هاورد ديفيز
مجموعة صغيرة من خبراء الرياضيات الأذكياء اخترعوا المشتقات الائتمانية، ومجموعة كبيرة من الأغبياء أساءوا فهمها واستخدامها.
لا بد أن مشاعر متباينة سادت في الأروقة الرخامية لبنك جيه بي مورجان عندما عُلم أن جيليان تيت، محررة أسواق المال في “فاينانشيال تايمز”، تعكف على تأليف كتاب يركز على الدور الذي لعبه فريق المشتقات الائتمانية المبتكرة في تسعينيات القرن الماضي، في نشوء الأزمة المالية.
الأمر ليس متعة صرفة دائماً عندما تكون جيليان تيت هي التي تتناول قضيتك. فهي غرزت مخالبها في السيدة العجوز (بنك إنجلترا) – لأسباب نسيتها بسعادة منذ ذلك الحين – عندما كنت أعمل في بنك إنجلترا في منتصف تسعينيات القرن الماضي. وكان المسؤول الصحافي، وهو رجل يملك منطقاً جيداً فيما يتعلق بالتاريخ، يقدم على نحو كئيب، تقريراً حول كل مرحلة مما سماه “إساءة تيت”، عندما تعرضت مراكز البنك إلى هجوم من اتجاهات غير متوقعة.
بعض أصداء تلك المعارك القديمة ترد في كتاب “ذهب الأغبياء”*. ففي حين تم اقتباس نائب محافظ البنك، بول تكر، بشكل يثير الإعجاب، يوصف المحافظ، ميرفن كينغ، على نحو متباين بأنه “صارم بشكل عنيد” و”عقلاني ومتشائم”. وبطبيعة الحال لا يوجد دفاع ضد “عقلاني”. وفي بريطانيا، الأمر الأكثر فظاظة الذي يمكنك أن تقوله بشأن أي شخص هو أنه ذكي ويقرأ الكتب. لكنني شخصياً مغرم إلى حد ما بطائر البوم، ويبدو لي أن العناد ليس رذيلة دائماً في شخص المصرفي المركزي.
في حقيقة الأمر، لا داعي لأن يقلق جماعة جيه بي مورجان دون مبرر. فعلى النقيض مما يضطرك عنوان الكتاب الفرعي إلى أن تتوقع، إلا أن تيت لطيفة نوعاً ما إزاء شخصيات كتابها المركزية. وتتمثل نظرية “ذهب الأغبياء” في أن مجموعة صغيرة من خبراء الرياضيات الأذكياء في جيه بي مورجان اخترعوا المشتقات الائتمانية، وجميع مخلوقات الأحرف الخطرة – CDO (التزامات الدين المضمونة)، CLO ( التزامات القروض المضمونة)، وأمثالها – التي عرفناها عندما تطورت الأزمة. غير أن هناك أغبياء أكبر آخرين، في بنوك أخرى، أساءوا فهمها واستخدامها.
يبدو أن مخترعي المشتقات الائتمانية أنجزوا كافة عملهم المبدع في سلسلة من الاجتماعات بعيداً عن مواقع العمل، في منتجعات في فلوريدا (أغلقوا هذه الأماكن فوراً)، وأثناء أحداث تأكدت بالنكات المرحة، عندما كان يتم إلقاء المديرين العامين المحبين للمتعة في البركة بواسطة علماء صواريخ ثملين. وكانت تيت ستعشق بشكل واضح لو أنها كانت ذبابة على جدران هذه الأحداث التي تملأ معظمنا بالخوف والكره- في واقع الأمر، في بعض الأحيان، توحي كتاباتها أنها كانت هناك فعلاً. وعلى الأرجح أن “فاينانشيال تايمز” لا تقدم متعة كافية لمراسليها فيما يتعلق بأنشطة الشركة.
تقدمنا تيت إلى الأشخاص الذين جعلوا كل ذلك يحدث، بيل وينترز، وبيتر هانكوك، وبيل ديمشاك، في الولايات المتحدة، وبليث ماسترز، وتيم فروست في لندن. وما زال وينترز وماسترز يعملان لدى البنك، بينما مضى الآخرون. وما زالت ماسترز الكاهنة الكبرى للتوريق المالي، إذ ترأس صناعة الأوراق المالية واتحاد الأسواق المالية في نيويورك، رغم أنها عندما تتحدث علنياً هذه الأيام، حسبما تشير تيت “فهي مختلفة عن المزاج الكئيب لتلك الأوقات، وترتدي بدلة بنية بلون الشوكولا داكنة اللون، بدلاً من مظهرها المعتاد المثقل بالمجوهرات”. ومثل هذه الإشارات اللطيفة غير متاحة للرجال – وهذا ليس عدلاً. يبرز فروست كنوع من ماكافيتي؛ القطة الغامضة، فتراه أحياناً في صورة مخترع ألعاب نارية، وأحياناً أخرى في صورة متداول، ثم يعمل بإبداع على إنقاذ أداة استثمارية مهيكلة، وهو الآن مستشار في إعادة الهيكلة لدى بنك إنجلترا.
