دور الجهاز المصرفي في حدوث الأزمة المالية الأمريكية
د. طه الفسيل
صحيفة 26 سبتمبر في 28 نوفمبر 2008
التطورات الاقتصادية والمالية خلال النصف الثاني من القرن العشرين.. جعلت الائتمان المصرفي والمشتقات المالية وتعدد أنواعها الاداة الاقتصادية والمالية الأكثر في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين.
وتتمثل المؤسسات المالية في الوقت الحاضر في عدد كبير من البنوك (بنوك تجارية، ادخار) وشركات التأمين بأنواعها المختلفة (تأمين على الحياة، ضد الكوارث)، مؤسسات الإقراض مثل اتحادات الائتمان وكذلك إلى جانب الشركات المالية وبنوك الاستثمار، وشركات التمويل، وصناديق المعاشات وغيرها.
الأدوات المالية: وبصورة عامة تتعامل الأسواق المالية في خمسة من المنتجات المالية وكل نوع يمكن تصنيفه إلى العديد من الأدوات المالية المختلفة، وتتمثل هذه الأدوات فيما يلي:
أ- رأس المالي السهمي (أسهم عادية وأسهم ممتازة وأسهم ضمان).
ب- سندات دخل ثابتة (بعض الأسهم الممتازة، التزامات الدين مثل السندات وأدوات الأسواق النقدية “مثل أذون الخزانة، شهادات الإبداع“).
ج- المشتقات المالية بكافة أنواعها مثل حقوق الخيار المستقبليات وهي العمليات الآجلة محددة الحجم والاستحقاقات وتعرف أيضاً بالعقود المالية المستقبلية، والعقود الآجلة وهي عمليات مالية ومصرفية آجلة غير محددة الحجم والاستحقاقات.
د- النقود ممثلة في العملة والنقد وفي الودائع، حيث يجرى تبادل النقد بين البلدان في سوق الصرف والنقد الأجنبي.
وتعتبر المشتقات أحد الابتكارات والتطورات التي حدثت في سوق الأوراق المالية وقد سميت بهذا الاسم لأنها تشتق من ورقة مالية أصلية مثل تجزئة السندات التي تغطيها الرهون العقارية، فالسند المشتق هو ترتيب تعاقدي يلزم أحد طرفي العقد قانوناً بتحويل الأصول إلى الطرف الثاني خلال فترة العقد المحددة، وقد تكون هذه الأصول مدفوعات نقدية وأصولاً مالية أو سلعاً عينية (مثل المعادن الثمينة والمنتجات الزراعية والسلع الصناعية) وحق الخيار هو كذلك ترتيب تعاقدي لفترة محددة يكتسب خلالها أحد طرفي العقد الحق في الحصول على شيء (عملة أجنبية، سلعة مادية، سهم أو سند) مقابل دفع رسم محدد مسبقاً.الهدف من كل ما سبق القول بأن الأزمة المالية يقصد بها التدهور الحاد في الأسواق المالية لدولة أو مجموعة من الدول، والتي من أبرز سماتها هو فشل النظام المصرفي المحلي في أداء مهامه الرئيسية، الأمر الذي ينعكس بآثاره السلبية في تدهور كبير في أسعار الأسهم والسندات وفي قيمة الأصول العينية وأسعار السلع والخدمات، وبالتالي التأثير سلباً على جوانب الاقتصاد الأخرى مثل العمالة والإنتاج، الأمر الملفت للنظر بأن شهر أكتوبر يمثل التاريخ الذي تحدث فيه الأزمات المالية الكبيرة، فقد بدأت أزمة الكساد العظيم في يوم الثلاثاء الموافق 29 من شهر أكتوبر 1929م، وعرف بيوم الثلاثاء الأسود، وحدثت الأزمة المالية الكبرى في نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي، وذلك يوم الاثنين الموافق 19 أكتوبر 1987م، حينما انهارت بورصة نيويورك للأوراق المالية محققة خسارة قدرها خمسمائة مليار دولار لتعرف بيوم الاثنين الأسود، ومن نيويورك انتقلت الأزمة إلى بقية البورصات العالمية وخاصة بورصتي لندن وطوكيو، وحدثت الأزمة المالية الراهنة يوم الاثنين الموافق السادس من شهر أكتوبر 2008م عندما انخفض مؤشر داو جونز بحوالي 780 نقطة وبخسارة تصل نسبتها إلى 7% تقريباً.وبدون شك فإن الأزمة الراهنة أزمة كبيرة بكل المعايير التاريخية والاقتصادية والسياسية والجغرافية وبكل تداعياتها المختلفة، والتي لن تقتصر على ما حدث من خسائر مالية بلغت في يوم واحد أكثر من تريليون دولار في قيمة الأسهم، وفي الفواتير التي ستتحملها الاقتصاديات المتقدمة للحد من آثار هذه الأزمة ومعالجة تداعياتها، إلى مدى إمكانية انتهاء عصر الليبرالية المتوحشة والليبرالية المستبدة وظهور عصر جديد من الرأسمالية الرشيدة الواعية، رأسمالية الملتزمين لا المستبدين والمحتكرين كما قال الرئيس الفرنسي ساركوزي.
ثانياً: الأسباب والعوامل التي أدت للأزمة (محاولة للفهم)
بداية من الأهمية الإشارة إلى أن فهم هذه الأزمة بصورة موضوعية ومعمقة والخروج بدروس يمكن الاستفادة منها محلياً وعربياً يحتاج إلى دراسة متأنية وبحث عميق من خلال فريق عمل تتوافر له المعلومات والمراجع اللازمة لذلك، وفي محاولة أولية لفهم الأبعاد المختلفة للأزمة الراهنة فإن الأمر يتطلب بالضرورة التركيز على فهم تطورات الأزمة في الولايات المتحدة الأمريكية بكافة أبعادها التاريخية والحضارية والأيديولوجية، والاقتصادية والمؤسسية والسياسية، ثم البعد الجغرافي المتمثل في العولمة.
