي شجع على التوسع في الاقتراض دون وجود قيمة مضافة أو نمو في الإنتاجية. النتيجة هي فقاعة في سوق العقار. رافق ذلك مبتكرات المشتقات المالية التي حيّدت مخاطر الإقراض، فلم يعد المقرض يستشعر مسؤولية القرض، ويهتم بقدرة المدين على السداد، فنشأ عن ذلك الممارسات المستنكرة في استدراج العملاء وإغراقهم بالديون.
أي أن الأزمة ابتدأت بالربا، وتطوّرت إلى الميسر، وأصبح يغذي أحدهما الآخر، لتنتهي بالكارثة. فلو لم تكن الأديان السماوية حرمت الربا والميسر لكان في الأزمات المتلاحقة التي تنشأ عنهما ما يكفي العقلاء لمنعهما.
إن مشكلة الربا هي فصل التمويل عن النشاط الإنتاجي الذي يولد القيمة المضافة. فهو يفصل نمو المديونية عن نمو الثروة. ولكن نمو المديونية أسهل بكثير من نمو الثروة؛ إذ لا يتطلب الأمر سوى موافقة الطرفين، الدائن والمدين. لكن نمو الثروة يتطلب، بالإضافة إلى تراضي الطرفين، المهارة والمعرفة والإبداع والإنتاجية. وإذا كان نمو المديونية أسرع من نمو الثروة، فإن خدمة الديون ستنمو بما يجعلها تتجاوز الدخل، لتصبح الديون نزيفاً في النشاط الاقتصادي وعبئاً عليه، بدلاً من أن تكون عاملاً مساعداً في نموه وازدهاره. ونتيجة لانفراط عقد المديونية، يصبح الوضع الاقتصادي هشاً وحساساً لتقلّبات الأسواق والأسعار بدرجة كبيرة. فأدنى هزة يمكن أن تؤدي إلى إخفاق الكثير من المؤسسات والشركات والأفراد الغارقين في المديونية.
أما الميسر والرهان، فالكل يعلم أنها لا تقدم أي قيمة مضافة للنشاط الاقتصادي، وإنما وقع اللبس من التصور بأن تبادل المخاطر يمكن أن يرفع الكفاءة، ومن ثم الإنتاجية. لكن تبادل المخاطر بمعزل عن الملكية يترتب عليه ما يُعرف بالمخاطر الأخلاقية (moral hazard)، التي تجلت بأوضح صورة في التصرفات اللامسؤولة التي أدّت إلى أزمة الرهن العقاري. ففي غياب تحمل مخاطر الملكية تتلاشى المسؤولية، ويتلاشى معها الانضباط الأخلاقي. وبذلك تتحول السوق إلى ساحة للمراهنة والاستغلال.
وإذا تحولت السوق إلى ساحة للرهان، فليس هناك ما يحد من نموها وتضخمها سوى استعداد الأطراف للمجازفة. فكما هو الشأن في الربا، فإن المراهنة لا تتطلب أكثر من اتفاق الطرفين على أن يدفع أحدهما للآخر مبلغاً من المال حين وقوع الخطر مقابل رسوم محددة. فالتكلفة الابتدائية للرهان محدودة، ولذلك لا يوجد ما يعوق توسعه وتضاعفه.
فالنتيجة من الميسر والربا واحدة: وهي تضاعف الالتزامات والمديونيات بعيداً عن الثروة الحقيقية، لينشأ عن ذلك ما يُسمّى الهرم المقلوب، حيث ترتكز جبال شاهقة من الديون على قاعدة ضئيلة من الثروة. ومع تزايد عبء هذه الديون ستعجز قاعدة الثروة عن احتمالها، لتكون الخسارة حين وقوع الخطر أضعافاً مضاعفة.
ولذا كان من كمال الشريعة الإسلامية المنع من الربا والغرر، واعتبارهما أصول المعاملات المحرمة، وتفصيل أحكام ما يؤدي إلى أي منهما، مثل منع بيع الدين ومنع ربح ما لم يضمن، وما عدا ذلك فالأصل الحل. وفي ظل هذه القواعد يمتنع بروز الهرم المقلوب للديون مع الثروة الذي يميز النظام الرأسمالي، بل يصبح الاقتصاد بناء متوازناً مستقراً يتمتع بقاعدة عريضة من الثروة تستند إليها طبقة محدودة من الديون والالتزامات. هذا النموذج يجمع بين الاستقرار وبين الإنتاجية؛ لأن أي توسع في الديون يصحبه توسُّع موازٍ في الثروة. فهو اقتصاد يعتمد مبادئ السوق وفق ضوابط وأصول تشريعية وأخلاقية محكمة توجهه نحو الإبداع والنمو، وليس الاضطراب والانفلات.
مستقبل التمويل الإسلامي
إن الصناعة المالية الإسلامية تملك اليوم فرصة ذهبية لتقديم التمويل الإسلامي بديلاً عن النظام الرأسمالي وعن النظام الاشتراكي معاً. ولكن لكي يتم استغلال هذه الفرصة يجب أن تحرص الصناعة على اعتماد منتجات وأدوات مالية تجسد فلسفة الاقتصاد الإسلامي ومبادئه. أما إذا كانت منتجاتنا مجرد إعادة صياغة للمنتجات التقليدية، لتكون النتيجة في النهاية هي ذات الهرم المقلوب الذي يهدد الرأسمالية، فإننا نكون قد خسرنا مرتين: مرة حين حرمنا العالم من الاقتصاد الإسلامي، ومرة حين وقعنا نحن في مستنقع الرأسمالية، واستدرجنا مجتمعاتنا الإسلامية للغرق في أوحالها.
إن الفرص الذهبية لا تتكرر كثيراً، والمأمول ألاّ تحتاج الصناعة إلى الانتظار (70) عاماً أخرى لتثبت للعالم جدوى الاقتصاد الإسلامي.
المصدر: موقع الفقه الإسلامي – الفقه اليوم
أحدث التعليقات