كان من المفترض أن تجعل تلك الابتكارات التي انبثقت من العقول الخصبة لهذا الفريق الموهوب، العالم أكثر أمناً، إذ أنهم سمحوا للمخاطر بأن تتجزأ وتوزع على جميع أرجاء العالم، ويحتفظ بها أولئك الأفضل قدرة على حملها. وهذه القصة التي واظبت البنوك على ترويجها كانت مقبولة عموماً من جانب السلطات المالية في ذلك الوقت. وأشار صندوق النقد الدولي في تقريره السنوي لعام 2006، إلى أن “توزيع ونشر مخاطر الائتمان من قبل البنوك على مجموعة أوسع وأكثر تنوعاً من المستثمرين (…) ساعد على جعل قطاع المصرفية والنظام المالي الكلي أكثر مرونة (…) ومن الممكن رؤية المرونة المحسنة في إخفاقات أقل للبنوك”.
لكن، في الأيدي الخاطئة، أثبتت الألعاب النارية هذه أنها متفجرة. وبعد تجزئتها وموازنتها، ضمنتها شركات التأمين ذات التخصص الواحد، وأعطتها “ستاندر آند بورز” و”موديز” تصنيف AAA، وتم تخزينها بعيداً في الأدوات الاستثمارية المهيكلة، وبدت آمنة مثل البيوت تماماً. وكانت بالفعل كذلك، باستثناء أن قيمة البيوت المعنية كانت تنخفض بحدة، وكان ساكنوها المندفعون مقترضين غير مؤهلين. ولم يفهم العديد من المستثمرين، بمن فيهم العمالقة، مثل ميريل، وسيتي، ويو بي إس، المخاطر، وفقدوا قمصانهم (والمشابك الحمراء أيضاً). وبقية القصة تاريخ مألوف لقراء الأعمدة التي تكتبها تيت في “فاينانشيال تايمز”.
أما جيه بي مورجان، السبب الحقيقي في كتاب تيت، فإنه اجتاز الاضطراب دون مساس نسبياً، بقيادة الكابتن ديمون. ولم يثقل كاهل ميزانيته العمومية بشرائح فائقة العلو، كما فعل معظم منافسيه، وكان إلى حد كبير خالياً من الأدوات الاستثمارية المهيكلة. وإذا اقتضى الأمر تصديق شهادة الإدراك المتأخر الخاصة ببيل ويتنرز: “لم أستطع على الإطلاق أن أفهم لماذا اعتقد الجميع أن الأدوات الاستثمارية المهيكلة كانت فكرة جيدة”.
ما اللوم الذي يجب على المصنعين أن يتحملوه إذا وقعت الألعاب النارية في الأيدي الخاطئة؟ تترك تيت السؤال دون إجابة. وتترك مسألة ما إذا كان من الممكن ابتكار بيئة تنظيمية تسمح بالاستخدام الملائم لمثل هذه الابتكارات المعقدة، والحذر في الوقت ذاته من أسوأ مخاطر إساءة البيع وإساءة التطبيق. ولا توجد سوق في يومنا هذا لأدوات سبّاقة أكثر، غير أن التوريق سيعود بكل تأكيد في شكل ما. وبناءً عليه، سيحتاج المنظمون والمصرفيون المركزيون إلى إجابة قبل أن تمضي فترة طويلة.
إن الصحافة الأفضل، حسبما يقولون، هي المسودة الأولى للتاريخ. ولا يوجد أدنى شك في أن تقرير تيت بشأن سوق التوريق يقع في هذا التصنيف. وأعطتها خلفيتها في علم الأنثروبولوجيا بصيرة في الأبعاد الإنسانية (حسناً، إنهم مصرفيون، لكن إذا نقرتهم فإنهم سينزفون دماً) للأزمة، وإضافة العمق لفهمها بشأن الانعطافات الإحصائية لقبب عالم الرياضيات كارل فريدريك غاوس، وهو الأنموذج لتسعير المشتقات الائتمانية. وهذه القراءة الدقيقة لما حدث في زوايا العالم المالي ستكون ذات قيمة عظيمة بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن تقييم أكثر شمولاً للانهيار في السياق اللازم. وتمت كتابة الكتاب على نحو جيد، حسبما توقعنا. والأحكام الأوسع نطاقاً اللاحقة في القصة – حول دور البنوك المركزية والمنظمين – أكثر ارتجالية، حسبما أعتقد. وكما هي الحال مع السلحفاة والأرنب، على البوم أن يلحق القطة الغامضة في يوم ما.
Fool’s Gold: How Unrestrained Greed Corrupted a Dream, Shattered Global Markets and Unleashed a Catastrophe
By Gillian Tett
هاورد ديفيز مدير مدرسة لندن لعلوم الاقتصاد.
نقلا عن الاقتصادية
9/5/1430
أحدث التعليقات