أ) البعد التاريخي للأزمة في الولايات المتحدة الأمريكية:
في اعتقادي بأن الجذور التاريخية لهذه الأزمة ترجع إلى مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي، عندما أصدر الكونجرس الأمريكي عدداً من القوانين المنظمة للبنوك خلال عامي 1980م، و1982م تم بموجبها إزالة القيود على أسعار الفائدة بصورة كبير، حيث كانت أسعار الفائدة المدفوعة للمودعين من قبل البنوك التجارية قبل هذا التاريخ تخضع للسيطرة المحكمة من قبل الحكومة الأمريكية، بحيث لم يكن يسمح للبنوك على سبيل المثال بدفع فوائد على حسابات الشبكات (الحسابات الجارية)، كما كانت هناك حدود قصوى لأسعار الفائدة على الحسابات الادخارية والودائع المحدودة الأجل.
وقد أصدر الكونجرس الأمريكي هذه القوانين نتيجة ضغوط لوبي المؤسسات المالية والتي قامت بابتكار أنواع جديدة من الأدوات لمواجهة ظروف المنافسة الحادة بينها والتمكن من اجتذاب الأموال من الودائع ذات العائد المنخفض إليها، ساعدها في ذلك ارتفاع أسعار الفائدة في أواخر عقد السبعينات وأوائل عقد الثمانينات من القرن الماضي إلى جانب إلغاء غالبية القيود المفروضة على سعر الفائدة، كانت الحكومة تضمن ودائع البنوك التجارية بمبلغ يصل إلى 100 ألف دولار لكل وديعة لدى المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع والتي أنشئت في عام 1934م عقب أزمة الكساد العظيم.
وفي عام 1999م قام الكونجرس الأمريكي بإلغاء القانون الصادر في عام 1933م، ليزيل بذلك آخر القيود على المؤسسات المالية، ففي ظل هذا القانون تم منع البنوك من بيع الخدمات المالية مثل السمسرة والتأمين، وذلك بهدف حفظ حجم المخاطر على البنوك، وبإلغاء هذا القانون أصبحت البنوك وشركات التأمين والمؤسسات المالية والاستثمارية بما في ذلك صناديق التقاعد تتنافس فيما بينها لتقديم الخدمات المالية وجذب أكبر عدد ممكن من العملاء، وذلك رغم القلق الذي أبداه بعض الاقتصاديين من المخاطر المحتمل حدوثها من قبل البنوك والمؤسسات المالية التي تتمتع بحماية التأمين على الودائع، وذلك عندما تكون هذه المخاطر والمجازفات أكبر من إمكانيات مؤسسات التأمين على الودائع، خاصة وأن كافة المؤسسات المالية قد أصبحت قادرة على المتاجرة في عقود مقايضة الديون، وتوريق الأوراق المالية، وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (11/9/2001م) دخل الاقتصاد الأمريكي في مرحلة من الركود زادت حدته الانهيارات الكبيرة للعديد من الشركات الأمريكية الكبرى مثل شركة أنرون، وشركة زيروكس، وولد كوم، وغيرها إلى جانب انفجار فقاعة الدوت كوم.. ولمعالجة هذا الوضع قام مجلس الاحتياطي الأمريكي الاتحادي بخفض أسعار الفائدة على الأموال الاتحادية والتي تجاوزت 6% في منتصف عام 2000 لتنخفض بصورة مستمرة منذ نهاية هذا العام مقتربة من 1% في نهاية عام 2002م، وفي ظل هذا الوضع أصبح الحصول على القروض والأموال أكثر سهولة، وأصبح بإمكان عدد أكبر من الأشخاص الحصول على الرهون العقارية، بما في ذلك مقترضو الرهون العقارية ذات التصنيف الائتماني المنخفض والتاريخ غير الموثوق، ومع تحويل الرهون العقارية إلى أوراق مالية (سندات) أصبحت التزامات ديون مغطاة بأصول، وهذه السندات أصبحت تباع بدورها للبنوك والشركات والمؤسسات المالية بما في ذلك شركات وول ستريت والصناديق الائتمانية والسيادية خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
واستمرت العملية وتطورت أدوات الرهون العقارية إلى رهون عقارية أكثر احتواءً للمخاطر، بحيث ارتفع حجم مقايضة الديون التي عجز أصحابها عن سدادها إلى 100 مليار دولار في مطلع عام 2000م لتتضاعف بصورة كبيرة بعد ذلك مرتفعة إلى 6.4 تريليون دولار في عام 2004، وبدلاً من العمل على الحد من هذا التنامي الكبير لحجم مقايضة الديون، إلا أن الانتعاش الذي شهدته أسواق العقارات في الولايات المتحدة الأمريكية أدخلت بعض الشركات الأمريكية الكبرى في عمليات تأمين الرهون العقارية الخاصة بالمنازل وكذلك الدخول في تجارة مقايضة الديون، ومن بين هذه الشركات أكبر شركة تأمين في الولايات المتحدة الأمريكية وهي شركة «ايه. آي. جي» بحيث بلغ حجم عمليات مقايضة الديون التي تراكمت عليها عند تدخل الحكومة لانقاذها مبلغ 440 مليار دولار، وفي الوقت الذي استولى فيه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على شركتي التأمين على الرهون العقارية، “فاني ما وفريدي ماك” كانت رهونهما العقارية تصل إلى 4.4 تريليون دولار.
المصدر: http://www.isegs.com/forum/showthread.php?t=2562
أحدث التعليقات